تعزيز الحريات ودفع التنمية.. "تكامل" أم "مقايضة"؟

نعيش في عالم اختلطت فيه الأمور بين المعقول و”اللامعقول”، ما يصح وما لا يصح، بين المسموح و”اللامسموح”، بين الكذب والتهوين والتهويل والمصداقية، بين التطبيل و”اللاتطبيل” بالتزام المكاشفة والاعتدال. عالم غريب وعجيب اختلطت فيه المفاهيم واختلت القيم وتفرقت السّبُل وتعمقت الكراهية وخَفَتَ صوتُ الحقيقة وضعفت قيم الماضي الجميل، عندما كان رجاله في القيادة والسياسة والفكر والإعلام والتربية يختلفون ويحتدون من دون أن يقعوا في براثن “الخلاف”، فالمسموح هو الاختلاف لتحقيق مصلحة عُليا عامة لا خاصة، إدراكا لحقيقة أنّ “الاختلاف رحمة” وأنه يثري تعدد الاجتهادات والتسابق في خدمة الأوطان. أما “اللامسموح” فتغذية “الكراهية” إلى حد أن يسعى هذا أو ذاك للفتك بالآخر المختلف معه، ولو معنويا.
في عالم اليوم تغيّر الحال، وأصبح المشهد مخيفًا حين تقرأ أو تسمع أو تشاهد وتنتظر ردًّا من المعنيين (سياسيين وبرلمانيين واقتصاديين ومفكرين وإعلاميين) يدعو إلى كلمة سواء في الأمور العامة، ويُعلي حرية الرأي والتعبير ويشجّع على المصارحة والتحدث في كل شيء في المجالس النيابية بمختلف مسمّياتها: وطني أو أمة أو شورى، وكذلك وسائل الإعلام المختلفة، ليس من باب الهدم والتناحر والمزايدة، وإنما إعلاء للكلمة الصادقة المعبرة عن آمال القادة وطموحاتهم الكبرى، الكاشفة عن هموم الناس من دون خوف أو تردد، الداعمة للمصالح العليا، الحامية لمكتسبات الشعوب في مختلف المجالات.
الإنسان في الخليج ذو حسّ وطني مشهود، يقدّر قياداته ويلتزم مسؤولياته ولا يخرج عن الثوابت والقيم النبيلة التي تربط بين مؤسسات الدولة، ويتعامل مع قضايا الناس ومصالح الشعوب والدول وفق اللوائح والنظم
فلا مجال للفصل بين مسار “الحريات” ومسيرة “التنمية” واختيار إحداهما على حساب الأخرى، ولا تعارض مطلقا بين إقامة حياة سياسية نشطة تتعمق ممارساتها وآثارها من خلال البرلمانات ووسائل الإعلام والمؤسسات الرسمية للدول والمجتمع المدني من ناحية، ودفع التنمية والتطوير لتحقيق الازدهار الاقتصادي من ناحية أخرى، شريطة أن يلتزم الجميع بالثوابت الوطنية وعدم تجاوز الخطوط التي تعارفت عليها مجتمعاتنا وقيمنا العربية وتعاقبت عليها الأجيال وأصبحت مستقرة لا تنفصل عن نظمنا السياسية؛ ذلك أن رعاية “الحريات” وتنشيط “التنمية” ركنان متكاملان لازمان لتقدم المجتمعات وبناء نهضتها الشاملة سعيا إلى المستقبل الأفضل للأجيال المقبلة.
كان المأمول أن تزداد صلاحيات تلك المؤسسات، وتتوسع إسهاماتها، وتتعاظم آثارها في إثراء الحريات وتحسين مجالات الحياة؛ استمرارا لبداياتها القوية، خاصة بعد التجارب الطويلة التي مرت بها، ولكن للأسف حدث العكس؛ فتراجعت نبرات الأصوات الفاعلة، رغم ما حدث من تحسينات في طرق الانتخابات الجزئية أو الكلية، وفق نظم وقوانين كل دولة، كما تراجعت مكانة الصحافة ووسائل الإعلام، وضعف تأثيرهما لأسباب مختلفة، بعضها اقتصادي انعكاسا للأوضاع العالمية، ومنافسة شبكات التواصل الاجتماعي بأنواعها المختلفة؛ بالإضافة إلى ضعف المحتوى الصحفي والإعلامي، وعجز بعض الوسائل عن التعبير عن قضايا الناس وهمومهم، حيث غلب عليها “التهليل” و”التمجيد” رغم ما يشهده العالم من تطور تقني وتكنولوجي ومعلوماتي؛ الأمر الذي يتطلب من الحكومات في الخليج مراجعة هذا التوجه، وتقديم المزيد من الدعم لهذه المؤسسات وتشجيعها على الوفاء بالدور المنوط بها باعتبارها “شريكا” أساسيا في البناء ولا غنى عن جهودها في خدمة القيادات والأوطان والمواطنين.
