مسرحية "الشاطئ" تكشف عن ماهية الموت وجدوى الحياة

لا يتوقف الفن عن طرح الأسئلة الملحّة والتي لا تجد لها إجابات، خاصة تلك التي يقف العلم أمامها عاجزا، مثل سؤال هل هناك حياة بعد الموت؟ وإن كانت الأديان قد قدمت إجابة حول هذا السؤال فإنها لم تشف غليل الإنسان المتطلع إلى معرفة كل الخفايا والطامع في نيل تفاصيل أكثر عن هذه الحياة السحرية ما بعد الموت، وعن مختلف ملامحها، وهذا ما يقدمه العرض المسرحي المصري “الشاطئ” حتى وإن لم تكن الغاية منه رسم ملامح للحياة ما بعد الموت فحسب.
القاهرة – في ظل الظروف القاسية التي يمرّ بها العالم بسبب أزمة وباء كورونا، يعقد مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، الذي افتُتحت دورته السابعة والعشرون الثلاثاء، وقدّم أول برامجه من العروض المسرحية في اليوم التالي، ليعيد الوهج المسرحي مرة أخرى من خلال تقديم عدد من العروض الحيّة، وأخرى مُصوّرة تبث إلكترونيا، وتستمر الفعاليات حتى الحادي عشر من سبتمبر الجاري.
استحدثت إدارة المهرجان مسابقة العروض الحية لجذب الجمهور وبعد تخفيف القيود الاحترازية، والتقيد بالتباعد الاجتماعي، ووقع الاختيار على 13 عرضا مسرحيا من بين 87 عرضا تقدمت من جهات إنتاجية متعددة، وجرى تخصيص جوائز لأفضل العروض المتنافسة.
معالجة جديدة
لفتت مسرحية “الشاطئ”، التي عُرضت أخيرا ضمن فعاليات المهرجان، أنظار النقاد والمشاهدين، على الرغم من عرضها للمرة الثانية، حيث جرى عرضها من قبل ضمن فعاليات المهرجان القومي للمسرح المصري في دورته الثانية عشرة، ضمن المسابقة الأولى، ونجحت في حصد العديد من الجوائز منها جائزة المركز الأول في المهرجان العربي “زكي طليمات” وجوائز أفضل إخراج وديكور وممثل دور أول.
يقوم ببطولة المسرحية مازن عبدالناصر، ومنة المصري، وضياء زكريا، وعبدالرحمن القليوبي، وروان محمد، وقدم هؤلاء عرضا راقيا، حيث أتقنوا أداء الشخصيات، ونجحوا في نقل الانفعالات المتغيرة بسلاسة، الأمر الذي استشعره الجمهور الذي حرص على متابعة العرض على مدار يومين.
استلهم صناع العمل فكرة العرض من مسرحية “غرفة بلا نوافذ” للأديب المصري يوسف عزالدين عيسى، وحاولوا نقل المضمون الرئيسي لها، مع إضافات لزوم العرض الفني على المسرح والمستجدات السياسية والاجتماعية، وكي يمكن توصيل الفكرة إلى الجمهور بسهولة ليزداد اندماجه مع مضمونها.
تم تقديم معالجة جديدة تعكس إشكاليات ملحّة راهنة تتعلق بالصراع بين المال والعلم والفن، مصحوبة بمجموعة من الأسئلة حول أي من هذه العناصر أكثر جدوى في الحياة؟ وما قيمة كل منها بعد انتهاء عمر الإنسان بكل أمانيه ومطامعه؟ وما الذي يبقى بعد موت الإنسان؟ وما هي ماهية الحياة والموت بالأساس؟
جدوى الحياة
تبدأ المسرحية بحديث عن رحلة للوصول إلى الشاطئ، وينتظر المسافرون اكتمال العدد، وفي غضون ذلك تدور بينهم المناقشات حول عمل كل منهم وحياته، وما إن يصل المسافرون الخمسة يتأخر الإقلاع حتى يبدأ التساؤل حول ماهية المكان الذي يقبعون فيه، والشاطئ الذي يريدون الوصول إليه.
يفشل المسافرون في تذكر ماضيهم وأفكارهم وذكرياتهم، ليكتشفوا أنهم موتى قد غادروا الحياة، وأن ثمة موتا ثانيا ينتظرهم يتحقق بعد أن تنقطع ذكراهم عن الدنيا ولا يعود لهم ذكر في الدنيا، ما يكشف عن جدوى أفعالهم ورحلتهم في الحياة التي أمضوها قبل رحيلهم.
