العرب ومستقبل سوريا.. شركاء لا فرقاء

مخطئ منْ يظن أن تحفظه، وربما رفضه الإدارة الجديدة في سوريا، سيفضي إلى استبعادها من المشهد بعد أن أصبح وجودها على أرض الواقع حقيقة يتعامل معها المؤيد والمعارض.
الخميس 2024/12/19
الطريق طويل.. والوعود البراقة لا تكفي

هل تظل المنطقة رهن فترة التوجس والترقب من بعض الأطراف العربية تجاه ما يحدث في سوريا من متغيرات متسارعة انتظارا لما ستسفر عنه من نتائج على أرض الواقع، ومن ثم النظر في التفاعل معها أم لا؟

إذا كان الأمر كذلك فنخشى أن تطول تلك الفترة إلى حدّ تفويت الفرصة السانحة لمشاركة عربية قوية وأساسية في دعم استقرار المنطقة، وحماية مصالحها، وتوجيه مستقبلها نحو حماية مكتسبات شعوبها، ومنعها من الانجرار إلى المزيد من التفكك والصراعات.

إن الركون إلى المخاوف مهما كانت مبرراتها ليس بالخيار المناسب في هذه الآونة، لأن ذلك يعني الإحجام عن المشاركة في مواجهة آثار المتغيرات السورية، وصياغة مستقبل المنطقة، ومن ثم قد نجد أنفسنا بعد فترة وجيزة أمام تعقيدات ومشاكل وأزمات فاقمتها مخاوفنا وتوجساتنا، وربما لا نملك حينها حلولها التي بأيدينا اليوم.

◄ الطريق طويل ومليء بالأشواك التي لا يكفي لإزالتها مجرد النيات الحسنة والوعود البراقة، وإنما تحتاج إلى بناء المستقبل الأفضل للجميع دون استبعاد أو إقصاء لأحد، والمشاركة في إعداد دستور جديد للبلاد

الحقيقة التي لا ينبغي أن تغيب عن الأطراف العربية كافة، مهما كانت التحفظات والتوجسات، أنه ليس هناك من مخرج إلا بالاعتراف بما هو واقع، والتعامل معه بما يحمي المصالح العربية، ويحفظ الأمن القومي العربي، وما سوى ذلك مضيعة للوقت، وإدخال المنطقة في خلافات وانقسامات هي في غنى عنها.

حقيقة أخرى تدفع في هذا الاتجاه تتمثل في مؤشرات عديدة على أن هناك تقبلا دوليا وإقليميا لما جرى، وربما عما قريب يرى العالم تقاربا بين الإدارة القائمة والمجتمع الغربي، فليس ذلك بمستبعد رغم التردد السائد في المواقف، خاصة مع وجود سلطة تعمل على أرض الواقع، ولديها أصدقاء وداعمون، كما أن هناك متخوفين ومترددين، وربما معارضين، وذلك مصدر تخوف وقلق من نوع آخر، ومؤشر على عدم جواز التردد في الاعتراف بهذا الواقع والتفاعل معه تحت ستار المخاوف والهواجس.

وحتى لا تتولد عن ذلك التردد انقسامات داخل النظام العربي وجيرانه في الإقليم، خاصة تركيا بعد أن تحسنت علاقاتها مع معظم دول المنطقة، وتكتسب العلاقات الإقليمية بها قوة في مواجهة التحديات المفروضة على المنطقة، ولسنا نبالغ إذا قلنا إنه ليس من المصلحة العربية الابتعاد عن تركيا في هذه الظروف، أو الاختلاف معها حول الشأن السوري، لأنه لن يكون إلا لصالح المشاريع الإيرانية وميليشياتها وحلفائها في المنطقة، وليس ما يحدث في العراق واليمن ولبنان وفلسطين ببعيد عن أذهاننا.

وكي لا تنجر الأمور نحو تعقيد المشهد، ومحاولة دفعها باتجاه التصعيد السلبي سواء عبر تصريحات أو مواقف لا تساعد على بناء الثقة مع القوى السياسية السورية، فالتسرع في قبول أو رفض تلك الدعوات وعدم إخضاعها لدراسات جادة واعية قد تأتي بردّات فعل غير متوقعة تؤدي إلى تصعيد الموقف بما لا يحقق مصلحة سوريا والمنطقة.

ويخطئ منْ يظن أن تحفظه وربما رفضه الإدارة الجديدة في سوريا سيفضي إلى استبعادها من المشهد بعد أن أصبح وجودها على أرض الواقع حقيقة يتعامل معها المؤيد والمعارض. ومن يصر على تجاهل الحقائق فكأنما يُقصي نفسه ويخلي مكانه، ويتنازل عن دوره لمن لا تُدرك غيرتهم على المصالح العربية، ولا يؤتمنون على مستقبلها بعد أن انكشفت أطماعهم، وتعرتْ أهدافهم الطائفية والمذهبية.

◄ الركون إلى المخاوف مهما كانت مبرراتها ليس بالخيار المناسب في هذه الآونة، لأن ذلك يعني الإحجام عن المشاركة في مواجهة آثار المتغيرات السورية

صحيح أن الشعب السوري وحده صاحب الحق الأصيل في توجيه حاضره، ورسم ملامح مستقبله، وتقرير مصيره، لكن هذا ليس على إطلاقه، فالمراحل المفصلية في حياة الشعوب، والتغيرات الكبرى، والتحولات التاريخية المحورية تفرض على الجميع الانفتاح على تجارب الآخرين، والإفادة من خبراتهم، لضمان وصول الجميع إلى بر الأمان، خاصة إذا كانت المصالح متداخلة، والمصير مشتركا، كما هو الشأن العربي.

