مشروع إماراتي - تونسي ينعش ذاكرة تونس ودار ابن خلدون

المباني القديمة ذاكرة حية وشواهد على الحضارة، ولذلك تعتبر حمايتها وصونها للأجيال القادمة أولوية الدول، ولكن الكثير منها يواجه صعوبات في الترميم والمحافظة عليه وصونه. وفي هذا الإطار تأتي الشراكات الدولية على غرار الشراكة الأخيرة بين تونس والإمارات لترميم دار ابن خلدون.
المتجول في أزقة وممرات مدينة تونس، سواء القديمة التي يعود معظمها إلى القرنين الثاني عشر والثالث عشر أو الحديثة التي تنتمي إلى العهد الكولونيالي أواخر القرن 19، يقف مذهولا ومتألما في ذات الوقت.
الاندهاش يبدأ من هذا الكم الهائل من المعالم الأثرية والدور والمقرات الأخاذة برونق معمارها وشهرة من كان يسكنها من الأعلام أو يمارس فيها نشاطا ثقافيا أو سياسيا أو تجاريا، أما الأسى والحسرة فيتمثلان في كم الإهمال الذي لحق بهذه النفائس والكنوز، خصوصا تلك التي لم يتم إلحاقها بقوائم التراث العالمي، ووقع نسيانها في غفلة من الزمن.
مشاريع الترميم
أسباب عديدة تقف خلف هذه الذاكرة المنسية والمهترئة، منها ما يتعلق بعدم الاهتمام وسوء التقدير من طرف الجهات المسؤولة، ومنها ما يرتبط بضعف الإمكانيات والنزاعات العقارية، وكذلك فتور الحماسة والاهتمام وسط الانشغال بأمور حياتية راهنة.
محافظة المدينة تتذرع في هذا الجانب بأن التدخلات التي يجب أن تقوم بها تفوق عشرات المرات الإمكانيات المتوفرة كاليد العاملة، والمعدات إلى جانب الاعتمادات المالية، مشيرًة إلى أن عملية الترميم مكلفة جدًا، ومبيّنة أن اليد العاملة يجب أن تكون مختصة وكذلك مواد الترميم باهظة الكلفة.
أضف إلى الملف الفني والتقني، الاعتداءات المقصودة من طرف بعض المتشددين أيام حالات الانفلات التي أعقبت انتفاضة 2011 أثناء حكم الترويكا التي غضت البصر عن مثل هذه الأفعال التخريبية باعتبار أن المسؤولين من الإسلاميين آنذاك لا تهمّهم المعالم “التي لا تعنيهم”، وهو أمر طبيعي لدى من يرون في الثقافة آخر اهتماماتهم.
كم لا يحصى ولا يعد من المعالم والكنوز الأثرية التي تحتضنها أسوار مدينة تونس العتيقة، وكذلك شوارع وجادات المدينة الحديثة التي بناها وسكنها الفرنسيون والإيطاليون والمالطيون في حي لافاييت، على سبيل المثال لا الحصر، والذي يعكس النسيج الثقافي والاجتماعي لتونس، وخرجت من بناياته ذات الطابع الغربي أسماء شهيرة في عوالم الفن والسياسة.
مبادرات الترميم تعد إنجازا جبارا في صيانة التراث المادي والفكري وتحفظ للأجيال ذاكرتها من التلف والتلاشي
لكن أمرا خطيرا يتهدد هذا الحي العريق والأنيق، وهو أن أطرافا في وزارة التجهيز المعنية بالمشاريع والمنشآت المدنية في تونس، قدمت مشروع قانون متعلق بالبنايات الآيلة للسقوط لا زال في أدراج البرلمان المنحل، وينص على إمكانية تدخل المجالس البلدية لهدم البنايات الآيلة للسقوط طبقًا لدراسة من طرف “فنيين” لا يفقهون شيئا في قيمة تلك البنايات التاريخية، بدل أن يكون المختصون في التراث هم المعنيون بتقييم هذه البنايات وإعطاء الحلول التي تضمن بقاءها كشواهد على تاريخ البلاد القديم والحديث.
