مساع تونسية لحماية تراث اليهود من النهب والتهريب

تونسيون وليبيون يتاجرون في مخطوطات تاريخية على شبكات التواصل الاجتماعي في تحد لكل القوانين.
السبت 2020/12/19
كنيس الغريبة أقدم معبد يهودي في أفريقيا

تونس – تسعى تونس إلى الحفاظ على التراث اليهودي، “المهدد” بفعل عمليات نهب وتهريب طالت قطعا أثرية عبرية “مهمة ونادرة” في تونس ومن ليبيا، تعدّ شاهدا على تاريخ اليهود في شمال أفريقيا، وهي قضية كانت تُعتبر من المواضيع “المسكوت عنها” قبل ثورة 2011.

وكشفت سعاد التومي، وهي محافظ مستشار في المتحف الوطني الشهير بباردو وسط العاصمة تونس، ”ّعملت خلال السنوات الأخيرة على جرد العشرات من القطع الأثرية العبرية المسروقة التي تبيّن أنها مهمة ونادرة”.

ولكن “اللافت كان وجود عدد كبير من اللُقيات المنهوبة من ليبيا، تسعى أطراف إلى تهريبها إلى أوروبا عبر الأراضي التونسية”، بحسب ما كشف مدير متحف التراث بكلية الآداب في تونس حبيب الكزدغلي.

وأكدت كاتي بول، وهي من مؤسسي جمعية “آثار بروجكت” الدولية غير الحكومية التي تعنى بالبحوث حول الاتجار بالآثار والإرث الأنثروبولوجي، أن “وسطاء تونسيين يتسابقون لاقتناء المخطوطات التي يطرحها ليبيون للبيع على شبكات التواصل الاجتماعي في تحد لكل القوانين”.

وحسب ما أكّد علماء آثار ومصادر رسمية، يتعرض قطاع الآثار في ليبيا، التي ترتبط مع تونس بحدود برّية مشتركة، لاعتداءات متنوّعة منذ سقوط نظام معمر القذافي عام 2011.

وكمؤشر على حجم الظاهرة، تنشر السلطات التونسية مرّات عدة في السنة، بيانات عن المضبوطات تدعّم بعضها بصور.

قطع أثرية لافتة

حبيب الكزدغلي: أطراف تسعى إلى تهريب أثار منهوبة من ليبيا عبر تونس
حبيب الكزدغلي: أطراف تسعى إلى تهريب أثار منهوبة من ليبيا عبر تونس

وتتمثل المضبوطات في مخطوطات مختلفة الأحجام تضمّ العشرات من الصفحات، نُسخت بماء الذهب أو الحبر الأسود ولُصقت أجزاؤها بأمعاء شاة أو ثور، ما يتطلب عملا مضنيا، بحسب ما أوضحت التومي، الخبيرة في مجال التراث اليهودي، واحتوت القطع الأثرية، على “أناشيد دينيّة وأدعية وحكم وزخرفة هندسية ونباتية وحيوانية وتجسيمات إنسانية نادرة وأبراج”.

وفي نهاية أكتوبر أعلنت وزارة الداخلية التونسية حجز مخطوطتين باللغة العبرية يتجاوز طول الواحدة منهما عشرة أمتار في ولاية نابل (شمال شرق)، تبيّن لاحقا أنهما تتضمنان أجزاء من التوراة تعود إلى بداية القرن العشرين.

كذلك أعلنت ضبط نسخة من التوراة “محفوظة بالكامل”، نُسخت بخط اليد بحبر خاص على جلد ثور يبلغ طوله 37 مترا، واحتوت على كامل أجزاء التوراة بأسفارها الخمسة. ووُصفت هذه النسخة بأنها “لافتة وفريدة من نوعها في العالم”، وسعت “أطراف أجنبية”، لم تفصح السلطات التونسية عنها، إلى شرائها العام 2017.

ومن بين المضبوطات أيضا ”ستة مجلدات ومخطوطات عبرية قديمة، حاولت شبكة اتجار بالآثار تنشط بين تونس العاصمة وبنزرت (شمال) وليبيا، بيعها لقاء 1.5 مليون دينار تونسي (470 ألف يورو)”، على ما كشفت وزارة الداخلية التونسية مطلع 2019.

وشملت المحجوزات كذلك أثاثا جنائزيا وكتبا دينية وسواها. ويعود تاريخ غالبية القطع المنهوبة إلى أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وإلى الفترة الوسيطة، على قول التومي. وهي محفوظة في “مخازن” يشرف عليها المعهد الوطني للتراث في انتظار أن ينهي القضاء التونسي النظر فيها.

