محمد مندور الناقد المعادي لطه حسين

محمد برادة يستكشف ملامح النقد العربي خارج أسوار الأكاديميا.
السبت 2020/02/29
الناقد الدنيوي مختلف (لوحة سارة شمة)

شيخ النقاد محمد مندور واحد من الأسماء النقدية الكبيرة، التي استطاعت أن تخرج النقد الأدبي من قاعات المدرجات، إلى التفاعل مع الواقع وتشتبك مع كل ما يصدر من كتابات بغية تقييمها، ومع محاولاته التي لم تتوقف منذ رحلته إلى فرنسا للحصول على الدكتوراه، إلى عودته إلى مصر، وانخراطه مع هذه الكتابات الجديدة. لكنه جوبه بهجمات شرسة.

لم تلق جهود محمد مندور النقدية الاستحسان من معاصريه كطه حسين الذي أوفده في بعثة إلى فرنسا، بل هو الذي جذبه إلى دراسة الأدب، بعدما أعجب به في إحدى محاضراته التي كان يتردد عليها مندور حبا في الأستاذ.

لم يكن طه حسين وحده المعنف له ولكتاباته، فمندور في نظره “ليس ذا بال في الثقافة وليس له دور فكري هام في حياتنا الثقافية في هذا القرن”، أما كتابه “النقد المنهجي عند العرب” فوصفه بأنه “كتاب هايف”، نفس هذا الرأى تردد بصيغة أو بأخرى في سيرة الدكتور عبدالرحمن بدوي، “حياتي”، فهو الآخر لم يكن راضيا عن مندور واشتغالاته النقدية، بل قلل من معرفته بالفرنسية التي نقل منها إلى العربية الكثير.

النقد الدنيوي

يسعى الناقد المغربي الدكتور محمد برادة، في كتابه الصادر مؤخرا بعنوان “محمد مندور وتنظير النقد العربي”، لإعادة قراءة مندور ومنجزه النقدي، ووضعه في سياقه الحقيقي، باعتباره ناقدا دنيويا سعى للتحرر من قوالب النقد المدرسي، فمندور يعتبر ممثلا لاتجاه طلائعي في النقد العربي طيلة أكثر من عشرين سنة (1944-1966)، إلى جانب التأثير الذي لا يزال يمارسه بواسطة كتبه المقررة في المعاهد والجامعات.

يرى برادة أن كتابات مندور، تمثل الاتجاه الموازي لحركة النقد المدرسي، التي كان يقودها أساتذة الجامعة، باعتمادهم لعقود طويلة على المنهج اللانسوي، وعلى بعض من مناهج التاريخ الأدبي والسوسيولوجيا الوضعية. مقابل هذه الكتابات كانت ثمة حركة أخرى تحْرث أرض الواقع، بمواكبتها للإبداعات الجديدة في الشعر والرواية والقصة والمسرح، يمكن وصفها بالنقد الدنيوي المتحرر من القوالب المدرسية. وهو ما كان بمثابة إعلان صراع خفي بين حركة النقد التي تقودها الجامعة باعتبارها الحصن المتفرد بإضفاء الشرعية وتحديد مقاييس النقد ومناهجه، وبين التيار الذي نشأ خارج أسوار الجامعة، وضم بمعيته بعض النقاد استنادا على تجاربهم الإبداعية.

النقد أداة معرفية
النقد أداة معرفية

الكتاب يتخذ من منهج نقد النقد أداة معرفية في قراءة محمد مندور، وفحص نتاجه النقدي، باعتبار نقد النقد هو المحفز “لبلورة طرائق إبداعية مستجدة، والضمان الحائل دون تجمد القوالب وسيادة المنوالية واجترار البلاغة المقننة”. كما أن المؤلف يراعي في قراءته لهذا المنهج مفهوم النقد على كونه ليس مجرد شرح أو تفسير للنص، بقدر ما هو خطاب معين يتفاعل مع سجلات معرفية ويستثمر الخبرة الذاتية والشعورية؛ لينتج بدوره معرفة تتوخى تنْسيب الحقيقة وفتح النص على التأويلات الممْكنة”.

