مستقبل التجربة السورية بين الغاندية والمانديلية والرابينية

اللافت أن هناك من يرى الشرع صادقا في نواياه وسعيه لبناء دولة قوية محصنة من أي هزات عنيفة داخلية وإقليمية.
الثلاثاء 2025/01/21
الطريق ليس مفروشا بالورود

سيظل التاريخ شاهدا حيّا على التجارب السياسية المصيرية التي تمس حياة الشعوب، وتؤثر في مقدراتها، وتوجه مصالحها، وتحدد مصائرها؛ وتحفظ للإنسان حقوقه، وتصون كرامته من دون أيّ تمييز بسبب اللون أو الجنس أو المعتقدات، وذلك من خلال رصد دقيق لما لتلك التجارب السياسية من محاسن تسمو بها، وما عليها من مساوئ تجرها إلى الوراء، وإصدار حكمه عليها.

وسيظل التاريخ واعيا بالتحولات الفكرية التي تطرأ على بعض التجارب السياسية، وتنتقل بها من مراحل إلى أخرى قد تبدو متباينة في توجهاتها ووسائلها، خاصة التي تنتقل بالأشخاص من مراحل العنف المختلفة والصراعات الأيديولوجية إلى آفاق التغيير السلمي السياسي والاجتماعي.

لم يخل عصر من تحولات فكرية ومراجعات مرّت بها حركات ومجموعات وأفراد، عبر فترات تاريخية عديدة، ولم تكن تلك التحولات حكرا على دين أو جماعة أو مجتمع دون غيره؛ فالشواهد التاريخية على ذلك ماثلة أمام الساسة والمفكرين والباحثين، كما أن الأمثلة كثيرة وممتدة في مختلف قارات العالم، تطل بحقائقها ودقائقها مع كل جديد يُشبهها، أو يحاكيها، أو حتى يُناهضها فكرا وغاية.

ولا يعدم رجال الفكر والسياسة والاجتماع والباحثون والمؤرخون وسيلة للربط، وربما المقارنة، بين التحولات الفكرية التي حدثت قديما وحديثا للعديد من التجارب السياسية المصيرية، وتركت آثارها واضحة على حياة الشعوب، ومقدّراتها، ومستقبلها. ومن أبرزها تجارب: المهاتما غاندي، ونيلسون مانديلا، وإسحاق رابين، وغيرهم وصولا إلى أحمد الشرع قائد الإدارة السياسية الجديدة في سوريا. تنتسب تلك التحولات إلى ديانات متعددة، وتقوم على أفكار ومعتقدات مختلفة، وتنهض إلى أهداف وأغراض متنوعة، ولكن يظل بينها رابط واحد باعتبارها حركات “تحوّلية” في مسارات الشعوب رغم اختلافاتها “الجوهرية” في الوسائل والمآلات والنتائج.

هل تنتهي تجربة الشرع إلى ما آلت إليه التجربة "المانديلية" في جنوب أفريقيا أم "الغاندية" في الهند أم تكرر ما حدث في التجربة "الرابينية" في إسرائيل؟

وتأتي الحالة السورية لتطرح تساؤلا مهمّا عن مدى استجابتها لما تتطلبه المرحلة الحالية من تحولات فكرية تساعد في نجاحها، خاصة بعد الانتصار الكبير الذي حققته عملية “ردع العدوان” في سوريا بإزالة حكم الأسد، الأب والابن، الذي استمر أكثر من خمسة عقود تعرض خلالها الشعب السوري إلى أبشع أنواع العنف الممنهج.

إن التجربة السورية، بتطوراتها وتحولاتها، تضع الجميع أمام تساؤلات عديدة، أهمها: ما مدى قدرة قائد جبهة تحرير الشام أحمد الشرع على تحقيق رؤيته التي عبر عنها بقوله “إن منطلقات بناء الدولة تختلف عن منطلق الثورة؟” وهل يستطيع التغلب على تعقيدات المشهد، وينجح في السيطرة على المكونات الأخرى، ودمجها في إطار واحد ضمن وحدات الجيش الموحد لسوريا؟.