وانطلاقا من هذه الحقائق تتأكد الحاجة إلى مشاركة عربية قوية تسهم في جمع الفرقاء السوريين على حماية المصالح الوطنية العليا، وإقامة نظام سياسي يلبي طموحات الشعب السوري بكل مكوناته، واحترام حقوقه دون أي تمييز على أساس العرق أو المذهب أو الدين، وضمان العدالة والمساواة للجميع، وحماية سوريا من الانزلاق نحو الفوضى، والحفاظ على وحدتها وسلامتها الإقليمية وسيادتها واستقرارها، وتهيئة الظروف لعودة اللاجئين إلى وطنهم.

ولا ينبغي أن تغيب الدبلوماسية العربية بثقلها السياسي، وخبراتها العريقة، وعلاقاتها المؤثرة عربيا وإقليميا وعالميا عن المشهد السوري، بل عليها أن تحتل مكانتها باعتبارها تمثل أمة لها تاريخ وحضارة، وتمتلك من المقومات السياسية والاقتصادية ما يعينها على المشاركة في صناعة المستقبل، وتوجيه النظام العالمي على جميع الأصعدة، وفي مختلف المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

ولعله من المفيد أن تتوزع جهود العمل العربي المشترك على مسارات متعددة ومتوازية بالتنسيق بين الأشقاء لتشمل التواصل الثنائي مع ممثلي الإدارة القائمة والقوى السياسية السورية من خلال أعضاء البعثات الرسمية في دمشق، وإرسال مبعوثين خاصين إلى سوريا لمناقشة القضايا المطروحة على الإدارة السياسية في الحكم، والاطلاع عن قرب على ما لديها، ومصارحتها بكل المخاوف والهواجس والتساؤلات التي تشغل السوريين والمنطقة والعالم، وتتوصل مع كل الأطراف إلى مشتركات تطمئن الجميع، وتضمن تضييق الفجوة في الرؤى والسياسات، للخروج باتفاق يحقق مصلحة سوريا، ويبدد مخاوف دول المنطقة والعالم.

◄ ليس من المصلحة العربية الابتعاد عن تركيا في هذه الظروف أو الاختلاف معها حول الشأن السوري لأنه لن يكون إلا لصالح المشاريع الإيرانية وميليشياتها وحلفائها في المنطقة

وينبغي أن يشمل التحرك العربي جهودا جماعية من خلال الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي والمؤسسات المنبثقة عنهما. وكذلك التنسيق بين ممثلي البعثات العربية في الهيئات الدولية، خاصة الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها. ويجب أن تنطلق التحركات العربية من هدفين كبيرين جامعين، الأول: إعادة بناء سوريا والحفاظ على وحدة شعبها وسلامة أراضيها، والثاني: حماية استقرار المنطقة، وتجنيبها أطماع القوى الإقليمية والدولية.

إن المتابع لما يجري في سوريا من تحولات سريعة لا يمكنه تجاهل التخوفات المشروعة لبعض دول المنطقة، وهذه التخوفات تزول بالحوار الواعي بمجريات الأمور والقادر على طرح معالجات مخلصة ترعى مصالح الجميع. وهذا ما اختارته دول عديدة على المستويين الإقليمي والدولي، في مقدمتها تركيا والولايات المتحدة وفرنسا والمبعوث الأممي وغيرهم.

وربما أدركت الإدارة القائمة، التي قادت المعركة ضد النظام السابق، تلك المخاوف والهواجس، فباتت ترسل إلى العالم رسائل غير مباشرة، تفيد بأنها تمتلك أدوات القوة والدعم الخارجي المنظم، وتسعى للتواصل مع الأطراف الخارجية. كما تقدم نفسها للعالم كحركة وطنية تعمل على إقامة نظام سياسي شامل يمثل كل السوريين.
صحيح أن المجتمع الدولي لن يُسلّم بهذه الرسائل بسهولة، نظرا لمواقف قديمة من ذلك الفصيل، لكن “المصالح -قد- تتصالح” أحيانا. وفي ما “تُروّجه” تلك الفصائل ما يمكن أن يكون مجالا للتحاور والتفاوض لتحويله إلى حقائق على أرض الواقع.

إن الطريق طويل ومليء بالأشواك التي لا يكفي لإزالتها مجرد النيات الحسنة والوعود البراقة، وإنما تحتاج إلى بناء المستقبل الأفضل للجميع دون استبعاد أو إقصاء لأحد، والمشاركة في إعداد دستور جديد للبلاد يساوي بين السوريين في الكرامة والحقوق والواجبات، ويضمن التعددية، والتداول السلمي للسلطة، ويحمي الحريات، ويحصن المؤسسات التشريعية والقضائية، وهو ما يحتم على الجانب العربي إسداء النصح للإدارة الجديدة، وحثها على تبني سياسات واقعية إذا أرادت لسوريا وشعبها وجميع مكوناتها تحقيق ما يصبون إليه.

 

اقرأ أيضا:

       • سوريا لن تكون للسوريين

       • عندما يتعلق الأمر بسوريا يصعب التنحي جانبا

 

8