هدف برادة من دراسته لمندور، باعتباره ذا تمثيلية ثقافية، هو البحث عن أزمة النقد ذاتها، التي لا يفصلها عن الأزمة الشاملة للمجتمع. لذا لم يدرس مندور من خلال كتاباته، أو بمعزل عن الشروط المتحكمة في المجال الثقافي، فمندور منذ عودته من بعثته أدرك بدوره ثقل الفعل المغير وسط “الشروط المتيحة” بتعبير بيير بورديو، أي جملة العناصر والمكونات والصراعات التي تتيح للفرد أن ينجز شيئا ما، لا حسب مشيئته أو تمنياته وإنما وفق تلك الشروط المتيحة. فجاءت الدراسة أشبه بدراسة تحليلية عن تاريخ مندور وسيرته الذاتية في مجالات عدة مثل السياسة والنقد الأدبي والشعر، وقراءة في أسباب تحولاته الثقافية والسياسية، وكيف تمت هذه التحولات الفكرية في مسيرة مندور النقدية من تأثيرية، وتحليلية ثم أيديولوجية. ومن ثم يتوقف عند علاقة مندور والمثاقفة، وتـأثير الثقافة الفرنسية عليه خلال إقامته الدراسية في باريس (1930- 1939) وهو ما ظهر جليا في تأثيرات لانسون عليه.

في فصل “مندور والمثقافة أو المرحلة التأثيرية” لا يهتم برادة برسم صورة شخصية (بورتريه) لمحمد مندور وبسيرته اللدنية في تصوير علاقته بمجتمعه، أو حتى تقديم تفسيرات نفسانية لسلوكه ومواقفه، «اقتناعا بأن كل كتابة هي في جوهرها نتاج جهد وذكاء، وتستجيب لشروط مادية قابلة للتحليل»، وإنما انشغل باستكشاف مسار تكوين مندور وإضاءة مسيرة تعلمه واستخلاص العوامل الفاعلة والحاسمة في ذلك.

يقر برادة أن محمد مندور قبل سفره كان متسلحا بثقافة عربية واسعة وكان لديه اطلاع واسع على دواوين الشعر العربي القديم. وهذا لا ينفي عدم اطلاعه على النقد الغربي في هذه الفترة، بل كان ثمة نزوع لقراءة التراث وتقييمه وفقا لمقاييس الثقافة الغربية على نحو ما فعل العقاد مع ابن الرومي، وطه حسين مع أبي العلاء. وفي فرنسا كانت سنواته لتقليب جذوره الفكرية والاستقرار داخل ثقافة موسوعية. وقد ربط بين تأثيرات هذه المرحلة ونتاجه النقدي، فرأى أن بروز التكوين الثقافي الأكاديمي الغربي عليه، رغم إعلانه مراعاة الحقائق المتميزة للأدب العربي. حتى في مقالاته السياسية انعكست الأفكار الأوروبية عن الديمقراطية والليبرالية على كتاباته، وبذلك تكون هذه الثقافة الغربية صنعت لا وعْيه الثقافي.

الانعكاس المتلقي

يتوقف برادة عند دراسة الحقل الثقافي في مصر، في الفترة ما بين 1936 و1952، وهي الفترة التي انخرط فيها مندور في المجال السياسي تاركا النقد الأدبي، بغية استكشاف الدوافع الحقيقية للتغيرات المتتالية التي عاشها مندور أو عرفها الحقل الأدبي المصري. وهو ما يعني دراسة العلائق والآليات المحركة لمجموع الحقل الثقافي، وهو ما يشير إلى تبني محمد برادة لتصور مفاده تبعية الأدبي الثقافي للسياسي.