وما أنجزته الجمعيات المتخصصة يعد قليلا بالنظر إلى المعالم التي هي على قائمة الانتظار، لكن ما أنجزته يعد إنجازا مهما مثل مشروع ترميم وإحياء جامع الزيتونة، وسوقي القماش والعطارين المحاذيين، وذلك بتمويل من الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، وهو مشروع أعاد لهذا المعلم جزءا من زخارفه التي طمست بفعل تسقيف الأسواق المحيطة.
وتتنوع طموحات ومشاريع جمعية الترميم دون مفاضلات، كبناء المركز المتوسطي للفنون التطبيقية الذي تُؤويه كنيسة ودير الصليب المقدّس بالقرب من جامع الزيتونة، لكن العين بصيرة واليد قصيرة كما يقال، وذلك بسبب قلة الإمكانيات التي تلزمها تمويلات خارجية ينبغي البحث عنها ضمن صداقات دولية واتفاقيات ثقافية على الحكومة التحرك لإيجادها.
ترميم الذاكرة
من أنجح الاتفاقيات التي آتت ثمارها في هذا المجال، مذكرة تفاهم بين وزارة الشؤون الثقافية التونسية ممثلة في الوزيرة حياة قطاط القرمازي ومركز جامع الشيخ زايد الكبير بشأن ترميم “دار ابن خلدون” وتهيئتها كمتحف للعلامة عبدالرحمن بن خلدون.
وحول هذه المبادرة قال عبدالرحمن محمد العويس رئيس مجلس الأمناء لمركز جامع الشيخ زايد الكبير إن “مبادرة ترميم دار العالم والفيلسوف العربي ابن خلدون في تونس العاصمة، والتي تأتي في مجال صون التراث العالمي، بنوعيه المادي وغير المادي، تشكل واحدة من مبادرات مركز جامع الشيخ زايد الكبير لصون التراث الإنساني على كافة الصعد المحلية والعربية والعالمية، وتعكس نظرة الإمارات كمثال يحتذى في التسامح والتعايش الإنساني والتناغم والتمازج بين مختلف الثقافات”.
مثل هذه المبادرات تعد إنجازا جبارا في صيانة التراث المادي والفكري وتحفظ للأجيال ذاكرتها من التلف والتلاشي، في الوقت الذي يتهافت فيه “بارونات” الفساد والكسب السريع للاعتداء على كنوز حضارية وتاريخية قل مثيلها في المنطقة.
هكذا، وبفضل هذه الاتفاقية مع دولة الإمارات، وقع حفظ الدار التي ولد ونشأ وترعرع فيها أشهر وأول عالم اجتماع في التاريخ (1332 – 1406). وأصابت وزارة الثقافة التونسية أكثر من عصفورين بحجر واحد، علاوة على القيمة السياحية التي سيوفرها هذا المعلم.. وهذا نموذج واضح ومشع للاستثمار في الثقافة والتاريخ.
وتم بفضل هذا التفاهم ترميم ذاكرة يفخر بها التونسيون والعرب والإنسانية جمعاء. وكذلك تم حفظ طابع معماري فريد في أزقة مدينة تونس بالقرب من جامع الزيتونة، فهي وكما يعرفها أبناء تونس، تقع في منطقة باب الجديد، أحد أبواب مدينة تونس، وتتكون هذه الدار التي شيدت في زمن الحكم الحفصي في القرن الرابع عشر، من طابق أرضي وآخر علوي يحيطان بفناء مكشوف، وقد كسيت أغلب جدران الدار والصحن بمربعات الخزف.
أما صحن الدار فهو واسع، مربع الشكل، به سبعة أبواب تفتح على غرف المعيشة، وفي الدار رواقان، في كل منهما ثلاثة أقواس ترتكز على دعائم أسطوانية من الرخام الأبيض. بينما الدرج الرئيسي مبني من الرخام الأبيض، وزينت جدرانه بمربعات خزفية ملونة، ويصل الدرج إلى الفناء المغطى، المزين بزخارف نباتية مستوحاة من الطرازين الإيطالي والأندلسي.
