إرث الشيخ زايد.. قبول التحديات وتحويلها إلى فرص

لعل من أبرز حقائق التاريخ وأهم دروسه هو أن القادة الذين يصنعون فارقا في حياة شعوبهم وأمتهم لا يرحلون. الإرث هو التسجيل التاريخي للحظة اجتمعت فيها عبقرية القيادة مع إرادة الوجود الإنساني لشعب، يستحضران معا مرحلة فاصلة، ولدت لتترك علامة تأسيسية تسترجعها الأجيال القادمة، من القيادات والشعوب، لتأكيد الامتداد.
يأتي المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، في مقدمة هؤلاء القادة الذين يظلون أحياء في القلوب، بما قدّم لأبناء وطنه وأمته والإنسانية من عطاء يُعدّ نبعا لا ينضب، ومواقف سجلها التاريخ بأحرف من نور في جميع المجالات، وعلى الأصعدة كافة.
ويُعدّ اهتمام الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، بإنشاء “مؤسسة إرث زايد الإنساني” وتشكيل مجلس أمنائها مبادرة تاريخية تستهدف تخليد إرث الشيخ زايد، وجهود رموز الدولة المستمرة في العمل الإنساني والخيري والتنموي، وإثراء حاضره ومستقبله.
◄ إننا أمام "إرث شامل" تتعدد فيه المزايا والاهتمامات والمجالات ويحتاج إلى تعاون الباحثين وأساتذة الجامعات في مختلف العلوم لاستخراج كنوز هذا "الإرث الإنساني" الذي أسسه زايد
إن الإرث الإنساني الفريد الذي تركه الشيخ زايد هو نبع لا ينضب للإنسانية، ازدان بالحكمة والإخلاص والإصرار على النجاح، والقدرة على تحدي جميع المعوقات، والتغلب عليها وصولا إلى إقامة دولة اتحادية قوية، وبناء تجربة ناجحة نالت إعجاب الجميع واحترامهم.
هذا الإرث يشير في مرحلة التأسيس إلى قدرة الشيخ زايد على تحويل أزمة انسحاب القوات البريطانية من الخليج إلى فرصة للإنجاز الوحدوي الذي تجسد بقيام دولة الإمارات واجتماع قادتها يدا واحدة بشعب واحد.
الإرث نفسه يشهد على سعي القائد المؤسس الدائم لتحقيق وحدة أبناء العروبة بالخليج من خلال قيام مجلس التعاون الخليجي عام 1981، إرساءً لدعائم الأمن والسلم للجميع، وتحقيق التضامن العربي استجابة لآمال وطموحات شعوب المنطقة. مرة أخرى استطاع القائد الشيخ زايد استشراف مخاطر أزمة عدم الاستقرار الإقليمي بعد اندلاع الحرب العراقية – الإيرانية عام 1980، لتكون الأزمة مفتاحا لانطلاق واحدة من أهم مشاريع التضامن الإقليمية في العالم العربي.
يُضاف ذلك إلى خصال خاصة جعلت الشيخ زايد محل إكبار الجميع وتقديرهم، أبرزها: الحكمة، وبُعد النظر، والمعرفة الدقيقة بأقدار الأمم والشعوب، وسعة الأفق، وتغيير الواقع إلى الأفضل، وتعظيم قدرة الدولة على مواجهة التحديات التي تعانيها المنطقة، والعمل على إعداد القيادات الميدانية الشابة لتحمل أعباء مسؤوليات المستقبل، وهو ما انعكس إيجابًا ومثّل نقلة نوعية في تاريخ المنطقة العربية لا تزال آثارها واضحة جلية على الواقع إماراتيا وعربيا.
رفض الشيخ زايد أن تتحول القضية الديموغرافية إلى معيق للنمو والتقدم. فحول اندفاع الشباب الإماراتي مع رغبة الطاقات البشرية العربية وأبناء الشعوب النامية وخبرات العالم المتقدم إلى مشروع نمو استثنائي حول دولة الإمارات أولا إلى نقطة انطلاق لتقدم عمراني وإنساني غير مسبوق، وإلى نموذج إقليمي تحاول الدول محاكاته.
إن تجربة الاتحاد التي أطلقها الشيخ زايد ورعاها وأحسن توجيهها، حققت نجاحا مشهودا، لم يُكتب لغيرها من التجارب التي شهدتها المنطقة قبلها، فأرسى بفكره الصائب ورؤيته الحكيمة وتطلعه الدائم إلى المستقبل الأفضل أساس نجاح تجربة الاتحاد ومنطلقه بما ملك من حب كبير وإخلاص شديد لوطنه وأمته، وإيمان عميق بعالمه العربي بعامة، والخليج خاصة.
◄ قيادات الإمارات، وفي مقدمتها الشيخ محمد بن زايد رئيس الدولة، ومؤسسات الدولة، تواصل السير على نهج القائد المؤسس، لتحويل الحلم إلى حقيقة
والوعي بإرث القائد المؤسس يقودنا إلى حقيقة أنه ما من تجربة بشرية ناجحة على مرّ التاريخ، إلا كان وراءها قادة عظام ومفكرون نابغون، تحدّوا الصعاب، وتجاوزوا العقبات، بفضل ما أعطاهم الله من رؤى وأفكار وصفات وملكات، لم تكن متاحة لغيرهم، في مرحلة من مراحل التاريخ، ويُعدّ الشيخ زايد في مقدمة هؤلاء القادة الذين تميزوا ببصيرة ثاقبة، ورؤى مستنيرة، وفكر سبّاق، وسمات شخصية قيادية، وإيمان راسخ بقيمه الدينية ومبادئه الأخلاقية، وتمسك بهويته الوطنية، وانتمائه إلى أمته. وتشهد مواقفه التاريخية، ومسيرته العطرة على سعيه الحثيث لبناء الإنسان: حاضره ومستقبله، وتلبية حاجاته، وتحقيق أمنه وأمانه، والنهوض بمعيشته، والرقيّ بمكانته، والتقدم بآماله إلى صفوف الأمم المتحضرة.
