مسؤولية رعاية الآباء المسنين تدفع إلى القطيعة بين الأشقاء

الخلافات بين الأشقاء بسبب من يتحمل مسؤولية رعاية أحد الوالدين أو كليهما قد تصل حد القطيعة. لذلك ينصح استشاريو العلاقات الأسرية بضرورة الاتفاق المسبق بين الإخوة حول مسائل رعاية المسنين وإقامتهم وزيارتهم وتوضيحها لتجنب الخلافات. وقد تتعمق تلك الخلافات إذا كانت العائلات تعيش بعيدة عن بعضها بعضا.
يؤكد خبراء العلاقات الأسرية أن القرار حول كيفية رعاية أحد الوالدين المُسنين أو كليهما غالبا ما يكون مصدرا للنزاع والنقاش داخل الأسر وقد يدفع إلى القطيعة بين الأشقاء.
ويشير الخبراء إلى أنه حتى بعد وضع الترتيبات اللازمة، تظل الحاجة لمواكبة النقاش والتواصل بصورة دائمة، لأن الصراعات العاطفية “شائعة جدا” عندما تعيش العائلات بعيدا عن بعضها البعض، أو حتى عندما تكون بجوار بعضها.
ويحمل التقدّم في السن معه ضعف البصر والسمع وتراجع القدرة على النهوض والمشي، والأسوأ من كلّ ذلك المعاناة من فقدان القدرات العقلية، والإصابة بمرض الزهايمر. وغالبا ما تقع مسؤولية رعاية الوالدين المسنين على عاتق أحد أولادهما الذي قد يشعر بصعوبة هذه المهمّة، لاسيّما إذا كان عليه في المقابل إهمال أفراد أُسرته واحتياجاتهم وأهدافهم الشخصية.
كما تعتبر رعاية الشخص المسن من بين إحدى أهم مسؤوليات الأبناء، ولأنها تتطلب بذل الجهد والوقت فإنها قد تتحول إلى مصدر للخلافات والنقاشات الحادة بين الأشقاء خاصة في الحالات التي يحاول فيها بعضهم التهرب من مسؤولياته تجاه الأب أو الأم المسنة.
وتقول نهلة الزياني البالغة من العمر 34 سنة، أستاذة مادة الفرنسية بإحدى معاهد محافظة الشمال الغربي، إنها تقيم مع والديها المسنين وهي التي ترعاهما وتهتم بشؤونهما رغم أنها أخت لثلاث بنات وأربعة أولاد.
الاتفاق المسبق بين الإخوة حول مسائل الرعاية والإقامة والزيارة وتوضيحها من خلال اللقاءات العائلية، يساهم في تجنب الخلافات بينهم
وتضيف لـ”العرب” أنها في شبه قطيعة مع إخوتها الذكور لعدم تحملهم لمسؤولية والديهم ولإلقائهم لكل كبيرة وصغيرة تخصهما على عاتقها هي.
وتؤكد أنها في الآونة الأخيرة اضطرت لمقاطعتهم نهائيا لعدم الوقوف إلى جانبها عندما أصيب والدها بأزمة نفسية جراء جائحة كورونا ما استلزم نقله إلى العاصمة، مشيرة إلى أنها هي من تكفلت بمصاريف العلاج ومصاريف التنقل.
كما تؤكد رانية البحري موظفة بالقطاع الخاص أن سكنها بعيدا عن منزل والديها دفع بأشقائها إلى معاداتها كونها لا تتحمل معهم مسؤولية رعاية والدتها.
وتشير البحيري إلى أنها لا تستطيع زيارة والدتها من حين لآخر لأن أسرتها بحاجة إلى الاهتمام خاصة وأن لديها بنتان صغيرتان في أمس الحاجة لمن يرعاهما.
وأكد الصحبي بن منصور أستاذ الحضارة بجامعة الزيتونة أن رعاية الآباء في كبرهم نعمة لمن أدركها وهي أيضا فتنة في الوقت نفسه باعتبار صلابة طباع وسلوك الجيل القديم مقارنة بجيل الأبناء والأحفاد الجديد، وما يسببه اختلاف الطباع من مشاكل ومن غضب الوالدين وشعور الأبناء بالذنب.
وقال بن منصور لـ”العرب” “ينضاف إلى ذلك امتناع زوجات الأبناء الذكور عن رعاية والدي أزواجهن خاصة إذا كانت بين الواحدة منهن وبين حماتها نزاعات أو خلافات أو ذكريات سيئة. وتختلف طبيعة الرعاية بحسب حالة الوالدين الصحية والنفسية والعقلية والمادية والاجتماعية…
وفي المجمل فإن رعاية الوالدين أو أحدهما جهاد حقيقي لا يختلف عن مكابدة الأب والأم في الإحاطة خلال الصغر بأحد أبنائه، لكن هنالك حالات كثيرة من أنانية بعض الأبناء أو انصياعهم في حال اتسامهم بضعف الشخصية لأوامر زوجاتهم التي تنص على التنكر لهما أو لأحدهما وقطع الصلة بهما ولهذا تعج دور المسنين بحالات مؤسفة تدل على عقوق الوالدين”.