هل ينجح في التخلص من خلفياته “التنظيمية” التي لازمته عبر مراحل مسيرته المختلفة؟ وهل ينجح في جمع الفرقاء “المتشاكسين” وإقناعهم بالانضمام إلى بناء الدولة، أو إخضاعهم بالقوة؟ وكيف ينجح في حل مشكلة الأكراد سلميا، وضمهم ضمن المكونات السورية المختلفة؟ وإلى أيّ مدى يمكن أن ينجح في تنظيم مؤتمر وطني جامع يؤدي إلى تأسيس هياكل دولة تشاركية، تنجح في عبور المرحلة الانتقالية بأمان وتعاون واستقرار؟ وما العقبات التي يمكن أن تواجهه وماذا يتوقع المراقبون منه نجاحا أو فشلا؟

ربما تحمل بعض الأمثلة والنماذج التاريخية القريبة المشابهة لحالة الشرع بعض إشارات جادة لما قد تكون عليه الإجابات النموذجية عن الأسئلة المطروحة على الواقع السوري.

الحالة الأولى مهاتما غاندي (1869 – 1948) وهو محام وزعيم هندي. يرجع إليه الفضل في تأسيس فكر سياسي جديد يقوم على نبذ العنف، ورفض التمييز بين الأشخاص. تركزت جهوده على رفض الاستعمار البريطاني لبلاده، والعمل لتحقيق استقلالها من ناحية، ومناهضة الظلم الاجتماعي من ناحية أخرى.

عُني بمشاكل العمال والفلاحين والمنبوذين، وأطلق عليهم “أبناء الإله”. ونجح في تنظيم حملات للقضاء على التمييز الطبقي. وتضمنت الفترة التي عاشها ـ في الهند أو إنجلترا أو جنوب أفريقيا ـ فرصا مهمة بلور من خلالها فكرا سياسيّا يقوم على محاربة العنف، وتشجيع السلم.

آمن غاندي بأن كل مشكلة يمكن أن تُحلّ سلميا، بما في ذلك الاستعمار الذي يمكن أن يرحل دون مقاومة مسلحة. وبهذا يكون أول من أسس ما يعرف في عالم السياسة بفكر “المقاومة السلمية” الذي تشير إليه دراسات سياسية بوصفه “التجربة الغاندية” والذي يشمل: العصيان المدني، والاعتصامات، والاحتجاجات السلمية، والإضراب عن الطعام، والمقاطعة، وغيرها من الأساليب السلمية التي ما زال العمل بها جاريا كوسائل ضغط لانتزاع الحقوق.

الاختبار الحقيقي الذي تواجهه الإدارة الجديدة في سوريا ليس فقط في مطابقة الأفعال مع الأقوال، كما يطالب مسؤولون في الداخل والإقليم والعالم، بل في إحداث مواءمة في العلاقة بين السياسة والإسلام

لم يكن يؤمن بالفصل بين السياسة والدين، ويرى أن من يفصل بينهما لا يعرف المعنى الحقيقي للدين، ولذلك أرسى مبادئ جمعت بين الأسس الدينية والسياسية والاقتصادية، وتحدث عن “الضمير الأخلاقي”. اعتُبر بطلا تاريخيا مدافعا عن الحقوق المدنية من خلال الثلاثي: الشجاعة، والحقيقة واللاعنف، واغتيل عام 1949.

أما الحالة الثانية فيمثلها الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا صاحب الوجه المبتسم الذي يعد رمزا للنضال من أجل التغيير السلمي في جنوب أفريقيا. وتتلازم رمزية السلم في تجربة مانديلا مع مشهد آخر يلفت إلى أن مانديلا الحائز على جائزة “نوبل للسلام” كان مدرجا على قائمة “الإرهاب” الأميركية حتى عام 2008.

مانديلا بدأ نضاله بالاعتماد على “المقاومة السلمية” ضد الاحتلال الأجنبي، مستلهما أفكار غاندي التي تعتمد على وسائل “سلمية” للاحتجاج الشعبي، مثل: المقاطعات السلبية، والمظاهرات، وحملات التوعية، غير أن سير الأحداث الدامية شكل تحولا مهما في مسيرة مانديلا السياسية، حيث أعاد التفكير في منهجه، وانتهت به مراجعته إلى أن طريق غاندي السلمي لن يجدي نفعا مع قوى الاحتلال؛ ليقرر حينها أن يواجه العنف بالعنف، مستلهما أفكار ماوتسي تونغ وتشي جيفارا.