وطالت عمليات النهب معابد يهودية في تونس. وتبيّن إحصاءات رسمية أن الإهمال والتخريب لحقا بأكثر من 70 معبدا من أصل 119 كنيسا تنتشر في المدن التونسية.

ولا يخفي رئيس الطائفة اليهودية في تونس بيريز الطرابلسي “المشاكل التي تواجهها بيوت العبادة” متسائلا “هل يُعقل سرقة كتب الله وبيعها؟”.

كذلك تعرضت منازل مهجورة ومقابر للمصير نفسه، وفق سعاد التومي التي عاينت بعضها في مدن الكاف وجندوبة (غرب) وسوسة (شرق) والقيروان (وسط).

بيع فصل من تاريخ تونس

مخطوطات نادرة
مخطوطات نادرة

والوجود اليهودي قديم جدا في تونس إذ يعود إلى أكثر من ألفي عام، وعززته موجات من اللاجئين وخصوصا من الأندلس، أواخر القرن الخامس عشر، بحسب المؤرخين.

وطبع اليهود ببعض تقاليدهم الحياة الثقافية في البلاد، وشغلوا ولو نادرا مناصب برلمانية ووزارية في تونس التي لا تربطها رسميّا أيّ علاقات مع إسرائيل، كما أن تيّارات سياسية تعارض التطبيع معها.

وقبل استقلال تونس العام 1956، كان في البلاد أكثر من 100 ألف يهودي غادروها على مراحل، في ظل الصراع العربي الإسرائيلي.

ويعيش في البلاد اليوم نحو 1500 يهودي يتركز القسم الأكبر منهم في جزيرة جربة (جنوب شرق) التي تحظى بمكانة خاصة عند اليهود، إذ يوجد فيها كنيس “الغريبة”، وهو أقدم معبد يهودي في أفريقيا.

وترقد في الكنيس الذي استُخدمت في بنائه قطع حجارة من هيكل سليمان الأول، واحدة من أقدم نسخ التوراة في العالم، بحسب المعتقدات.

ويحجّ اليهود إلى “الغريبة” منذ أكثر من 200 عام، بحسب الطرابلسي المشرف أيضا على تنظيم هذا الحدث الذي عادة ما يشارك فيه الآلاف من الحجاج من مختلف أنحاء العالم، غير أن عددهم تراجع بعد الثورة بسبب تصاعد العنف من قبل جماعات جهادية متطرّفة.

ويشعر الباحث التونسي لطفي عبدالجواد “بالظلم والحسرة” تجاه ما اعتبره “محاولات لبيع فصل من فصول تاريخ تونس” يمثّل ثلاثة آلاف سنة حضارة، ورأى في ذلك “ضربا للذاكرة الوطنية” واصفا التجاوزات بـ“الجريمة في حق الإنسانية”.

ووفق القانون التونسي الذي تمّ تنقيحه بعد 2011 لفرض عقوبات أكثر صرامة، يعاقب بالسجن عشر سنوات الأشخاص الذين “يمارسون تجارة ممتلكات ثقافية منقولة تُثبت قيمتها التاريخية (…) الوطنية أو العالمية”.

واعتبرت التومي أن “من أهمّ مكتسبات الثورة هي إمكان الحديث عن هذه التجاوزات الخطيرة، إذ كان من الصعب جدا طرح هذه المواضيع قبل 2011” في إشارة إلى ثورة 14 يناير 2011 التي أطاحت بنظام زين العابدين بن علي، وقد اتُهم مقربون من بن علي بالاتجار غير المشروع بقطع أثرية.

وأكدت التومي أن “المعلومات كانت تقتصر على الحفريات التي يُعثر عليها في مواقع أثرية أو التبرعات للمتاحف” في تونس التي حكمها بن علي بقبضة من حديد مدة 23 عاما.

وأعرب الكزدغلي، وهو عميد سابق لكلية الآداب، عن شغفه بمشروع ”حصر ودراسة الإرث التاريخي اليهودي التونسي” في إطار تعاون أكاديمي مع جامعات أوروبية، مشددا على ضرورة التعجيل بإقامة “متحف له لحمايته”.

وبادر حاتم بوريال، الناشط في المجتمع المدني التونسي، بإطلاق منصة لتبادل المعطيات والذكريات نهاية سبتمبر الفائت بهدف “بعث متحف افتراضي” يجمع أجيالا مختلفة بغية مقاومة النسيان.

5