خمسة أشخاص يمثل كل منهم فكرة، فهناك رجل العلم الذي درس علوم الفيزياء وقدّم العديد من البحوث العلمية، ويؤمن بأهميته وقدراته الاستثنائية وعقله المتقد الذي يجعله أفضل من الآخرين، والثاني هو الفنان الذي يكتب ويقدم فنا راقيا لكنه لا يملك سوى الأحلام، أما الشخصية الثالثة فهي راقصة وسيدة المجتمع يتنافس الجميع للتقرّب منها، والشخص الرابع رجل المال والسلطة الذي يظن بقدرته على شراء الزمن والماضي والحاضر وبأفضليته على الجميع، وأخيرا الطفلة التي تظهر سعادتها بالرحلة منذ بدايتها.
تدور المناقشات بين الشخصيات الخمس مقدمة تساؤلات تخص جدوى الاختيارات الإنسانية في الحياة ومآلاتها البرّاقة حينا والقاسية حينا آخر.
يجادل الفنان العالم حول جدوى فنه وما يحمله من أفكار وقيم وسعادة للناس جراء مخاطبته لقلوبهم عبر فنه، لكن رجل العلم يؤمن يقينا بأن علمه أجدى وأكثر أهمية بل إنه بعلمه أفضل من الجميع الذين قد يتشارك معهم في الهيئة لكنه قطعا يختلف في المضمون، أما رجل المال والسلطة فيحاول إثبات أفضليته ومكانته للجميع.
استُخدمت عناصر العمل كافة ببراعة للتعبير عن أفكاره، فالأزياء والماكياج أسهما في تقديم صور حية لرجل المال ورجل العلم ورجل الفن والراقصة والطفلة، ووُظفت العناصر الديكورية في تماس مباشر مع الفكرة، كما جاء في استخدام “كابينة الهاتف” والإيحاء بغموض المكان.
كذلك تم توظيف الإضاءة بكفاءة للتعبير عن المشاعر المختلفة من قلق ومنافسة وترقب من خلال اختيار ألوان الإضاءة وشدتها أو خفوتها.
من العناصر الإيجابية التي استُخدمت ببراعة في العرض المسرحي التعبيرات الحركية التي وظفت للتعبير عن العديد من الأفكار، مثلما نجد في الأداء الحركي الذي قامت به الشخصيات الخمس معا أكثر من مرة للتعبير عن اشتراكها في انتظار مصير واحد رغم اختلافاتها وتبايناتها الجوهرية والظاهرية.
كما عبّر التكوين المسرحي عن مضمون العرض في الكثير من المشاهد، فنجد رجل العلم يقف في وضعية أعلى من الفنان أثناء حديثه عن أفضليته وأهميته، ويتخذ رجل المال وضعية الأعلى عندما يحاجج بعلوه على الجميع بسبب ما يمتلكه من سلطة ومال.
ما بعد العمر
تتخذ الحوارات مسارا مختلفا بعد أن يكتشف الجميع أنهم موتى بالفعل، وغير قادرين على تذكر أي شيء يخص حياتهم، ويتأكد ذلك الاكتشاف مع قدوم والدة الطفلة لاصطحابها إلى موتهما الثاني حيث انقطع ذكرهما في الحياة، ليبدأ الأشخاص الأربعة مناقشة حول من سينقطع ذكره عن الحياة أولا ومن الذي سيظل باقيا في الحياة بما قدّمه في حياته، ويصير توقيت الرحيل معبرّا عن مدى أهمية ما عاش كل إنسان لأجله.
يغادر إلى الميتة الثانية رجل السلطة والأعمال ثم الراقصة، ويجري ذلك عبر استخدام الهاتف الذي جاء كأساس ديكوري وظّف ببراعة للتعبير عن الأفكار داخل العمل، “فكابينة الهاتف” تقدم رسالة للشخص المختار بأنه قد حان وقت رحيلك، ليبقى في النهاية رجل العلم مع رجل الفن يتناقشان حول المغادر أولا، وتأتي الإجابة عبر الهاتف “مرحبا بكما في ما بعد العمر”، ليؤكد صناع العرض فكرتهم حول أهمية العلم والفن معا في حياة الناس، فلا مجال للصراع بينهما وسيظل أهل العلم والفن خالدين في الحياة بعد رحيلهم.
تطلع صناع العرض إلى الانتصار للعقل والعلم، الأمر الذي تحرص عليه الكثير من العروض الفنية، كمحاولة للمساهمة الحقيقية في نهضة المجتمع، الذي تعاني قطاعات كثيرة منه جراء انتشار الخرافات، وهي مهمة المسرح التنويري.
ونذكر أن مسرحية “الشاطئ” من بطولة مازن جمال عبدالناصر، ومنة المصري، وضياءالدين زكريا، وعبدالرحمن القليوبي، والطفلة روان محمد، ومن تأليف عمر رضا، ومن إخراج ضياءالدين زكريا، ومخرج منفذ نورا المهدي، وديكور نورا محمد، وتصميم إضاءة محمود طنطاوي.