التمسك بالهوية الوطنية، هو الرد على تحدي تلاقي أكثر من 200 جنسية عالمية للإقامة والعمل على أرض الإمارات. تبقى هذه الهوية الإماراتية في مسارها العريق وسط حشد إنساني كبير وقيم من التسامح والعطاء.
وهو ما عبّر عنه في مناسبات عديدة، واضعا الاستثمار في الإنسان في مقدمة أولوياته، بوصفه “الثروة الوطنية الحقيقية”. وتكشف مقولته الشهيرة “يجب على الإنسان أن يكون رحيما بأخيه الإنسان” عن رؤية كريمة لما ينبغي أن تكون عليه حياة المرء، تنشئة وتعليما ورعاية شاملة، وضرورة توفير احتياجاته في كل المجالات، ذلك أنّ “القائد الحقيقي” عنده هو “الذي ينظر إلى شعبه نظرته إلى أفراد أسرته”.
ومن مزايا هذا الإرث الإنساني أن الإمارات تعدُّ نموذجا رائدا في الاهتمام بمجال الإعلام؛ فقد كان رحمه الله مقدرا لدور الإعلام والإعلاميين؛ فحظيا بمتابعته الدائمة عبر منافذ كثيرة، وفي بلدان عربية عدة لما تحمله أحاديثه وتصريحاته من رسائل وإضاءات، أبرزها مبادراته الدائمة في تحسين معيشة الإنسان، والرقي بمختلف مجالات حياته، بالإضافة إلى حرصه على تحقيق المصالحات العربية، والدعوة الدائمة إلى التقارب، وحل الخلافات، وإنهاء النزاعات، وأفرزت صراحته المعهودة واقعا إعلاميا مثاليا، ويعود إليه الفضل في ما وصلت إليه الإمارات من تطور كبير شهده قطاع الإعلام، وما حظي به من دعم للحريات والحقوق، وما تميز به من التعبير الصادق عن مختلف قضاياه الوطنية والقومية.
وتكشف مواقف الشيخ زايد التاريخية وأحاديثه عن توجّه أمين مخلص في مصلحة شعوب المنطقة، وحماية حقوقها، والسعي لتحقيق آمالها في غد أفضل، ولا يزال التاريخ يُردد كلماته، وكأنه اطلع ببصيرته على تحديات الحاضر، ولم يتجاهل دروس الماضي وما وقع فيه وانطلق منه إلى بناء “المستقبل الأجمل”، فما أعظم الإصغاء الواعي لهذه الكلمات الصادقة، والتحليل الأمين لدلالاتها وغاياتها وأهدافها، واستخلاص دروسها في هذه الآونة التي تمرّ بها أمتنا والعالم بتحديات غير مسبوقة.
◄ الإرث الإنساني الذي تركه الشيخ زايد نبع لا ينضب للإنسانية ازدان بالحكمة والإخلاص والإصرار على النجاح والقدرة على تحدي جميع المعوقات والتغلب عليها وصولا إلى إقامة دولة اتحادية قوية
إن كثيرين يتنادون إلى الإفادة من الإرث الفكري السياسي والاجتماعي والإعلامي والثقافي والإنساني للشيخ زايد، في مختلف المجالات، خاصة مناهج الدراسة الجامعية وقبلها، لتعريف الأجيال الجديدة بجهوده، وحرصه على تسخير كل الإمكانات المادية والبشرية وتوظيفها في بناء دولة قوية محصنة من أي هزات.
وتواصل قيادات الإمارات، وفي مقدمتها الشيخ محمد بن زايد رئيس الدولة، ومؤسسات الدولة، السير على نهج القائد المؤسس، لتحويل الحلم إلى حقيقة، إيمانا من الجميع بأن الاتحاد والوحدة قوة لمنطقتنا، وللمشروع العربي.
إن التحليل الأمين لأحاديث الشيخ زايد، طيب الله ثراه، والوعي الصادق بمواقفه التاريخية يقوداننا إلى حقيقة أنه سبق عصره فراسة، وحكمة، وبُعد نظر، وواقعية، وقدرة على تحويل الحلم إلى حقيقة، يدفعه إلى ذلك حب الخير للناس جميعا، كما يقوداننا إلى ضرورة تجديد الالتزام بما آمن به من قيم وأهداف سامية، وعلى رأسها تعزيز الأخوة العربية في مواجهة التحديات التي تواجه أمتنا من كل جانب، وتسعى لمحاصرتها في كل مجال.
خلاصة ذلك كله أننا أمام “إرث شامل” تتعدد فيه المزايا والاهتمامات والمجالات والغايات، ويحتاج إلى تعاون الباحثين وأساتذة الجامعات في مختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية والاقتصاد لاستخراج كنوز هذا “الإرث الإنساني” الذي أسسه زايد على تغليب الحوار والحلول الدبلوماسية في حل الخلافات والنزاعات، وفتح قنوات التواصل لبناء جسور الشراكة والتعاون، وتعزيز قيم التضامن والتسامح والتعايش السلمي، واستدامة النمو والاستقرار والسلم العالمي للأجيال المتعاقبة، ونبذ خطاب العنصرية والكراهية، ونشر ثقافة الاعتدال، بما يحقق الأمن والاستقرار والازدهار لشعوب المنطقة والعالم.