مصريون لا يخافون كورونا بقدر خوفهم على خبزهم

يخاف الفقراء الأمراض والأوبئة، لكنهم يخافون أيضا البطالة والجوع، فالمصريون العاملون مع الشركات الصينية في مصر يختارون العمل حتى مع أنباء عن إمكانية انتشار فايروس كورونا في صفوف الصينيين، لأنهم ببساطة إذا اختاروا حماية أنفسهم من الإصابة بهذا الوباء السريع الانتشار فهم يعرضون أنفسهم للبطالة وحرمان عائلاتهم من دخل كان يؤمن لهم قوتهم اليومي فما كان منهم إلا أن حولوا فايروس كورونا إلى مزحة يخفون بها تخوفاتهم.
القاهرة - في غضون أسابيع قليلة تبدل الفخر لدى الكثير من العمال المصريين العاملين في الشركات الصينية المستقرة في مصر بأنهم جزء من النمر الأسيوي الضخم إلى خجل، يتجنبون إثارة الحديث حوله درءا للقلق الذي سيحل في أي جلسة، إذا ذكروا تعاملهم المباشر مع الصينيين بعد انتشار أخبار فايروس كورونا.
رغم ذلك يبقى الإقبال على خطوة كترك العمل أو اتخاذ تدابير احترازية وعناية فائقة بأنفسهم غير واردة، ففئة العمال الأقل ثقافة ودخلا والمنحدرة من مناطق تبعد مئات الكيلومترات، تأتي لقمة الخبز في اهتماماتهم قبل الصحة أحيانا، وربما دائما لدى الفئة الأشد فقرا.
أثار نبأ عودة أحد مديري مصانع الغرانيت والرخام الصينية في منطقة “شق التعبان” (الثعبان) بشرق القاهرة، من بلاده بعد قضاء إجازة عيد الربيع، القلق داخل المنطقة الصناعية، وانتقل النبأ دون تأكيدات حول جديته أو زيفه من مصنع إلى آخر حتى وصل إلى الشابة المصرية إسراء وهي تعمل مترجمة ومحاسبة في مصنع جنا على بعد نحو 2 كيلومتر.
تواصلت الشابة مع زملائها وأقنعتهم بضرورة أخذ الحيطة اللازمة، تقول لـ “العرب”، “حتى إذا كان مرور وافد من المطار يستوجب فحوصات أولية، لا يمنع ذلك من احتمال أن يتسرب الفايروس القاتل والذي تبلغ مدة حضانته نحو أسبوعين حتى تظهر أعراضه”.
جاءت إسراء إلى الموقع في اليوم التالي بصحبة المطهرات وأقنعة الوجه، وطلبت من إدارة الشركة إحضار أقنعة للعمال، “هم لن يفكروا أبدا في حماية أنفسهم بأقنعة ضد شبح محتمل لكورونا، نحن نعاني معهميوميا ونلح كي يرتدوا ملابس الأمان خلال عملهم الذي يجعلهم معرضين للخطر دائما”.
يعكس تعاطي هؤلاء العمال مع أزمة صحية عالمية، مدى ديناميكيتهم، فعلى الرغم من كونهم الأكثر قابلية لتصديق الشائعات والأقل قدرة على تدقيقها، والأكثر ميلا إلى نسج الخرافات والقصص، ما يجعل ردهم المتوقع هو فزع مضاعف من فايروس تقول منظمة الصحة العالمية إنها متفائلة حول القدرة على تحجيمه، غير أن رد فعلهم كان الأقل فزعا، ولاذوا بالسخرية والتجاهل.
البحث عن حياة أفضل
تكررت تلك الملاحظة في مصانع “شق التعبان” أو في مقر عمل شركة المقاولات الصينية في العاصمة الإدارية الجديدة، وتفسرها الحاجة المادية الشديدة لدى تلك الطبقة، والغالبية منهم لا يتعدى مستواهم الشهادة المتوسطة، وبعضهم أُمي، ممن يتركون قراهم المتفرقة ويقطعون مئات الكيلومترات بحثا عن قوت اليوم.
يعمل أغلب العمال في تلك المصانع وغيرها بالأجرة اليومية، أي يحصل العامل أجرة بناء على ما أنجزه في اليوم، ويعيش البعض منهم على الكفاف وينام في الموقع أو حجرة صغيرة بصحبة آخرين كي يدخر راتبه لأسرته الكبيرة عادة.
يعد العمل لدى الشركات الصينية ميزة لا يفكر العامل في تركها جراء خوف أو قلق، نظرا للمقابل الكبير نسبيا بالنسبة إليه، حيث يتجاوز راتب أقل عامل 120 جنيها يوميا (نحو 7 دولارات)، ويرتفع الأجر كلما ازداد المجهود المطلوب للعمل وارتفعت مخاطره.
