مدارس مصرية ترسخ ثقافة التطوع لدى الأطفال

القاهرة - لا تهتم الأسر في مجتمعاتنا العربية بحالة اللامبالاة التي ينشأ عليها الأطفال اليوم، فلا تنتبه لغرس مبادئ مثل التضامن والانخراط في العمل التطوعي لتخليص الأبناء من طغيان المادة، واعتمدت إحدى المدارس في القاهرة منذ أيام أسلوبا جديدا لتعليم الأجيال الناشئة ثقافة العطاء بلا مقابل، فخصصت احتفالية كبيرة من دون ربط المسألة بأي مناسبة، تأكيدا على أن العطاء لا يقتصر على يوم بعينه.
ورفضت المدرسة تبرع الفتيات بالهدايا أو المال للجمعيات الخيرية التي توزعها مثلما حدث في السنوات السابقة، واتبعت نمطا لا يتضمن طرفا وسيطا بينهن وعمل الخير، وتعرض الفتاة للبيع أشياء صنعتها بنفسها، وتشتريها طالبات أخريات أو أحد أولياء الأمور، وتتبرع بالمقابل للمحتاجين.
وكان أسهل على المدرسة أن تجمع التبرعات مثلما تفعل كل عام، لكنها رأت أن خروجها من المعادلة يعطي أريحية أكبر ويزيد مساحة الإبداع ويوطد مشاعر التكافل الإنسانية لدى الأطفال.
وتحت شعار “حضور الغير لا يعوض حضورك”، تراصت الطاولات بمفارشها البيضاء في فناء المدرسة وتحولت الطالبات إلى عاملات للإنسانية بعد أن خلعن الزّي المدرسي، تجمعهن مشاعر العطاء والعمل نحو الأكثر حاجة للمساعدة.
وأكدت مديرة المدرسة أن الطفل يملك منذ سنوات عمره الأولى “حس التطوع والعطاء وطاقة كبيرة يمكن توظيفها في عمل خيري منظم، ومن الضروري تهيئة الأجواء لتنمية هذا الجانب من خلال الأهل والمدرسة، أملا في أن تنتقل المبادرة من المدرسة إلى المنزل لتصل إلى نطاق أوسع بين أفراد المجتمع”.
العمل الخيري يتكون لدى الطفل منذ نشأته وينمو بوجود بيئة ملائمة، وبعدها ينتقل من تعلمها إلى ممارستها
وطال جفاء المشاعر المحيط المجتمعي وتسلل إلى داخل أسر كثيرة، وبدأ الأهالي يشتكون من معاملة أبنائهم ويبدون تخوفهم من أن يكون مصيرهم في الكبر وضعهم في دار للمسنين. وأعربت أمهات كثيرات عن شعورهن بقسوة أطفالهن وأنانيتهم وإيثارهم لمصالحهم الشخصية وبخلهم في مساعدتهن، وشعر آباء أن الأبناء يتعاملون معهم على أنهم صراف آلي للنقود.
وانتبه أعضاء الإطار التربوي في المدرسة إلى المستجدات التي تسللت للأطفال، ورأوا أن جزءا من علاج المشكلة يقع على عاتقهم، فقرروا الاهتمام بثقافة العطاء وتحويل الكلمة إلى فعل؛ ليشعر الطفل بمعانيها، وتدريجيا يتحول العطاء إلى جزء من نظام الحياة.
وترى ماري، مشرفة برياض الأطفال، أن جيل اليوم يجذبه العالم الافتراضي، ولكي يخرج من قوقعته لا بد أن يكون الواقع أكثر جذبا له، لذلك عندما تكاتفت الجهود لترسيخ فكرة ثقافة العطاء تقرر أن تكون بشكل مختلف وشيق ليتعرف عليها الطفل ويعي أبعادها.
وجاءت طالبة بارعة في الطهي بمخبوزات ساعدتها والدتها في تجهيزها، وأخريات صنعن أشياء للبيع مثل لوحات فنية ومشغولات يدوية، وقدمت بعض الفتيات خدمة غسيل السيارات مقابل مبلغ زهيد.
وارتدت الطفلة ريتال نادر ذات التسعة أعوام ملابس الفنانة فيروز في فيلم “دهب” وراحت تصدح بكلمات الشاعر بيرم التونسي وتردد “كروان الفن وبلبله مش لاقي حد يؤكله، ويغني على من يجهلهُ ده يشتمهُ وده يزغدهُ”، وسط تصفيق المتواجدين.
وأوضح حامد عبدالواحد، أستاذ الطب النفسي بالقاهرة، أن العمل الخيري يتكون لدى الطفل منذ نشأته وينمو بوجود بيئة ملائمة، وبعدها ينتقل من تعلمها إلى ممارستها. وكانت الأسرة والمدرسة هما المنوط بهما القيام بهذا الدور، وعندما انصرفا عنه واعتبراه من الكماليات، تربعت الأنانية وحب الذات وانتشرت الحوادث الغريبة في الأسر العربية بلا استثناء.