مصر تستمد قوتها من شعبها أم من قيادتها ومؤسساتها

لم ينتبه كثيرون لمغزى حديث الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي عن أهمية التلاحم الوطني ووحدة الشعب في مواجهة التحديات الخارجية، وبدت عبارة “هذا الشعب لم يجد من يحنو عليه”، التي قالها في بداية توليه السلطة منذ نحو ست سنوات ونصف، نوعا من الدعاية وصلت إلى حد تهكم البعض عليها وتحويلها إلى دعابة سياسية.
أعاد السيسي هذا الخطاب بمعنى مغاير في مداخلة هاتفية مع مقدم برنامج الحكاية عمرو أديب على قناة “إم.بي.سي مصر”، مساء السبت، لافتا إلى أن قوة مصر تتحصل عليها من قوة شعبها قبل قيادتها السياسية ومؤسساتها المختلفة، لأن “استهداف الخارج يبدأ من استهداف الشعب”.
يحمل التركيز على صلابة وثبات الشعب معنى يتعلق بأن هذه الحلقة هي رمانة الميزان الحقيقية التي تستحق العناية، يمكن أن تضعف الدولة وتهددها، أو تبعدها عن المخاطر، وعلى المواطنين عدم الوقوع في شراك سياسية أو إعلامية تستهدفهم.
يتزامن هذا الحديث مع قلق سياسي من أن تعيد إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن اهتمامها بالداخل المصري، والضغط على النظام الحاكم في بعض الملفات الشائكة، الممثلة في الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان.
وينطوي أيضا على رسالة تحذير من حملة جديدة ترمي للعزف على وتر بعض الأوجاع الداخلية، وتحاول أن تستخدمها جماعة الإخوان لاستعادة دورها في الشارع.
يفتح كلام السيسي، والمعروف بأنه قليل التواصل مع وسائل الإعلام المحلية، جملة من القضايا الخاصة باستقرار الأوضاع الداخلية في الدول، باعتبارها ركيزة تستند عليها السياسة الخارجية، وليس العكس، ما يفسر عدم التفاعل المصري الكبير مع كثير من التطورات في المنطقة، إلا في حدود تمس الأمن القومي مباشرة، كما هو حاصل في ليبيا، وسد النهضة الإثيوبي، والعلاقة مع السودان، والقضية الفلسطينية.
لاحت بعض الفرص لمصر لتلعب دورا مهما في أزمات إقليمية، وفضلت الانكماش على الاستفادة من السيولة السائدة، واستثمرها آخرون، كأن القاهرة لديها أجندة تمنعها من الاشتباك الخارجي في الوقت الراهن، الأمر الذي أثار انقساما بين نخب سياسية، بعضها رأى ضرورة في التمدد، وبعضها طالب بأهمية ترتيب البيت من الداخل أولا، وعدم السماح بتآكل جدرانه الاقتصادية والاجتماعية.
فرضت خبرة ونتائج ثورة 25 يناير 2011 ضد نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك في مصر، على نظام السيسي مراعاة الحالة المزاجية للشعب، حيث رفع المواطنون في هذه الثورة شعار “عيش – حرية – كرامة إنسانية”، وجرى التراجع عن قرارات اتخذتها الحكومة عندما مسّت أوجاع الناس ووجدت معارضة من قبلهم.
عنصر الحرية لن يتم إسقاطه حتى لو وصلت مصر إلى الرفاهية المنشودة ويتوقف حجم التفاعل على اختيار التوقيت المناسب، فالبرامج الاجتماعية والاقتصادية لن تغني عن الحاجة إلى إصلاحات سياسية جادة
توصلت أجهزة الدولة والمواطنون إلى تفاهمات ضمنية حول المسموح والمرفوض، فالمهم ألا يتمادى أحدهما في المساس بثوابت الآخر، فالأولى تسعى لتوفير الحد الأدنى من المعيشة، والطرف الثاني، المواطنون، لا ينخرطون في مظاهرات أو احتجاجات تؤدي بهم إلى مصير قاتم كما حدث في دول مجاورة، أو تهدد نظام الحكم، الذي اتخذ حزمة من الإجراءات الخشنة لمنع تكرار ما حدث في ثورة يناير.
سعت أجهزة مصرية مختلفة لرفع شأن البند الثالث، في ما يمكن وصفه بـ”مانيفستو” ثورة يناير، وهو الكرامة الإنسانية، وحاولت التأكيد بأنه يحتل أولوية في تصورات الدولة، الأمر الذي كانت تظهر تجلياته من حين لآخر في التجاوب مع كثير من الحالات التي تمس كرامة مواطنين في مصر وخارجها.