والإنسان في الخليج ذو حسّ وطني مشهود، يقدّر قياداته ويلتزم مسؤولياته ولا يخرج عن الثوابت والقيم النبيلة التي تربط بين مؤسسات الدولة، ويتعامل مع قضايا الناس ومصالح الشعوب والدول وفق اللوائح والنظم؛ فإن دعت الضرورة إلى الإشارة إليها ـ أو نقدها ـ استهدف الإصلاح والبناء، لا التجريح والهدم، والتزم الموضوعية والشفافية.
أما أن يتم عرض الأمر على أنه بين خيارين متضادين، بهدف “مقايضة” التنمية بالحرية، ففي هذا افتئات على الحقائق، خاصة حين تصاحب ذلك “مجافاة” غير مبررة لأيّ اختلاف في الرأي والرؤية، ومحاولات، ولو محدودة، لإسكات أيّ صوت نقدي صادق يستهدف تعظيم الإيجابيات ومعالجة السلبيات؛ فالنقد البناء يُعنى بالجانبين معا، ولا يركن إلى “المثالب” وحدها فيسهل تشويهه وربما التحريض عليه.
تقلّصت مساحة النقد وضعفت أدواته وأصبح ذلك منهجا مؤسساتيا، ففقدت بذلك مؤسسات كانت طليعية، كالمجالس البرلمانية والإعلام والمنابر الثقافية دورها الريادي ولم تعد تحظى بالمتابعة التي عرفتها عقودا طويلة مضت، بعد أن خفتت الأصوات الداعمة للحريات وتراجعت القضايا التي كانت تطرح في الصحافة والإعلام وتحظى بقبول القيادات السياسية ودعمها.
ما يحدث في بعض دولنا من تأخر تنموي ليس بسبب حرية الرأي والتعبير، وإنما وراءه غياب الممارسة الصحيحة، وتقديم المصالح الخاصة عند من يجد لديه الصلاحية والقوة، وعدم وجود أداة ردع للممارسات الخاطئة
صحيح أن لكل دولة في الخليج خصوصيتها فيما هو مسموح أو غير مسموح الكلام عنه أو التعرّض له، ولكن كان هناك إجماع بين القيادات والقوى المجتمعية على أهمية إشاعة جوّ من الحرية المسؤولة، والتعبير عنها من خلال مؤسسات الدولة المختلفة؛ فرغم تباين الأفكار والمناهج والرؤى فإنها جميعا تهدف إلى الصالح العام.
ندرك أن النقد والمناقشة لا يعنيان الكمال، فهناك دول عريقة في الديمقراطية ولكنها تعاني، في الوقت نفسه، من تدني مستوى الحياة. ورغم ما قد يصاحب عملية النقد والتعبير من سلبيات يرفضها البعض ويحاول التضييق عليها فإنها تشبه “حقنة الأكسجين” التي تساعد المجتمعات على التنفس.
جميل أن نمتدح التنمية في كل مكان، ونتغنى بالتطور الذي نشهده، ونقارن أحوالنا بدول أخرى تفوّقنا عليها، ولكن ذلك لا يُغني عن وجود مؤسسات برلمانية وإعلامية راصدة ومعبرة وناقدة ومقوّمة.
برلماناتنا في الخليج بدأت بالتعيين، وضمت وجوها وقامات وطنية معبرة استمدت قوتها من قربها من متخذ القرار ومن مكانتها وتمثيلها مختلف شرائح المجتمع. وإعلامنا الرسمي والخاص يعبّران عن هموم الناس وقضاياهم. وتحظى البرلمانات ووسائل الإعلام بدعم رسمي وشعبي، ولا تعارض بين أن تتمتع مؤسساتنا بالحريات المسؤولة والتعبير عن أحوال الناس وآلامهم وآمالهم، ونقد السلبيات والتجاوزات والانحرافات، وبين التنمية والتطور في كل المجالات.