استمر نضال مانديلا سنوات عديدة تنقل خلالها بين السجون والمعتقلات حتى نال حريته، وتكلل نضاله بجائزة نوبل للسلام عام 1993. وفي عام 1994 استجابت حكومة جنوب أفريقيا للضغط الدولي المؤيد للمطلب الشعبي بإجراء انتخابات تشمل كل الأعراق، وهي التي انتهت بانتخاب مانديلا رئيسا لجنوب أفريقيا بعد كفاح سلمي في مرحلة أولى، وآخر عنفي في مرحلة أخرى، كما تحقق لشعبه وبلده الاستقلال والحرية، وخرج مانديلا سالما دون أن يتعرض لأيّ محاولة أذى من قبل مناوئيه.

وتتمثل الحالة الثالثة في إسحاق رابين (1922 ـ 1995) رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، وهو جنرال عسكري سابق في جيش الاحتلال الإسرائيلي، وأحد أهم متخذي القرارات في الشؤون الخارجية، العسكرية والأمنية.

لعب دورا بارزا في تسعينات القرن الماضي في التوصل إلى “اتفاقيات أوسلو” مع منظمة التحرير الفلسطينية التي تضمنت إعلان المبادئ الخاص بترتيبات الحكم الذاتي الفلسطيني، واستهدفت تحقيق سلام دائم بين الجانبين، وإقرار حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم وفق قراري مجلس الأمن الدولي رقمي 242 و338. وترتب على تلك الاتفاقيات اعتراف منظمة التحرير بإسرائيل، وقبول الأخيرة منظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا للشعب الفلسطيني.

من جانب آخر، أثارت تلك الاتفاقيات حالة من التوتر في الشارع الإسرائيلي، حيث انتقد اليمين الإسرائيلي الحليف الدائم حتى اليوم مع حزب “الليكود” بقيادة بنيامين نتنياهو، والمتطرفون اليهود رابين بشدة، ووصفوه بالخائن، كما وصفوا الانسحاب من أراضي الفلسطينيين بالحماقة والخيانة. وعقب ذلك تعرض رابين إلى عملية اغتيال أودت بحياته.

إنّ تلك التجارب التاريخية بما شهدته من “تحولات فكرية” تضع الحالة السورية بجميع أطرافها أمام تساؤل مهم: هل ينجح الشرع في العبور بالمرحلة الانتقالية إلى بناء دولة الاستقرار الدائم؟

صحيح أن الأحداث التي تمر بها سوريا تفرز سيلا من المعلومات المتباينة، لكنّ اللافت أن هناك من يرى الشرع صادقا في نواياه وتحركاته وسعيه لبناء دولة قوية محصنة من أيّ هزات عنيفة داخلية وإقليمية، وأنه أجرى مراجعة لكل محطاته السابقة، ويتعامل مع الأحداث بروح العصر، ومتطلبات المرحلة، ويحرص على فصل المسارات بين منهج الثورة والنضال وبين مرحلة تأسيس الدولة، خاصة أن الوضع في سوريا “هش” والأخطار محدقة من الزوايا الأربع: شمالا وجنوبا وشرقا وغربا. ولعل أهمها فرقاء الأمس الذين مازالوا يتمسكون بمعتقداتهم وأفكارهم ورغباتهم في تحقيق مكاسب خاصة وظيفية ومادية وما يصاحبها من ضغائن وأحقاد ومنافسات على الغنائم والمكاسب.

