محمد فتحي المقداد لـ"العرب": الرواية انتقام الشعوب من حكامها

كاتب سوري لم تثنه الحرب ومهنة الحلاقة عن كتابة الروايات والقصص والنقد.
الخميس 2024/08/08
أنا صورت البسطاء وصورتهم الصادقة

لقد كان للرواية السورية فضل كبير في كشف تفاصيل ما حدث في البلاد بعد 2011، إذ تناولت بأساليب مختلفة ومن زوايا متنوعة الواقع السوري إما مباشرة أو رمزيا أو عبر العودة إلى الماضي، وغيرها من مداخل لإيصال صوت سوريا المكلومة. “العرب” كان لها هذا اللقاء مع محمد فتحي المقداد، أحد الروائيين السوريين الذين غيرت حياتهم الحرب.

يحاول الروائي والقاص السوري محمد فتحي المقداد في أعماله الأدبية التي صدرت خلال السنوات الماضية اقتناص كل ما هو جوهري وتاريخي وامتلاك شكل إبداعي صارخ بذاتيته.

وأصدر الكاتب الذي يعيش في مدينة إربد الأردنية ويعمل حلاقا ليكسب قوت يومه العديد من الروايات والأعمال الأدبية المنوعة، ومنها رواية “بين بوابتين” و”دعْ الأزهار تتفتح”، ورواية “دوامة الأوغاد” و”شاهد على العتمة” التي صدرت في بغداد، ورواية “الطريق إلى الزعتري”، إضافة إلى مجموعتين قصصيتين إحداهما بعنوان “زوايا دائرية” والأخرى “سراب الشاخصات”، إلى جانب كتاب نقدي حمل عنوان “مقالات ملفقة”.

حول حضور بعض ملامح طفولته الأولى، ومدى انعكاسها على تجربته الروائية على صعيد الواقع والحلم والذاكرة، يقول المقداد “لقد امتص دمي لون تربة بصرى الشام، وسحْنتي النحاسية الغامقة اكتسبت اسمرارها من سواد حجارة سرير بنت الملك، ومئذنة العروس، ولدت فيها سنة الصهاريج أيام العطش 1964، لأبوين انفصلا منذ شهوري الأولى، توزعت مشاعري ما بينهما، وبصرى مسرح لمدارج طفولتي، ونشأتي الأولى، وعيتها قرية، وتركتها مدينة أواخر 2012 في تهجير قسري”.

ويضيف “اصطحبت ذاكرتي مشحونة بتفاصيل بصرى، باحثا عن ملاذ آمن لأطفالي في مخيم الزعتري. شهادتي الثانوية مازالت معلقة هناك على جدار غرفتي، لهيب الحزن أحرق نصف ذاكرتي؛ باحتراق مكتبتي فخر ممتلكاتي الأثمن والأسمى”.

ويذكر المقداد أنه بدأ بكتابة روايته “الطريق إلى الزعتري” قبل خروجه من بيته بمسافة زمنية، توزعت كتابتها على مساحة ثلاث سنوات، وطبعت بداية 2018، وقد سبقتها كتابة رواية عن الثورة “دع الأزهار تتفتح”، وقبلهما كانت ذاكرة المكان في رواية “بين بوابتين”، البوابتان هما “بوابة الهوى، والبوابة النبطية”، وبعدها ولدت رواية “تراجانا” وهي فنتازيا تاريخية متزاوجة مع الواقع، إضافة إلى مجموعة قصص قصيرة “زوايا دائرية”، ومجموعة قصص قصيرة جدا “سراب الشاخصات”.

يعتبر المقداد جازما أن ولادته الثانية 2015 تزامنت مع بكْري كتاب “شاهد على العتمة”؛ عندما رأى النور في بغداد، ثم تكررت ولادتي الثالثة بصدور روايتي “دوامة الأوغاد” عام 2016، ومع صدور كتابي “مقالات ملفقة”؛ ليكون مختلفا ومتمايزا عن الرواية والقصة.

الحرية والورق الأبيض

يحاول الروائي والقاص السوري محمد فتحي المقداد في أعماله الأدبية التي صدرت خلال السنوات الماضية اقتناص كل ما هو جوهري وتاريخي وامتلاك شكل إبداعي صارخ بذاتيته
◙ محمد فتحي المقداد يحاول في أعماله الأدبية اقتناص كل ما هو جوهري وتاريخي وامتلاك شكل إبداعي صارخ بذاتيته

واختار ابن بصرى جنوب سوريا مسرحا لروايته “الطريق إلى الزعتري”، وتحديدا قرية سماها موْج، وعن سبب اختياره لها كبنية مكانية في الرواية، وعلاقته بهذه القرية، يقر بأن ذلك جاء كمحاولة للخروج من دائرة التشخيص، ولأنه يعتبر أن كفاية الحدث أعظم من جزئيات التسميات، ابتعادا عن توقعات الخلافات والمهاترات.

ويتابع قائلا “لقد ترسخت لدي فكرة الهروب إلى رمزية الاسم، باختيار كلمة موْج دلالة على كل ما حدث في سوريا من جنوبها إلى شمالها، ومن شرقها إلى غربها، وتولدتْ فلسفة الكلمة: من توتر البحر الدائم النابض بحياة دائمة”.