ويرى بن منصور أن كل التشريعات والقوانين وردت خادمة لتماسك الأسرة في ظل إعلاء منزلة الوالدين كما تأخذ الدولة بعين الاعتبار على الصعيدين الصحي والاجتماعي رعاية كبار السن والأخذ بأيديهم والحيلولة دون تشردهم في الشوارع ودون إهمالهم صحيا وغذائيا. لكن يبقى من العار أن يتنازع الإخوة من أجل ألا توكل إليهم أعباء العناية بوالديهم أو بأحدهما في مقابل تنافس بعض الأبناء في حالات أخرى من أجل استضافة أو إيواء الوالدين. وأكد أن الابن الذي لا يرعى والديه سيعاقب اجتماعيا من معارفه الذين سيحكمون عليه بالعقوق أي عدم توفر أدنى رادع أخلاقي أو ضمير حي لديه… و”من لا يرحم والديه لن يرحم الآخرين ولذلك سيقسون عليه استباقا وسينفرون منه”.
وترى ابتسام نعمة الباحثة الاجتماعية العراقية أن ازدياد المشاكل الاجتماعية غير الإنسانية، ومن بينها عقوق وهجران الوالدين، أو التخلي عنهما؛ تعود لعدة أسباب، أبرزها غياب الوازع الديني والأخلاقي، وغياب الإحساس بالمسؤولية، والظروف المعيشية الصعبة لدى الأبناء وانشغالهم بالعمل بعيدا عن رعاية الوالدين، أو قد يكون الاستقلال المالي للأبناء أحد الأسباب، فضلا عن انتشار المخدرات والمسكرات والتفكك الأسري بمسبباته الكثيرة.
وتشير نعمة إلى أن المسنين المرضى والمقعدين والمصابين بارتعاش الأطراف وفاقدي الذاكرة والحالات المشابهة هم الشريحة الأكثر تعرضا للإهمال، ويتعرضون غالبا للإيذاء بعد وفاة الزوج أو الزوجة، موضحة أن المسنين داخل منازلهم يواجهون يوميا مختلف أنواع العنف، وزادت تلك الممارسات خلال فترة الحجر الصحي بعد تفشي وباء
كورونا.
ويشير خبراء علم الاجتماع إلى أن الاتفاق المسبق بين الإخوة حول مسائل الرعاية والإقامة والزيارة وتوضيحها مسبقا ومن خلال اللقاءات العائلية التي تناقش في هدوء، يساهم في تجنب الخلافات بينهم وعدم تحميل المسؤولية لأحدهم مهما كان ترتيبه في العائلة.
كما أن هذه الطريقة لا تشعر المسن سواء كان الأم أو الأب بأنه صار عبئا ثقيلا على أولاده، وهو ما يمكن أن تنجر عنه العديد من المتاعب النفسية بسبب الشعور بالعجز والضعف أو الخوف من المستقبل ومن إهمال أبنائه له. ويجد اليوم العديد من الآباء والأمهات المسنين أنفسهم في منظمات ومؤسسات رعاية المسنين بسبب الخلافات بين الأشقاء حول تحمل مسؤولية رعايتهم.
وفي دراسة أجرتها أُستاذتان من جامعة ولاية نيويورك، هما أُستاذة الصحّة العامّة ماري غلانت، وعالمة الاجتماع غلينزا سبيتز، حاولتا فيها معرفة ما يبحث عنه الأهل المسنون في علاقتهم مع أبنائهم عبّر المشاركون عن رغبة قوية في المحافظة على الاستقلالية، في موازاة التواصل الجيِّد مع أبنائهم.
ويطرح هذا الشعورتناقضا معيّنا، إذ عرّف أغلبهم أنفُسهم على أنّهم مستقلون؛ ولكنّهم يأملون في أن تكون مساعدة أبنائهم لهم متاحة عند الحاجة، كما عبّروا عن الشعور بالضيق من الإفراط في الحماية التي يتلقّونها من أبنائهم في الوقت الذي يقدرون فيه القلق الذي يعبّر عنه أبناؤهم تجاههم.
و يستخدم هؤلاء المسنين مجموعة متنوعة من الإستراتيجيات للتعامل مع مشاعرهم المتناقضة، مثل التقليل من المساعدة التي يتلقّونها، أو تجاهل أو مقاومة محاولات الأبناء للسيطرة على مجريات حياتهم.
ويرى الخبراء أن مفتاح التعامل مع هذه التغييرات هو القبول والأمانة من كلا الجانبين والتواصل الجيِّد. ويحتاج الأبناء إلى أن يكونوا قادرين على التحدّث بصراحة بشأن المخاوف التي يعيشونها، والتي تتعلّق بصحّة أو موقف الوالدين. كما أنّ دورهم يجب ألا يتمثّل في مجرد إرضاء الوالدين، بل مساعدتهما على التعامل بفعالية مع التغييرات التي حملها إليهم التقدّم في العمر.
كما يحتاج كبار السن إلى تقبّل قيود جديدة فرضت على حياتهم، وإلى أن يكونوا قادرين على طلب المساعدة عند الحاجة وقبولها بشجاعة. وفي بعض الأحيان، أفضل شيء يمكن القيام به هو تقييم الوضع معا أو البحث عن علامات تحذيرية لتحديد ما إذا كانت هناك حاجة إلى طلب مساعدة خارجية للتعامل مع الأوضاع الجديدة.
وتشير الكاتبة تيا واكر، صاحبة كتاب “مقدّم الرعاية الملهم.. إيجاد الفرح ونحن نقدّم الرعاية لأُولئك الذين نحبّ”، إلى أن تقديم الرعاية لمن كانوا يقدّمون الرعاية لنا في وقت من الأوقات، هو أعلى مرتبة من مراتب الشرف.