مسلسل "كارما".. سردية مركبة حول فلسفة الكارما الشهيرة

الكارما عبارة أصبحت تتكرر كثيرا على ألسنتنا خلال السنوات القليلة الماضية، يخافها البعض ويفرح البعض الآخر لإيمانه بأنها حتما تمنحه انعكاسا لأفعاله وأخلاقه، لكن يبدو أن الأمر أصبح فلسفة كاملة وعميقة ودقيقة تتحرك وفقها حياتنا، وهذا ما يتناوله المسلسل الكوري “كارما” الذي تعرضه منصة نتفليكس.
يعد مسلسل “كارما” دراما لجريمة كورية شديدة التعقيد والحبكة الفنية أطلقتها منصة نتفليكس منذ أيام، تستقي قصتها من روح فلسفة الكارما الأخلاقية، وأن أفعالنا ونوايانا لها عواقب يتردد صداها عبر الزمن وعبر الأعمار، ورغم اختلاف المفاهيم الإنسانية حول طرق عمل الكارما الدقيقة، لكن جوهرها يتمحور حول المبدأ الخالد وتلخصه عبارة “الخير يولد الخير والشر يولد الشر.”
للوهلة الأولى لمشاهدة دراما “كارما” التي تقع في ست حلقات، يتبادر إلى ذهن المتابع للعمل أنه يشاهد حلقات جريمة منفصلة، كل حلقة مستقلة بذاتها تسرد جريمة قتل، إلا أن التعمق في متابعة الحلقات ينبئنا بوجود أول خيط يربط بينها، فكل المجرمين شخصيات يائسة لا يحكمها أو يحدها مبدأ أو واعز أخلاقي وترتكب شرورا خطيرة تصل إلى حد القتل.
تدور شخصيات القتلة في المسلسل داخل دوائر من أفعال الشر المستطير التي يولد كل فعل منها الفعل الشرير الذي يليه، تبدأ أول دوائر جرائم المسلسل بشاب ثلاثيني يعمل في مصنع غارق في ديون طائلة لمرابين، يختطفه المرابي الرئيسي ويهدده بتصفيته حال عدم تسديده الدين خلال 30 يوما.
قتل الأب
في محاولة للنجاة وسداد ديونه يدبر الشاب المدين خطة قذرة لقتل والده من أجل الحصول على بوليصة تأمين على حياته بقيمة 500 مليون وون كوري (ما يعادل 350 ألف دولار) فيلجأ إلى أحد أعضاء المافيا ليدبرا معا خطة القتل لتبدو كحادث سير عبر انتقاء أحد الأزقة الفرعية التي يعتاد الوالد السير فيها ليلا بمفرده ولا توجد بها كاميرات مراقبة ليقوم الشخص المافياوي بدهسه.
تستمر دوائر الكارما، التي يقوم عليها النسيج الدرامي للمسلسل، في عملها لتنتقل الأحداث إلى عاشقين في سيارة يسيران بها على أحد الطرق وأثناء انشغالهما بأجوائهما العاطفية يفاجآن بشخص أمام السيارة التي تدهسه ليقوما بدفنه في ثلوج أحد الجبال المجاورة لحادث الدهس، بمساعدة شاب آخر كان مارا أثناء حادث الدهس، ليقوم هذا الشاب فيما بعد بابتزاز قائد السيارة الذي يعمل طبيبا بمبالغ طائلة.
تسلمنا سردية العمل المركبة إلى دائرة جديدة من سلسلة الكارما لتكشف للمشاهد أن عشيقة الطبيب التي كانت معه في السيارة أثناء الدهس هي شريكة الشاب المبتز المار وقت الدهس وأن الشخص الذي تم دهسه قد ألقاه المبتز عمدا من أعلى أحد الجسور لحظة مرور سيارة الطبيب، وهذا الشخص الملقى من أعلى الجسر هو نفس الوالد الذي تم دهسه في الزقاق .لكن كيف تعقدت الأمور؟
يواصل العمل سرديته “الكارماتية” لينبئنا بأن المافياوي الذي نفذ عملية الدهس استعان بمجرم آخر لحظة تنفيذ العملية وهو نفسه الشاب المبتز الذي ألقى الجثة من أعلى الجسر، حيث أخفق وزميله المجرم المافياوي في قتل الأب بعد دهسه في الزقاق فتم خنقه للتأكد من موته ثم خطط الشاب المجرم منفردا لإلقائه على سيارة الطبيب لحظة مرورها لتبدو العملية كحادث دهس وهروب بحيث يصرف مبلغ التأمين الكبير للإبن، وتواصل دوائر الكارما عملها فيقتل هذا الشاب المجرم شريكه المافياوي لينفرد بالابن ويدبر خطة خطيرة للحصول على مبلغ التأمين كاملا من هذا الابن.