يجعل هذا العائد أقل عامل فيهم في محاذاة خط الفقر العالمي، إذ ينفق كل منهم على 4 أو 5 أشخاص آخرين، ما يجعل نصيب الفرد قرابة 1.5 دولار يوميا، وبعضهم يتجاوزه، علما أن ذلك العائد يمثل ضعف ما قد يتم الحصول عليه في مصانع أخرى. بالنظر إلى تلك الميزة، تترسخ قناعة هذه الفئة حول العناية بالصحة أو الخوف من الأوبئة رفاهية غير متاحة، فهؤلاء العمال يعلمون أنهم يصافحون الموت كل يوم، في وجه آلة أو جسر خشبي قد يُكسر وهو يحملهم على ارتفاعات عالية أو جراء مرض ليس لديهم الكُلفة لعلاجه، لذا لا يعد الوباء مفزعا عندهم.
وقال مهندس في الشركة الصينية بالقاهرة، رفض ذكر أسمه لـ”العرب”، “من هم في حالة هؤلاء العمال قد لا يجدون مشكلة في الموت بكورونا، وقد تحصل عائلاتهم على تعويض من جهة ما، وستتناقل وسائل الإعلام أخبارهم”.
ألقى ربيع (30 عاما) وهو عامل في منطقة “شق التعبان” مزحة على “العرب”، ضمن مزحات كثيرة تتردد على ألسنة العمال داخل الموقع، “يعني يوم ما أموت بفايروس يبقى صيني مش أصلي”، حيث يطلق المصريون على الأشياء الزائفة لفظ صيني، نسبة إلى بعض البضائع الرديئة المنتشرة في بلادهم، وتعد المزحة مؤشرا إضافيا على اللامبالاة.
العمل لدى الشركات الصينية ميزة لا يفكر العامل في تركها جراء خوف أو قلق نظرا لأجره الكبير نسبيا
وأضاف ربيع، “نحن نترك الأمور على الله، من يعملون معنا من الصينيين موجودون منذ فترة، وسمعنا أن الخطر فقط يأتي به من ذهب إلى بلاده وعاد، لدينا مدير سافر ولم يعد حتى الآن، وحتى إذا فعل لا نعتقد أن الأمر سيتغير”.
وحول تفكيره في ارتداء قناع للوجه، قال، “إذا أعطوا لنا أقنعة سنرتديها، لكن إن لم يعطونا فما باليد حيلة، لا أستطيع أن أنفق على أسرتي وعلى الكمامات”.
يعود ربيع إلى أسرته 3 أيام فقط في الأسبوع، فيما يعمل لمدة 4 أيام متواصلة داخل الموقع، وهو يقطن في إحدى قرى محافظة الجيزة بجنوب القاهرة.
مع تزايد الحديث حول الفايروس في موقع الشركة الصينية بالعاصمة، بعد أنباء عن عودة مديرين من إجازة عيد الربيع في فبراير الجاري، وزعت الشركة أقنعة على العمال.
في غضون ساعة كان الموقع كله “ملثما” يختبر معظم عماله من المصريين ارتداء ذلك القناع للمرة الأولى، على عكس الصينيين الذين يرتدونه دائما تجنبا للأتربة. في اليوم التالي، سأل العمال المشرف في الموقع عن الأقنعة بعدما هلكت الأولى، وخاب أملهم عندما أخبرتهم الشركة، أن عليهم الحصول عليها من نفقتهم، تجاهلوا الأمر برمته، ثم انهمكوا في العمل وكأن شيئا لم يحدث.
عندما نشر صاحب محل بيع لوازم العمل في موقع قريب منهم إشاعة حضور شخص من الصين مصاب بالفايروس، كي يحقق رواجا في بيع الأقنعة، لم يلتفت سوى الصينيين ممن أقبلوا على شراء كميات منها، أما العمال المصريون فاستمروا في تجاهل الأمر لادخار أكثر ما يستطيعون من أجرتهم.
حاولت “العرب” التحدث إلى بعض العمال ممن يعملون لدى مقر الشركة، لكنهم أبدوا تخوفا من خسران وظائفهم جراء الإدلاء بتصريحات قد تكون غير مرغوب فيها، واحد فقط استجاب بشرط عدم ذكر اسمه، قال إنهم عادة ما يشعرون بالتأفف من الصينيين لاختلاف الثقافة خصوصا في ما يتعلق بالطعام، وذلك ما يجعل العلاقات بينهم مقتصرة على العمل، مضيفا “الأوضاع مستقرة ولا شيء يدفع إلى التفكير في ترك العمل”.
أجواء ودية
تتولى شركة صينية بالتعاون مع الحكومة المصرية تدشين حي المال والأعمال وهو أحد أضخم أحياء العاصمة الإدارية بشرق القاهرة.
وتتجاوز الحالة الإنسانية مستلزمات العمل داخل منطقة “شق التعبان” التي تتنافس فيها الشركات الصينية مع المستثمرين ممن يستأجرون شركات مصرية على نحو لافت ومتزايد.
