مشروع ميناء الفاو العراقي يراوغ حسابات إيران وميليشياتها

معركة إسناد مشروع ميناء الفاو الكبير لم تخرج عن سياق صراع النفوذ الشرس الجاري في العراق، فالصين دخلت هذه المرّة طرفا فيه عبر مساعيها المدعومة من إيران للحصول على امتياز إنشاء المشروع الضخم، ليتمّ تسجيل سابقة تحسب لحكومة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، التي تجاهلت الضغوط الداخلية والخارجية وراعت مقياس الجودة والنجاعة في إسناد المشروع بعيدا عن المجاملات والمكافآت السياسية المعهودة في إسناد مشاريع الدولة وصفقاتها.
البصرة (العراق) – بدأ المشروع العراقي الضخم لإنشاء ميناء جديد على المنفذ الوحيد على مياه الخليج، يسلك طريقه نحو الإنجاز بعيدا عن الحسابات الإيرانية التي كانت تقتضي أن يتمّ إسناد المشروع للحليفة الصين التي تمثّل أبرز متنفّس لطهران من العقوبات الأميركية الأشدّ المفروضة عليها، ويبدو أنّها سعت لذلك في إطار التخادم مع بيكين، لكنّ الحكومة العراقية تمكنت من الصمود في وجه الضغوط التي سلّطت عليها من قبل الميليشيات الموالية لإيران، وقامت بإسناد المشروع لشركة كورية وفقا لما تقتضيه المصلحة، وما يستوجبه الإنجاز من معايير الكفاءة والنجاعة والآجال المحدّدة سلفا.
ووجهت كوريا الجنوبية ضربة كبيرة للصين، عندما أكدت استحواذها على عقد إنشاء ميناء الفاو في العراق، بكلفة أكثر من 2.5 مليار دولار أميركي بعد صراع استمر أسابيع، تخلله دفع رشاوى وتهديدات، فيما يقول مراقبون إن المعسكر المدعوم من الغرب سجل هدفا حاسما في مرمى المعسكر الشرقي في توقيت قد يكون ذهبيا.
ويحاول العراق منذ أعوام تعزيز إطلالته الباهتة على الخليج العربي بميناء يستجيب لمتطلبات ملاحية عالية، إذ استقر قرار الفنيين على إنشائه في شبه جزيرة الفاو ذات الموقع المميز، لكن المفاوضات مع الشركات المنفذة تعثرت أكثر من مرة.
ويمتلك العراق أربعة موانئ تجارية وصناعية تطل على الخليج العربي، هي أم قصر وخور الزبير والمعقل وأبوفلوس، ويتم عبر هذه الموانئ تصدير نحو 80 في المئة من النفط الذي تنتجه البلاد. لكنّ جميع تلك الموانئ الصغيرة لا تلبي حاجة البلاد في إطلالة على الخليج العربي تتناسب وإمكانيات البلاد.
وفي أبريل 2010 وضع العراق حجر الأساس للمرحلة الأولى من الميناء، الذي تطور مخططه التنفيذي ليحتل مساحة 54 كيلومترا مربعا عند مصب شط العرب في الخليج العربي، في الجهة الجنوبية من محافظة البصرة الغنية بالنفط.
ويعتقد الكثير من خبراء الملاحة والاقتصاد أن ميناء الفاو سيمثل نقلة اقتصادية كبرى في العراق والمنطقة، إذا نجح في تنفيذ مهمته المخططة له، وهي الربط بين أوروبا وبلدان آسيوية كبيرة.
وباشرت شركات أجنبية عديدة، من بينها كوريا الجنوبية في أعمال تشييد الميناء فعليا، بعد قرابة أربعة أعوام من وضع حجر الأساس له، لتنتهي بعد أربعة أعوام أخرى من تنفيذ كاسر أمواج عملاق، دخل موسوعة غينيس للأرقام القياسية، بسبب طوله البالغ نحو 14.5 كيلومتر.
إيران وراء طرح الصين كشريك اقتصادي للعراق أملا في تقليص مساحة تأثير الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين في البلد
لكن العمل عاد وتوقف في الميناء بسبب الأزمة المالية التي تعرضت لها البلاد بالتزامن مع جائحة كورونا وانخفاض أسعار النفط.
ولم يكن القدر رحيما بهذا المشروع أبدا، ففي أكتوبر الماضي وُجد رئيس شركة دايو المنفذة لأعمال مشروع ميناء الفاو منتحرا في محل سكنه بالبصرة، ما أثار عاصفة من الجدل بشأن الدوافع والأسباب، ودور الميليشيات الموالية لإيران في هذا الملف.
واستمر التجاذب بين أطراف عدة بشأن مشروع الفاو، حتى أعلنت بغداد عن وجود خلاف حقيقي مع شركة دايو بشأن أعماق الحفر في الميناء وكلفتها المالية.
