مزارع مسن يعيش آخر أيامه وحيدا بين ذكرياته الممتعة

"ضوء المساء الساطع".. رواية تحتفي بسيرة الحياة وسط الطبيعة.
السبت 2021/11/06
الحياة مع الذكريات (لوحة للفنان وليد نظامي)

أفاد الشعر الرواية بالكثير من لغته وبنيته القائمة على التكثيف والتقاطاته القائمة على عمق التأمل وصياغة الفكرة بشيء من العاطفية والتمهّل والعمق. ربما يعيب الكثيرون على من يكتبون الرواية ويغرقونها في الشعر، ما يشوهها ويجعلها معلقة خارج الشعر والسرد والبناء المحكم له، لكن شعراء وكتابا كثيرين وفقوا في تطويع الشعر للرواية وقدموا أعمالا أخاذة على غرار الشاعر البلجيكي كارل فان دي فوستاين.

ما الذي يمكن أن يتذكره مزارع مسن يعيش الساعات الأخيرة لموته وحيدا على فراشه؟ الزوجة الراحلة، الأبناء الذين تركوه وحيدا، كفاحه في الحياة، همومه، نزواته، علاقاته النسائية، الأصدقاء، لحظات الفرح والحزن، إنه يكتب سيرة حياته بحلوها ومرها حيث تتداعى اللحظات الجديرة بالتذكر.

هذه الرواية “ضوء المساء الساطع” للشاعر والصحافي كارل فان دي فوستاين تحكي سيرة هذا المسن التي تمثل انعكاسا لمأساة الملايين من البشر الذين يخشون الوحدة والموت.

شاعرية الرواية التي ترجمها السيد طه وصدرت عن دار صفصافة، لم تمنع الكاتب من طرح رؤيته الفلسفية حول الحياة الحسية، حيث التفاصيل والأفكار العميقة والحكايات الممتعة لجماليات الحياة الإنسانية المعيشة في الطبيعة.

رواية شاعرية

شاعرية الرواية لم تمنع الكاتب من طرح رؤيته الفلسفية حول الحياة الحسية بتفاصيل وأفكار عميقة وحكايات ممتعة
شاعرية الرواية لم تمنع الكاتب من طرح رؤيته الفلسفية حول الحياة الحسية بتفاصيل وأفكار عميقة وحكايات ممتعة

بطل الرواية المزارع المسن ناند مربي المواشي الذي يتمدد محتضرا في سريره. وقد امتلأ هواء غرفته في الطابق العلوي من منزله برائحة الذكريات، يصحبنا إلى أجواء تحتفي بسيرة الحياة وسط الطبيعة التي نشأ بين أحضانها، وأطياف النساء اللاتي عرفهن ويتتابعن على ذاكرته واحدة تلو الأخرى، وتفاصيل يومه ما بين متابعة زراعاته والذهاب إلى السوق لبيع مواشيه وللعب البولينغ، علاقته بزوجته ولحظة موتها وإغلاقه لعينيها بإبهامه وسبابته ودورها وأبنائه الذين تركوه لوحدته.

إن دي فوستاين يحوّل عتمة الوحدة والموت إلى ضوء ساطع يكشف ثراء ما نعيشه حتى في أوقات الألم والحزن، مؤكدا عمق الوجود الإنساني وحضور الطبيعة ومفرداتها كفاعل أساسي في خلق هذا الوجود في أدق تفاصيله، حيث تتجلى رؤية الشاعر الجمالية وقدرتها على التقاط فعل الطبيعة والمهمش الذي سقط من الذاكرة وإعادة الخلق وبث الروح، حتى لا نكاد نرى ناند وحيدا ينتظر ملك الموت، بل إن كل ما يحيط به من عوالم مادية أو محسوسة يشاركه الإحساس بالوجود: الكرسي، تمثال العذراء، إناء الماء المقدس، الغبار، أرضية الغرفة الورسلين، صورة الابنة، برودة الهواء، العتمة، الضوء، حضور الزوجة واستلقائها بجانبه، لتتدفق الذكريات بحواراتها بأجوائها الدافئة ولحظاتها الغاضبة.