تظهر الأجواء الودية في التعامل بين العمال المصريين ونظرائهم الصينيين في المصانع، فيتبادلون الطرائف والضحكات حتى حول الفايروس، غير أن بعض العمال لا يستطيعون استيعاب أن المرض لا يصيب الصينيين لجنسيتهم، فيتعاملون مع كل صيني كحامل محتمل للفايروس.
أحد هؤلاء سائق يعمل في نقل الغرانيت والرخام لدى المصنع، التقى بمحاسب صيني أربعيني يعمل في الموقع منذ سنوات، وكانت الأنباء قد وصلت إلى سمع السائق حول الخطر المحتمل إذا عاد المديرون الصينيون إلى مواقعهم، وأخذ يفرغ شحنات قلقه وغضبه على الأربعيني عبر إشارات حول قناع الوجه، وترديد اسم الفايروس “كورونا”.
ورغم أن المحاسب الصيني لا يتقن العربية، غير أنه فهم قصد السائق وشعر بالضيق والتحسس من الأمر، وسألناه عبر المترجمة إسراء عن إقامته في مصر فقال، إنه هنا منذ فترة وسعيد بالإقامة، وحينما حاولنا استيضاح طريقة معاملة العمال له بعد فايروس كورونا رفضت إسراء ترجمة السؤال وقصت علينا موقف السائق صباح اليوم ذاته، قائلة، “لا أريد أن أضغط عليه نفسيا أكثر”.
ولا يعبر موقف السائق عن السائد داخل موقع العمل، إذ يغلب التآخي والود حتى أن العمال المصريين أطلقوا اسم “أشرف” على زميلهم الصيني كاسم شهرة يستطيعون نطقه، ويدخلون معه في ممازحات دائما غالبيتها عبر الإشارة، وتمكنوا بالتعامل على مدار سنوات من تعلم بعض الكلمات الصينية.
يقول العامل الصيني أشرف، لـ”العرب”، إن التعامل معه جيد للغاية، فهو مستقر في مصر منذ فترة طويلة، ومتزوج من زميلة صينية في الموقع نفسه ولديه ابن.
يتدخل العمال المصريون عند سؤالنا له عن أسرته في الصين فيردون نيابة عنه بتأثر، قبل حتى أن تتم ترجمة العبارة، “لا يستطيع التواصل معهم سوى عبر الهاتف، القلق على العائلة ينتاب كل زملائنا الصينيين”.
ورغم أن أغلب العمال المصريين في الموقع فقراء، فهم يشعرون بشفقة مضاعفة جراء زملائهم الصينيين ممن اضطرهم الفقر إلى الانتقال من قارة إلى أخرى للحصول على الرزق.
يقول محمد جمال، وهو مسؤول مبيعات، “في الصين قرى فقيرة جدا، يأتي أصحاب المصانع بالعمالة منها، بالنسبة إليهم تكون القاهرة مثل الخليج بالنسبة إلى المصريين”.
في مصنع يثرب للرخام، تستمر نفس الروح المرحة في التعامل بين المصريين والصينيين، يشير شاب ثلاثيني، وهو مسؤول عن المبيعات والترجمة، إلى أن العمال يخشون من إصابة مفاجئة قد تلزمهم الفراش دون التأمين عليهم من قبل أرباب العمل أكثر من خوفهم من كورونا.
وأضاف، “الأمر في الموقع لا يتعدى المزاح، ويشمل المصريين والصينيين دون تفرقة، فقبل أيام أصبت بنزلة برد وارتفعت درجة حرارتي. ظل العمال يقولون لي هل هذه كورونا؟ ويضحكون”.
وطبع الاستثمار الصيني منطقة “شق التعبان” والتي سميت بهذا الاسم لكثرة مداخلها ومخارجها، بطابع صيني، وبات من الطبيعي أن ترى سيدة صينية ترتدي ملابس منزلية وتتجول في أحد المصانع، أو رؤية مصري وصيني مكممين في توك توك واحد، أو اسم مصنع مدون بالعربية وأسفله بالرموز الصينية.
توجد عشرات المصانع الصينية في المنطقة، التي يعتبرها البعض لا تستفيد منها العمالة المصرية، بعدما حلت الآلة محل العنصر البشري في الكثير من مراحل الإنتاج، فيما يراها آخرون سببا في تطوير الصناعة وربطها بالمواصفات والمنافسة العالمية.
تعج المنطقة بالعمال منذ السادسة صباحا، وبحلول الثالثة عصرا يبدأون في الرحيل، ترى الغبار الأبيض يغطي ملامح وملابس الجميع، حتى تكاد تعجز عن التفرقة بين المصري والصيني، وحين يسدل الظلام على الموقع ستاره، يجتمع العمال ممن يبيتون فيه حول شعلة نار طلبا للدفء، وهم يتناولون أكواب الشاي، ويتشاركون في حديث قد لا تفهم جل ألفاظه.