وفجأة، قفزت إلى الواجهة، خلال الأسبوعين الماضيين، شركة صينية متخصصة في أعمال نصب المحولات الكهربائية، بوصفها منافسا للشركة الكورية على عقد ميناء الفاو.
وقالت مصادر حكومية عديدة إن إيران مارست ضغوطا كبيرة على رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي لمنح الشركة الصينية عقد ميناء الفاو، لكنه جابه هذه الضغوط بصلابة.
كما وجهت الميليشيات الشيعية التابعة لإيران تهديدات لجهات عراقية على صلة بعقد ميناء الفاو، بهدف التخلي عن الشركة الكورية.
ووصلت الصين مستوى غريبا من التصرفات للحصول على العقد، بلغ حد تحرك سفيرها في بغداد لعرض رشاوى على مسؤولين حكوميين بهدف الضغط على الكاظمي من أجل الحصول على عقد ميناء الفاو، لكن الأخير لم يرضخ وأصر على استكمال الشركة الكورية عمليات الإنشاء.
وكثيرا ما كان اسم الصين يطرح في العراق كشريك اقتصادي بديل عن الولايات المتّحدة قادر على مساعدة البلد على الخروج من أزمته الاقتصادية والمالية المستفحلة ومن تعثّر التنمية فيه وتوقّف إعمار المناطق المدمّرة خلال الحرب على تنظيم داعش حيث لم يساعد الفشل والفساد الحكوميين على جلب رؤوس الأموال الخارجية للمشاركة في عملية إعادة الإعمار تلك.
لكنّ الواضح أنّ إيران كانت تقف وراء ذلك الطرح أملا في تقليص مساحة تأثير الولايات المتّحدة وحلفائها الغربيين في العراق.
وبعد زيارة قام بها رئيس الوزراء العراقي السابق عادل عبدالمهدي إلى الصين في شهر سبتمبر 2019، تحدّثت وسائل إعلام تابعة للأحزاب والميليشيات الشيعية في العراق عن مشاريع تعاون اقتصادي وتنموي بالمليارات من شأنها أن “تغير وجه العراق بالكامل”، لكن التفاصيل ظلت غائبة ما جعل مطّلعين على الشأن العراقي يتحدّثون عن عملية تضخيم ومبالغة لأهداف دعائية خالصة تتعلق بالصراع الإيراني الأميركي على النفوذ.
وكانت الزيارة المذكورة قد سبقت بفترة وجيزة اندلاع أعتى انتفاضة ضدّ النظام العراقي الذي قام بعد سنة 2003 وأفضت لاحقا إلى سقوط حكومة عبدالمهدي، ما جعل الإعلام الحزبي والميليشياوي نفسه يروّج لمؤامرة أميركية حيكت ضدّ عبدالمهدي لقطع مشروع التعاون الكبير الذي خطط له الرجل وكان سيتمّ على حساب العلاقات بين واشنطن وبغداد، وفقا لذلك الإعلام نفسه.
ومنتصف الأسبوع الماضي، أعلنت الشركة العامة للموانئ العراقية استبعاد الشركة الصينية من المنافسة واختيار شركة دايو الكورية لتنفيذ ميناء الفاو.
وقال مدير عام الموانئ فرحان الفرطوسي إن “شركة دايو الكورية هي التي وقع عليها الاختيار لتنفيذ مشروع ميناء الفاو الكبير”، مشيرا إلى أن “الشروع بتنفيذ العمل من قبل شركة دايو الكورية سيتم بعد الإقرار داخل مجلس الوزراء خلال جلسته المقبلة”.
وتقول النائبة في لجنة النزاهة بالبرلمان العراقي عالية نصيف إن الشركة الصينية من ضمن الشركات المتهمة بالفساد بسبب عقود سابقة في العراق، مؤكدة أن “الشركة الصينية متخصصة بمحولات الكهرباء وليس ببناء الموانئ”.
وتابعت أن “ميناء الفاو سيرفد البلاد بـ200 مليار دولار ويوفر مليون فرصة عمل”، موضحة أن “العقد الكوري يبلغ 2 مليار و625 مليون دولار مع تقديم امتيازات”، مثل مجمعات سكنية للموظفين في الميناء ومحطات تحلية مياه لخدمة مدينة البصرة ومحطة توليد كهرباء.
وقال رئيس لجنة الخدمات النيابية في البرلمان وليد السهلاني إن “ميناء الفاو من المشاريع الاستراتيجية التي تسعى جميع الحكومات المتعاقبة لإنجازه، ويعد نقلة نوعية للاقتصاد العراقي”، موضحا أن الاتفاق مع الشركة الكورية “يقضي بدخول الميناء طور العمل بعد 45 شهرا”.