وما يحدث في بعض دولنا من تأخر تنموي ليس بسبب حرية الرأي والتعبير، وإنما وراءه غياب الممارسة الصحيحة، وتقديم المصالح الخاصة عند من يجد لديه الصلاحية والقوة، وعدم وجود أداة ردع للممارسات الخاطئة.
ولا ينفي هذه الحقيقة ما يصاحب الانتخابات البرلمانية في الكثير من الدول من أحاديث عن تعزيز الحريات الإعلامية، وما يقام من مؤتمرات أغلبها شكلية، ونحو ذلك من أمور تجعل الناس تترحّم على ما كان في الماضي من أدوار رائدة ومواقف جيدة لوسائل الإعلام، وكذلك ممارسات أكثر صدقا لأعضاء المجالس البرلمانية في التعبير عن هموم الناس وقضاياهم رغم أنهم جاؤوا بالتعيين.
ورغم حالة الإحباط واليأس التي أصابت البعض في هذه الآونة، فإن الأمل لا يزال قائما والمأمول كبير في قيادات المنطقة ورموز الرأي والفكر ورجال الإعلام والسياسة والاقتصاد، ففي الأفق ضوء وهناك محاولات جادة وحوارات صحية، تدور عبر وسائل الإعلام المختلفة بين إعلاميين وسياسيين ومفكرين من دول مجلس التعاون الخليجي، وأبرزهم كويتيون وإماراتيون وسعوديون، حول الحريات السياسية والإعلامية والتنمية والتطور، بين مؤيد لهذا وبين آخر مخالف. وما يدعو إلى القلق هو الترويج لفكرة أن الحريات العامة تعيق مسيرة التنمية، وغيرها من الدعاوى التي لم تكن حاضرة في السابق.
العالم أصبح قرية صغيرة، ومن الصعب التضييق على الناس وتكميم أفواههم، ومنع مؤسسات كالمجالس الوطنية ووسائل الإعلام من ممارسة دورها بالشكل المسؤول الذي يعبّر عن المصالح الوطنية
هناك تباينات في الرؤى بين قوى مختلفة، تتجلى بصورة أكثر بروزا في الحالة الكويتية، سواء تحت قمة البرلمان أو عبر وسائل الإعلام، وبشكل أقل في بقية دول الخليج. وما يثلج الصدر ويخفف من حدة الأزمة أن معظم الأصوات الداعية إلى تعزيز دور الحريات والتعبير صادرة عن كتّاب ومفكرين وإعلاميين يمثلون قوى مدنية تدعم قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وتتصدى لكل من يحاول المساس بها، وتؤمن بالعيش المشترك مع من تختلف معه، انطلاقا من حقيقة أن “الاختلاف لا يُفسد للود قضية”، بالإضافة إلى أنّ هذه الفئة تعرف أهمية وقيمة أن يتمتع الإنسان بحرية التعبير عمّا يراه مناسبا للقضايا مثار النقاش حولها من دون أن يتعرض للمنع والقمع، كما هو في دول وأماكن أخرى.
العالم أصبح قرية صغيرة، ومن الصعب التضييق على الناس وتكميم أفواههم، ومنع مؤسسات كالمجالس الوطنية ووسائل الإعلام من ممارسة دورها بالشكل المسؤول الذي يعبّر عن المصالح الوطنية، كما أسس له ومارسه الأولون بوعي وحس وطني، ومن دون مزايدات أو تنطعات، وبلا تخويف أو ممارسات تضعف من مهماتهما وتقلل من وجودهما، فالعقل والمنطق يدعوان مؤسسات التشريع ووسائل الإعلام إلى تحمل المسؤولية التي هي لصالحهما.
نحن في الإمارات انتهينا من انتخاب نصف أعضاء المجلس الوطني الاتحادي، وفي انتظار اختيار حكام الإمارات السبع النصف الآخر ليكتمل العقد. وأمنياتنا أن يمارس المجلس، في حدود صلاحياته، دوره في التشريع والرقابة، ورفع التوصيات للقيادة السياسية والحكومة بما يخدم مصالح الناس، ويعزّز التجربة البرلمانية، باعتباره “سلطة ثالثة” وأن نرى انتخاب رئيس المجلس وفق اللوائح المنظمة لعمل المجلس، وحسب توجيهات قيادتنا الرشيدة التي تدعو إلى المنافسة المتكافئة بين المترشحين.
ونتطلع في الدورة المقبلة إلى أن يسمح لكل من أتم السنّ القانونية بالإدلاء بصوته، وأن يزداد عدد أعضاء المجلس بالشكل الذي تراه القيادة السياسية مناسبا.