في هذه الأثناء ترفض شركة التأمين طلب الابن استلام قيمة البوليصة بعد وفاة الأب للشك في وجود جناية قتل للأب، في الوقت الذي يتحرك فيه الشاب المجرم مخطط الأحداث الرئيسي لاختطاف الابن عبر تخديره واقتياده إلى مستودع مهجور في مكان ناء وتقييده إلى كرسي وتعذيبه بشدة ظنا منه أن مبلغ التعويض معه، وعندما يتأكد من صدق اعترافه بأن المبلغ رفض صرفه يسكب عليه البنزين ويسرق بطاقة هويته لتزويرها واستخدامها في جرائم جديدة، ويشعل النار التي تنتشر بسرعة في أركان المستودع، وفي اللحظة التي يهم فيها بالهروب تسقط عليه ألواح خشب مشتعلة.
تصل الشرطة الكورية عقب الحريق لتجد جثتين بالمستودع المحترق، تشك في حياة إحداها لتنقلها إلى المستشفى وهناك يتم إنقاذ الشخص الذي كان لا يزال في أنفاسه الأخيرة، لكن جلده محترق بالكامل، وبفحص متعلقاته تستدلّ الشرطة على هويته عبر الهوية التي تم العثور عليها معه، والمشاهد هنا يعلم أنها هوية مسروقة من الشاب الذي خضع للتعذيب والحرق عمدا وأن المجرم أخذ منه هذه الهوية قبل حرقه، لينطلق المجرم بعد فترة استشفائه وقد تغيرت ملامح وجهه بعد الحرق لينتحل شخصية الابن المحترق ليعيش في شقته السكنية.
هوية مزيفة
تصل دوائر العواقب الأخلاقية الكارما إلى الدائرة الأخيرة في حلقاتها المتصلة حيث تنتهي مهلة الثلاثين يوما التي منحها المرابي للإبن في بداية أحداث المسلسل، وتنتهي المهلة بعدم السداد لتصل أيدي رجال هذا المرابي إلى المجرم مشوه الوجه ومنتحل شخصية الابن المقتول حرقا على يديه، ظنا منهم أنه الابن ليختطفوه ويخدروه ليستيقظ واجدا نفسه مقيدا تماما، مكمم الفم ومستلقيا على طاولة خاصة بالعمليات الجراحية، وشرع أحد الجراحين الذين يعملون في تجارة الأعضاء البشرية بالاشتراك مع المرابي في نزع أعضائه دون مخدر.
تتناول هذه الدراما سردية الكارما من زاوية جديدة، وذلك من خلال آليات عمل الكارما المعقدة، وقام بكتابتها وإخراجها السيناريست والمخرج الكوري الجنوبي لي إيل هيونغ، في أول عمل درامي له بعد عدد من الأعمال السينمائية الناجحة، ومن أهمها فيلمه المهم "مدع عام عنيف" (A Violent Prosecutor) وحصد إيرادات كبيرة عند عرضه وقدمه كأحد الأرقام المهمة في السينما الكورية.
وكان العمل من بطولة النجوم الكوريين: لي هي جون الذي جسد دور الابن المدين المتآمر على قتل والده، وشين مين آه التي لعبت دور فتاة الهوى وغررت بالطبيب بالاشتراك مع القاتل الرئيسي مدبر الأحداث الذي جسده الفنان بارك هاي سو.