مثّل التفاعل السريع مع بعض الحالات رسالة توحي بأن نظام الحاكم يراعي بند الكرامة، ولن يقبل المساس بأحد، أملا في تغيير انطباعات سلبية سائدة تشير إلى أن المرحلة التي تمر بها البلاد لا تختلف كثيرا عن مرحلة الرئيس مبارك التي أهدر فيها العيش والحرية والكرامة الإنسانية، وكان من الطبيعي أن يتمخض الغضب المتراكم عن ثورة تطيح بنظامه.
ينزع السيسي لغمَي العيش والكرامة تدريجيا، ما يجعله يسابق الزمن في المشروعات التنموية، ويبدي اهتماما بتخفيف الأعباء عن كاهل البسطاء عبر برامج اجتماعية حمائية ليشعر الناس بأن هناك حاضرا ومستقبلا واعدين، بالتالي التخلص من سخونة مكتومة داخل كتلة بشرية تعد مدخلا لأي تغيير ثوري أو عشوائي في نظام الحكم، حيث اعترف السيسي بأن “حالة الثورة التي بدأت في 2011 لا تزال موجودة”.
تأتي قضية الحرية في مرتبة متأخرة ضمن أولويات النظام المصري، ويراها بعض المسؤولين من الرفاهيات وليست من الضروريات، وإذا تمكنت الدولة من توفير العيش والكرامة، أو على الأقل الحد من تقلباتهما المجتمعية، تتراجع تلقائيا المطالبة بالحرية والإصلاحات السياسية، ويستطيع النظام ممارسة دوره بصلابة ودون إزعاج.
تبدو هذه النتيجة منطقية لو أن الدولة، أي دولة، تعيش في جزيرة منعزلة، بمجرد توفير عناصر العيش والكرامة لن تكون هناك حاجة للحرية ولوازمها ومظاهرها، أو اعتادت على ذلك، لكن على العكس مصر عاشت مراحل سابقة من الحريات وعرفت أهميتها، والآن هي منفتحة على جميع أنواع التكنولوجيا، ما يسهل الاحتكاك بين الشباب الذين يمثلون نحو نصف عدد السكان، ولدى شريحة كبيرة منهم نهم لممارسة الحرية بطقوسها، المرغوبة والممنوعة، السياسية والاجتماعية، المؤيدة والمعارضة.
تؤكد هذه المحددات أن عنصر الحرية لن يتم إسقاطه بأي مغريات من حسابات هذه الشريحة، حتى لو وصلت مصر أو غيرها إلى الرفاهية المنشودة، ويتوقف حجم التفاعل على اختيار التوقيت المناسب، فالبرامج الاجتماعية والمشروعات الاقتصادية لن تغني في النهاية عن الحاجة إلى إصلاحات سياسية جادة.
تمثل هذه المسألة تحديا كبيرا للنظام المصري، حيث نجح السيسي في تثبيت صورة الزعيم الذي يبني ويعمر في طول البلاد وعرضها، وأضفى على الجيش المصري هالة عسكرية كبيرة في المنطقة، ونسج شبكة جيدة من العلاقات الخارجية، لكن مصر تحتاج لأن تقدم مشروعا متوازنا يقود إلى إطلاق الحريات العامة.
قبلت أم رفضت القاهرة الضغوط التي يمكن أن تمارس عليها من واشنطن، ستجد نفسها أمام اختبار في هذا الملف، فموسكو تواجه صعوبات جراء سجن المعارض أليكسي نافالني، وثمة دعوات غربية بعدم التعامل بقسوة مع المتظاهرين في أنحاء روسيا والتهديد بعقوبات، ولن يجدي رفض هذا الأسلوب في وقف الابتزاز السياسي، وربما تكون موسكو مضطرة للدخول في مساومات بسبب ما يشهده ملف الحريات.
على القيادة المصرية استثمار قوة الشعب ووقوفه خلفها وتحمله بجسارة متاعب الإصلاحات الاقتصادية للعمل بالتوازي على تنفيذ أضلاع مثلث “عيش – حرية – كرامة إنسانية”، لأن صياغته اختصرت الكثير من المسافات، وإسقاط أو تأجيل ضلع يقلل من أهمية الضلعين الباقيين ويفقدهما المفعول المرجو.