يكتب دي فوستاين روايته بشاعرية إذ هو شاعر بالأساس، وعلى الرغم من أنه كتب عددا لا بأس به من المقالات الصحافية والنقدية والأعمال الأدبية القصيرة، بالإضافة إلى روايته الوحيدة التي كتبها بالتعاون مع هيرمن تيرلينك، إلا أن مجموعاته الشعرية الثلاثة عشر تمثل قمة إبداعه الأدبي.

رؤية للحياة

استعادة زمن غائب

في الرواية الكثير من عوالم الكاتب نفسه، فقد وُلد فان دي فوستاين (1878 ـ 1929)، وهو شقيق الفنان التعبيري والرمزي الشهير غوستاف دي فوستاين، في مدينة جنت في الإقليم الفلمنكي البلجيكي. وعلى العكس من معاصريه، أمثال إميلي فيرهايرن (1855 – 1916)، وموريس مايترلينك (1862 – 1949)، الذين كتبوا بلغة الثقافة في ذلك العصر، اللغة الفرنسية، كتب هو بلغته الأم حيث درس فقه اللغة الجرمانية على الرغم من تواصله الأدبي مع الرمزية الفرنسية وعشقه الخاص لشعر بودلير. كما ارتبط ببيئته وقد انعكس ذلك على لغته الشعرية التي احتفت بمفردات الطبيعة.

قضى دي فوستاين خلال السنوات بين عامي 1900 و1906 بعض الوقت في معسكر فني في قرية سانت مارتنز لاتيم، ثم عمل كمراسل صحافي للعديد من الصحف الهولندية، حيث كان يتابع الأحداث السياسية والثقافية، وفي عام 1920 عُين أستاذا في جامعة جنت حيث درس تاريخ الأدب والفن. وقد حصل على جائزة August Beernaert للأكاديمية الملكية الفلمنكية للغة والأدب وجائزة الدولة الرئيسية للأدب الهولندي، وجائزة الدولة السنوية للأدب الهولندي، وحصل بعد وفاته على جائزة الدولة للأدب الفلمنكي.

دي فوستاين يحول عتمة الوحدة والموت إلى ضوء ساطع يكشف ثراء ما نعيشه حتى في أوقات الألم والحزن
دي فوستاين يحول عتمة الوحدة والموت إلى ضوء ساطع يكشف ثراء ما نعيشه حتى في أوقات الألم والحزن

يقول مترجمه للإنجليزية في تقديمه للرواية “كتب دي فوستاين الشعر متأثرا بشعراء الرمزية الفرنسية، أمثال بودلير ولافورج ومورياس. وفي مجموعاته الشعرية الثلاث الأخيرة ‘ربما كُتبوا كثلاثية‘، حاول تجاوز الحواس من أجل الوصول بروحه إلى الحرية الصوفية”.

 ويضيف “مكن توضيح رؤيته عن الأغلال التي تكبل الكاتب، من خلال إحدى قصائد مجموعته الشعرية الأخيرة، وهي القصيدة التي يتكرر ظهورها في المراجع الأدبية المختلفة يقول: أنا البندقة – تعيش دودة ناعمة وشاحبة/ في حجرتي، تقضم تلك العمياء مني./ أنا التي تجعل بذوري من الظلمة عافية./ أنا الفراغ الذي لم يطلب شيئا أو يشتكي./ أهجرني، وبالألم المرح، أطعن نفسي./ أنا الوجبة الدائمة، التي تتغذى عليها/ الديدان الحمقاء في الحلقات المغلقة/ تلك الديدان الشاحبة، نافدة الصبر، ناكرة الجميل./ ولكن، لو لمسني إصبع طفل، فيمكنه أن يخمن قصتي:/ يمكنه أن يسمع فراغي، لأني أصدر صوتا، لأني أغني”.

ويضيف عن الرواية “قد يبدو غريبا أن يكون العمل الذي اشتهر به دي فوستاين، وهو الذي كرس حياته كلها من أجل كتابة الشعر، هو هذه الحكاية عن مزارع مسن، تزوره مجموعة من الشخصيات قبل موته، تجسد حواسه الخمس، وتذكّره بالسعادة التي شعر بها أثناء حياته المتواضعة. يرى المؤرخ الأدبي جيرارد كنوفيلدر تلك الحكاية باعتبارها تعبيرا عن الحياة الحسية المغرقة في الماديات، وبذلك تعتبر الحكاية انعكاسا لرؤية دي فوستاين الإشكالية حول الحياة الحسية”.

13