مرزاق علواش يسدد طلقة طائشة ضد الإرهاب

من الأفلام المثيرة للجدل التي عرضت في مهرجان روتردام السينمائي الـ48، الفيلم الجزائري "ريح رباني" للمخرج المخضرم مرزاق علواش الذي يواصل من خلاله تشريحه الحاد لظاهرة الإرهاب السياسي باسم الإسلام في الجزائر.
روتردام (هولندا)- اختار المخرج الجزائري المخضرم مرزاق علواش (75 عاما) أن يجعل فيلمه الجديد “ريح رباني” بالأبيض والأسود، وهو نفس اختياره لفيلمه السابق “تحقيق في الجنة” الذي كان يدور حول الموضوع نفسه الذي يشغل اهتمام علواش منذ ربع قرن، أي منذ أن قدم فيلمه الشهير “حومة باب الواد” (1994)،
وهو موضوع التطرف الإسلامي الذي أنتج الإرهاب الذي صبغ وجه الحياة في الجزائر طوال سنوات التسعينات، التي عرفت بالعشرية السوداء، وما زالت بقاياه وآثاره قائمة.
كان “تحقيق في الجنة” عملا جريئا في شكله ومضمونه، صحيح أنه اتخذ طابع “الريبورتاج” أو التحقيق التلفزيوني ولكن لم تكن تلك سوى حيلة لكي ينفذ علواش إلى جوهر موضوعه متخفيا في شخصية صحافية تلفزيونية تعد مادة عن مشايخ الدين ومفاهيم التطرف وكيف تغلغلت واستقرت وسط أذهان عموم الجزائريين من سكان الريف الذين يؤمنون بوجود “حور العين” في الجنة.
في ريف الجزائر الصحراوي، في نواحي تيميمون وبالقرب من أدرار في أقصى جنوب غربي الجزائر قرب حدودها مع مالي، يدور “ريح رباني” الذي أراده علواش عملا قليل الحوار، أقرب إلى الصمت، حيث يطغى صوت الريح الصحراوي على شريط الصوت، ويمتد الأفق دون أن تبدو له نهاية على شريط الصورة.
الفراغ والجفاف والصمت القاتل هي العناصر التي تصنع هذا الفيلم، أما البشر فثلاثة أشخاص، شاب حضري اسمه “أمين”، وامرأة تدعى “نور” (أو هكذا تقول عن نفسها)، وامرأة أخرى تدعى “الحاجة” أي لا اسم لها في الفيلم، تقيم خارج قرية في تلك المنطقة الصحراوية الجافة المعزولة.
غموض الشخصيات
المشكلة الأساسية أننا لا نعرف الكثير عن الشخصيات الثلاث، فالشاب أمين، الذي يرتدي الملابس العصرية ويسدل شعره كما يليق بأحد نجوم موسيقى الروك، يقود سيارة من سيارات الدفع الرباعي، أي أنه ينتمي بوضوح إلى الطبقة الميسورة الحال.
ومن خلال الاتصالات التليفونية المستمرة التي يتلقاها، نعرف أن والده يرغب في الاطمئنان عليه وأن أمين أوهمه أنه لا يزال في برشلونة، بينما هو في طريقه إلى تلك المنطقة الجافة المحدودة السكان في الجنوب، في منزل الحاجة الذي وصف له باعتباره “مكانا مؤمنا” يقيم حيث يتوضأ ويصلي ويقرأ القرآن، ويتناول الحساء الذي تعده له الحاجة.
بعد رحلة طويلة تل حق به نور عند الحاجة، لنستنتج أنها مرسلة من قبل “الجماعة” لكي تقوم معه بعملية تفجير انتحارية في منشآت نفطية تابعة لشركة سوناطراك الحكومية.
من هو أمين؟ ولماذا اختار أن يسلك هذا الطريق؟ وما دوافعه لذلك؟ وما علاقته بالجماعة الإسلامية المسلحة؟ ولماذا وهو الذي يبدو محبّا للحياة، رافضا الموت، يرضخ هكذا حتى اللحظة الأخيرة لتلك المرأة الصارمة العنيفة نور التي يعرف بعد قيامه بتفتيش حقيبتها وهاتفها، أنها كانت في الرقة في سوريا وأنها تحمل جواز سفر تركيا إضافة إلى جوازها الجزائري، وهي الآن عازمة على القيام بهذه المهمة الانتحارية رغم أنها أيضا محبّة للحياة، فهي تنهض في الصباح الباكر لكي ترقص رقصة شبه وثنية في الصحراء بينما يراقبها أمين متهللا؟
ونور لا تمانع ولا تمنع أن ينجذب أمين إليها ويشتهيها أيضا، كما لا تتشبث بحجاب رأسها الذي تنزعه كثيرا وهي معه في “خلوة”، وتتركه أيضا يتحسّس جسدها، وغالبا، تستسلم لممارسة الجنس معه، وبعد ذلك تنهض لتمارس طقسا من طقوس التوبة، ثم تقرأ القرآن.
وبين لحظة وأخرى، ترتد نور مجددا إلى إنسانة فاقدة الروح والرغبة في الحياة، تمتلئ عيناها بالشر والحقد والكراهية، لا شيء يحول بينها وبين قيامها بذبح الحاجة بالسكين، عندما تكتشف أنها قامت بالوشاية بها لدى رجل الأمن عن طريق الهاتف المحمول الذي كانت تخبئه.