النموذج السوري في التغيير يواجه تحديات عديدة، من شأنها أن تختبر مدى قدرته على إعادة بناء الدولة السورية وفق أسس جديدة، لا تتأثر بالنماذج التي قدمتها حركات الإسلام السياسي

فليس كل ما يجمع هؤلاء خالصا لوجه الله، ٍخاصة أن معظمهم قليلو علم، سواء الديني أو الدنيوي، فلا هم على دراية بما جاء في كتاب الله على لسان ابنة شعيب حين قالت لأبيها: “يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ”.. (القصص: 26) ولا معرفة بما ورد على لسان نبي الله يوسف عليه السلام مخاطبا الملك: “اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ”.. (يوسف: 55). وإنما تجمعهم وتفرقهم، في الوقت نفسه، المغانم والمناصب كباقي الناس إلا من رحم الله. ولو سلم من ذلك أحد لكان الأولى به خير الناس من الصحابة الذين خالفوا الأمر، ونزلوا لجمع الغنائم في أُحُد؛ فأصابهم من عدوّهم ما أصابهم. فما بالنا والحال على ما نرى ونعي في هذا الوقت؟.

لا ننكر أن الواقع بمشاهده وتحركاته وتحولاته يُغلّب الأمل في تجاوز المرحلة الانتقالية بنجاح، بدءا من تصريحات الشرع لطمأنة الداخل والخارج، وسعي المجموعة العربية لاحتواء الإدارة السورية الجديدة، والعمل معها لإنقاذ سوريا من السقوط في الفشل، بالإضافة إلى رغبة الإقليم والعديد من دول العالم في مساعدتها.

إن نجاح تلك الجهود مرهون بالانتقال من الأقوال إلى الأفعال، والتطبيق على أرض الواقع بمواجهة الأطراف الأكثر تشددا داخليا، ودفعها إلى التعاون في اتخاذ قرارات مقبولة من محيطها الإقليمي والعالمي؛ فلا مفر أمام السوريين من العمل الجاد لبناء دولة مدنية تشاركية يسودها القانون، والمواءمة بين الأصالة والمعاصرة، ولا بأس من الاستفادة من التجارب الناجحة كالتجربة الخليجية في مسألة المجتمع المحافظ، والتجربة التركية في مجال الممارسة وإدارة شؤون الحكم كالانتخابات الرئاسية والتشريعية وغيرها.

وكذلك الاستفادة من التجارب المماثلة في العالم من حيث الحقوق المدنية والوطنية والدينية لكل المواطنين، فهناك نجد الإسلام ماثلا في أرض الواقع؛ حيث يتمتع الناس بالأمن والأمان وحرية المعتقد والتعبير دون أن يتعرض أحد لآخر بفضل مدنية الدولة التي تحترم الأديان، ولا تتعارض معها.

ولا نغالي إذا قلنا إن النموذج السوري في التغيير يواجه تحديات عديدة، من شأنها أن تختبر مدى قدرته على إعادة بناء الدولة السورية وفق أسس جديدة، لا تتأثر بالنماذج التي قدمتها حركات الإسلام السياسي بمختلف تنوعاتها ومشاربها، وانتهت إلى الفشل في تحقيق الأمن والاستقرار، ولم تتمكن من بناء دولة وطنية مستدامة، وعجزت عن تشكيل حاضنة شعبية واسعة حولها.

إن الاختبار الحقيقي الذي تواجهه الإدارة الجديدة في سوريا ليس فقط في مطابقة الأفعال مع الأقوال، كما يطالب مسؤولون في الداخل والإقليم والعالم، بل في إحداث مواءمة في العلاقة بين السياسة والإسلام.

إن التحديات التي تواجهها كثيرة، وتتطلب إيجاد آلية لتشكيل هوية سياسية جامعة، وجعل نموذج التغيير يتجه نحو تأسيس دولة تعاقدية مدنية ذات طابع إسلامي منفتح. ولا شك أن الطريق ليس مفروشا بالورود أمام الإدارة الجديدة، التي ستواجه العديد من التحديات والاستحقاقات.

ويتبقى تساؤل مهم: هل تنتهي تجربة الشرع إلى ما آلت إليه التجربة “المانديلية” في جنوب أفريقيا أم “الغاندية” في الهند أم تكرر ما حدث في التجربة “الرابينية” في إسرائيل؟ أم تضيف إليها تجربة جديدة تستجيب لصوت العقل والحكمة بالداخل والخارج، وتبني دولة مدنية عصرية لكل السوريين.. الأيام والشهور القادمة “حُبلى” بالإجابة.

6