وحصدت الدراما الكورية أعلى التقييمات على مواقع التقييم الدرامي العالمية ومن أبرزها موقع Rotten Tomatoes الذي منح المسلسل تقييما بلغ 90 في المئة، بينما حصد مسلسل "كارما" عشرات الملايين من المشاهدات خلال الأيام الأولى من بثه، واحتل المركز الثالث في قائمة المسلسلات الأعلى مشاهدة لجرأة طرحه واتشاح أحداثه بالغموض ودوائر سرده المحكمة والمرتكزة على فلسفة الكارما الأخلاقية، معززا المكانة المستحقة للدراما الكورية التي حفرت لنفسها بصعوبة شديدة مكانا متميزا كمنافس قوي على صدارة الدراما العالمية، وقدمت نفسها بشكل مغاير للقالب الأميركي معتمدة على أجوائها الخاصة وطبيعة كوريا الجنوبية الساحرة واختلاف أنماط الشخصيات الكورية عن مثيلاتها الأميركية والأوروبية.
وبرع صناع معظم الأعمال الدرامية الكورية في صياغة أعمال جديدة الطرح تستقي سردياتها من الطبيعة والفلسفة الروحية اللتين تتميز بهما كوريا الجنوبية. عشرات السرديات المهمة، قدمتها السينما والدراما العالمية حول فلسفة الكارما الأخلاقية، واقتحمت الدراما الأميركية هذا العالم عبر أعمال عديدة لتقدم عام 2005 عملا كبيرا من أبرز هذه الأعمال بعنوان “إسمي إيرل” (My name is Earl)، وأدى دور البطولة فيه النجم جيسون لي، وقد حقق العمل نجاحا كبيرا في الجزء الأول منه، وهو ما دفع صناعه إلى تقديم ثلاثة مواسم أخرى.
ويدور المسلسل حول شخصية إيرل هيكي، وهو لص صغير يعيش في بلدة كامدن الريفية الخيالية، ويفقد تذكرة اليانصيب الفائزة بقيمة 100 ألف دولار بعد أن صدمته سيارة أثناء احتفاله بحظه السعيد.
سرديات متعددة
مستلقيا على سريره في المستشفى، يتعلم إيرل عن الكارما عبر متابعته برنامجا تلفزيونيا يناقشها ليصل إلى قناعة بأنه يجب عليه تغيير توجهه الشرير في حياته ليكون سعيدا، يسلم إيرل نفسه لقوة الكارما كي يصنع قائمة بكل شيء سيء فعله على الإطلاق وكل شخص أساء إليه، ويبذل جهودا لإصلاح كل هذا السوء ليفاجأ بعد قيامه بأول عمل جيد بالعثور على تذكرة اليانصيب التي فقدها، ويرى إيرل هذا كعلامة على الكارما التي تكافئه على التزامه الأخلاقي، ويستخدم ثروته التي وفرتها تذكرة اليانصيب الفائزة للقيام بالمزيد من الأعمال الصالحة.
سحابة أطلس
يعد فيلم “سحابة أطلس” (Cloud Atlas) من أهم الأعمال السينمائية التي قدمتها هوليوود وحصد العديد من الجوائز السينمائية، فالفيلم الذي أنتج عام 2012 ولعب بطولته نجم هوليوود توم هانكس وأخرجه توم تكيوير قدم قصة لنماذج من البشر عبر التاريخ والأزمنة، من خلال سردية “كارمية” تعرض 6 قصص من أمكنة وأزمنة مختلفة في الماضي والمستقبل لشخصيات مختلفة، تعيش في ظروف مشابهة وتختبر المشاعر الإنسانية نفسها التي تبقى في روحها شيئا واحدا مع اختلاف الأسباب والنتائج والتفاصيل.
يعرض الفيلم كيف أن تصرفاتنا الفردية تنعكس علينا وعلى حياة الآخرين في المستقبل، فالحاضر والمستقبل مرتبطان لأن كل شيء مترابط بين البشر، وأي تصرف بسيط في الحاضر قد يفجر أحداثا خطيرة في المستقبل البعيد، وأي عمل خير أو شر نقوم به يبقى له تأثير في الزمن وقد ينعكس علينا.