أما الحاجة فأمرها لا يقل غموضا عن نور، ودوافعها غير مقنعة مثلها، وهي التي تؤوي الاثنين وترحب بهما في بيتها ثم تتمرد على الحظر الذي فرضته نور على جهاز التلفزيون وتقوم بإعادة توصيل الطبق اللاقط، هل هي تابعة للجماعة أيضا؟ أم أنها كانت منذ البداية عميلة للأمن مدسوسة على الجماعة؟
أما نور فكل ما نعرفه عنها أن شقيقتها قتلت في إحدى العمليات، وهي تحتفظ بصرة لها معها تبكي كلما تطلعت إليها، لكن ما هذا التمزق في شخصيتها الذي يجعلها تستسلم لرغباتها الجنسية في لحظة، ثم تتحول إلى شخصية متشددة متنمّرة شرسة في اللحظة التالية، تحلم بالاستشهاد ودخول الجنة؟
تناقضات ظاهرية
أمين دون شك، هو أكثر شخصيات الفيلم سطحية وعدم إقناع: فكيف وهو الشاب المقبل على الحياة، ينضم إلى “الجماعة”؟ وما هي ظروف تجنيده؟ ولماذا قبل المضي في تلك الهمة الانتحارية؟ ولماذا لم يتراجع عندما أدرك أنه سيموت؟ أوليس من الحماقة والسذاجة أن يقول لنور قبيل النهاية إنه يحبها بينما العلاقة بينهما لم تتطور أصلا لترقى إلى مستوى الحب، ولم يكن يعرفها قبل وصولها إلى منزل الحاجة؟
ولعل السؤال الأكثر أهمية هو: ما الذي يريد أن يعبّر عنه أو يقوله لنا بالضبط مرزاق علواش من خلال فيلمه هذا ولم يعبر عنه في أفلامه السابقة حول الموضوع نفسه، أي ما الجديد الذي يقدمه وما هي الزاوية الفنية التي دفعته إلى إخراج فيلم كهذا يضعف من مسيرته أو على الأقل لا يضيف لها جديدا؟ وما هذا السياق السردي البائس الذي اختاره؟ وكيف يمضي في تصوير فيلم لا يمتلك أصلا مقومات الدراما حتى بالمفاهيم البدائية الأوّلية؟ وما هذه الشخصيات السطحية الهشة التي لا تقيم بناء، ولا تسند عملا دراميا؟ وكيف يصنع علواش فيلما من موضوع محدود الحدث إلى درجة البؤس، ويعجز عن تطويره ورفده بالتفاصيل التي تثريه وتجعله عملا يثير اهتمام المتفرج، ويدعوه للتأمل، قياسا حتى على أفلام علواش السابقة نفسها؟
تستغرق رحلة نور من لحظة ركوبها الحافلة حتى وصولها إلى منزل الحاجة زمنا طويلا على الشاشة، ولا يقع شيء على الطريق على عكس ما توحي لأول وهلة بعض التفاصيل مثل انتظار ثلاثة رجال غامضين على حافة الطريق، ثم توقف الحافلة بعد قليل لكي يركب الرجال الثلاثة، يجلس اثنان ويقف أحدهم بجوار الباب، لكن لا شيء يحدث.
أمين أيضا يقطع رحلة طويلة مملة لا يحدث خلالها شيء، إنه يتوقف حينا لاحتساء القهوة ثم يسير في ساحة البلدة الصحراوية التي يمكننا أن نرى كيف ينتمي سكانها لأصول عربية وأفريقية.
هناك بعض الهواجس والكوابيس الليلية التي تهاجم نور وأمين، لكنها عابرة وتفتقد للدلالة الدرامية خارج مجال التعبير السطحي المباشر عن الخوف والقلق، ويبدو إقبال نور على ممارسة الجنس مع أمين كما لو كان تعبيرا عن رغبتها في تجربة تلك “المتعة” للمرة الأخيرة قبل الموت (لا نعرف ما إذا كانت هناك مرات سابقات؟)، لكنها في الوقت نفسه تبدو على يقين بأن الجنة في انتظارها، والآيات المختارة بعناية من القرآن التي ترددها بصوت مرتفع، تدعم هذه النظرة.
هناك محاولات من جانب مدير التصوير لإضفاء ملامح خاصة على الصورة: الفضاء الخالي والنخيل وانعكاس أشعة الشمس على الأشجار القليلة ثم ظهور الأفق من بعيد في ظلام الليل على صورة مظللة للنخيل، هذه الصور تبدو كما لو كانت تعمّق من الشعور بالانتظار.
ولكنه الانتظار العدمي، فليس هناك في مسار الفيلم ما لا ينحرف بالحبكة لكي يوقظ الحدث، والمتفرج معا، من ذلك السبات العميق، والسبب الأساسي في هشاشة العمل كله يعود دون أدنى شك إلى غياب سيناريو قوي محكم يتعمّق في الظاهرة سواء من الناحية السياسية أو الأيديولوجية، ليبقى “تحقيق في الجنة” التسجيلي متجاوزا في وضوح رؤيته وثراء بنائه “ريح رباني”، بل وكل أفلام علواش عن الموضوع نفسه.