دفاع عن التعددية الحزبية
دفاع عن التعددية الحزبية

وهو ما كشفه من تردد أصداء مصطفى كامل الوطني الرومانسي، وأحمد لطفي السيد العقلاني الأرسطي، في المحاولات الروائية الأولى على نحو ما أشار عبدالمحسن طه

بدر، في إشارة إلى أن الفكر المصري الحديث بما في ذلك التجديد الأدبي، برز من تحت معطف أحمد لطفي السيد. دون التقليل من الدور الذي لعبته الجامعة المصرية آنذاك في إضفاء المشروعية داخل الحقل الثقافي المصري، ثم المجلات الأدبية المدعمة. كان لهذه العوامل السابقة الدور الكبير لأن يدْرج مندور ضمن مفهوم المثقف العضوي، بسبب انخراطه في الصراعات السياسية واتجاهه إلى التنظير المذهبي.

ومع ثورة 1952، سعى مندور لاستمرار نشاطه السياسي، وأعلن موقفه من الديمقراطية والحرية، فأصدر كتابه “الديمقراطية السياسية” (1952)، في الدفاع عن التعددية الحزبية، لكن الناصرية كسلطة وأيديولوجيا سارت في طريق صادم بأنْ ألغت الأحزاب، وهو ما كان إيذانا بعودة مندور إلى الكتابة الأدبية من جديد.

هذه التغيرات السياسية، إضافة إلى السفر إلى الاتحاد السوفييتي، جعلاه يكتشف الواقعية، التي دفعته إلى تعديل بعض آرائه. وقد بدأت تظهر سمات ذلك في تحليلاته الجديدة، التي لم تفارق ما دأب عليه في بداياته، باستثناء عنايته بالمحتوى والقيم الجديدة التي غمرت الساحة. فظهر اهتمامه بالعامل الاجتماعي – السياسي في دراساته للشعر. وقد كشفت هذه العودة إلى السياسة مع ممارسته للكتابة النقدية؛ أن كتاباته النقدية ملتزمة بقوة في الصراع السياسي – الأيديولوجي حتى غدت كتاباته انعكاسا متلقيا بعد أن كان انعكاسا مبدعا.

كتابات مندور تمثل الاتجاه الموازي لحركة النقد المدرسي، التي كان يقودها أساتذة الجامعة لكن الأيديولوجيا أضعفت منجزه

تفوقت دراساته في المسرح، على باقي دراساته للفنون الأخرى، كالشعر الذي جاءت دراساته عنه (في مجملها) دفاعا معتدلا عنه، وقد احتوت في بعضها على بعض الخلاصات العامة وقدمها كمسلمات وفرضيات مسلم بها. أما نتاجه في النقد الروائي، فهو محدود ولا يكاد يتجاوز نطاق المبادئ والملاحظات العامة.

بصفة عامة كما يقول برادة إن مندور الناقد ساهم أكثر من المبدع، في تجسيد التفكير الأيديولوجي السائد خلال حقبة تاريخية معينة. فمن خلال تنظيراته التي أخذت سمتًا أيديولوجيا استطاع أنْ يبلور حواشي أيديولوجية كانت تتشكل وتنمو ضمن شروط اجتماعية – اقتصادية، وبكتاباته كان يعبر عن رؤيته للعالم.

غلبة التأثير الأيديولوجي السلبي حوّل مندور إلى مجرد عاكس لمواقف يستخلصها من الأعمال الأدبية، واضعا في ذهنه نظرية المرآة. كما أن منهجية مندور المطبوعة بنزعة أرسطية ونوع من الوضعية الذرائعية، قلما ساعدته في النفاذ إلى الأعمال الأدبية بما لها من خصوصية ودينامية، كما أنه لم يوفق في بلورة إطار نقدي نظري يستمد منه منهجيته ويطورها حسب الموضوعات المعالجة. فكثير من تفسيراته وتحليلاته للأعمال والظواهر الأدبية، اكتسبت طابع الارتجال أو الصدفة.

15