وفي عالمه الروائي اعتاد المقداد أن ينقل لنا اليومي والآني برؤية جديدة وإحساس بكْر. وحول قدرة التفاصيل الدقيقة والآنية على إكساب ديمومة خاصة إذا كانت قابلة لتأويل الواقع وتقييمه يرى محدثنا أن “الوعاء الروائي يتسع للواقع بتفاصيله الدقيقة، وقادر على تجسيده مادة مقروءة تتناقلها الألسن متناولة لها بالقراءة والنقد والحكم عليها أو لها. وما كتب سيقرأ لاحقا إن لم ينتبه له حاضرا، ومن هذا المعنى؛ فيكون قد اكتسب صفة الخلود، عندما تتناقله الأجيال القادمة. وعلى رأي أحد الشعراء حينما سئل عن الفن الروائي، قال: الرواية هي انتقام الشعوب من حكامها. حينما انتقلت إلى تسجيل حياة البسطاء الذين لا صوت لهم؛ فكانت صوتهم، وصورتهم الصادقة بلا رتوشات وتزويقات”.

يركز المقداد في روايته “الطريق إلى الزعتري” على البعد الإنساني، وقصص البسطاء والمهمشين في ظل الحرب؛ وهو ما يجعل القارئ متعاطفا مع أحداثها. وعن علاقته بهذه الشخوص، وهل هي واقعية أم هي محض خيال، يرى أن الرواية جاءت مزيجا دراميا من الواقع والخيال الأدبي، ما أتاح له هامشا واسعا مريحا لحركة شخوص الرواية وتعددية الأصوات في طيات السرد.

وحول قصور الأعمال الأدبية وبخاصة الرواية حيال توثيق إرهاصات الحرب في سوريا يرى المقداد أن هذا الأمر عائد إلى ظروف خارجة عن إرادة الكتاب الروائيين، فضيق العيش وحياة القلق والخوف من المجهول داخل سوريا وخارجها منع انطلاق آفاق الكتابة والإبداع، ولكن -كما يقول- هناك  العديد من الأعمال التي ولدت من رحم الحرب، وهناك أسماء جديدة لامعة استطابت الحياة في مناخ الحرية؛ فأبدعت.

وكغيره من الكتاب تشغل مسألة الحيرة في الإبداع المقداد، وحول مدى ممارسته لحريته الخاصة على الورق الأبيض بعد أن تخلص من ملاحقات الرقيب يرى المقداد أنه لا يستطيع أن يفكر ما دام الرقيب يقف بالمرصاد لكلماته، فالتحرر من قيوده أطلق العنان لرؤاي لترتفع في سقف التفكير، فراحت تتلمس حدود الكون من كافة اتجاهاته. ويردف قائلا “بياض الورق خلاصٌ من سواد قاتم يحيطني محاولا تكبيلي، والحجْر على أفكاري؛ لتجييرها إلى أمر مغاير لقناعاتي”.

فوق الأرض

◙ الوعاء الروائي يتسع للواقع بتفاصيله الدقيقة وقادر على تجسيده مادة مقروءة تتناقلها الألسن متناولة لها بالقراءة
◙ الوعاء الروائي يتسع للواقع بتفاصيله الدقيقة وقادر على تجسيده مادة مقروءة تتناقلها الألسن متناولة لها بالقراءة

ويحضر المكان بحميميته الآسرة في العديد من أعمال المقداد وبخاصة “بصرى الشام” رغم ابتعاده القسري عنها لسنوات، وعن سر هذا الارتباط الحميمي بهذه المدينة وما الذي تعنيه له كإنسان وأديب سوري يلمح محدثنا إلى أن المكان عزيز على قلوبنا جميعا بما جرى فيه من أحداث، والحدث هو ما أكسب قيمة عليا للمكان الجامد، وبما بقي من ذكريات فيه.

ويتابع “بصرى الشام التي شهدتْ ولادتي ويفاعتي ومراتع طفولتي هي الكون بأجمعه. وصورتها أزهى صورة في ذهني، وهي ملهمتي بآفاق واسعة، وبما أدرك من صور الحياة المختزنة في ذهني، والأماكن تاليا ترتحل معنا وفينا وإن غادرناها. وفي البعد تزداد ألقا وسموا في أرواحنا، وزهوا في قلوبنا، وعلى رأي الشاعر محمود درويش: الطريق إلى الوطن.. أجمل من الوطن”.

إضافة إلى رواياته التي تناولت وطأة الحرب وإرهاصات اللجوء والغربة كتب المقداد رواية بعنوان “فوق الأرض” تناولت فكرة السلمية ونبذ العنف والعنف المضاد وحمل السلاح.

وعن الفكرة التي أراد إيصالها من هذا العمل الروائي يبين المقداد أن العنف والعنف المضاد تسببا في مأساة كبيرة تأثرت بها كل الشرائح الاجتماعية والإثنيات الدينية والقومية، وخلقا حالات فظيعة من التهجير القسري انتشرت على مختلف بقاع الدنيا، والظلم السياسي الذي تعرضت له غالبية فئات المجتمع السوري على كل الأصعدة ساهم في تشتيت شمل المنظومة الاجتماعية إلى فئات متناحرة بين تأييد ومعارضة، وظهرت مصطلحات جديدة ناتجة عن الحرب التي امتدت لسنوات ناهزت العشر ولا تزال.

ويختم "روايتي ‘فوق الأرض’ التي كتبت بأسلوب حداثي، تحاول مقاربة هذا الواقع مبتعدة قدر الإمكان عن النقل المباشر للحدث المنبثق من الواقع، مقدمة الفكرة فيها من خلال الاشتغال على المونولوجات الداخلية للأبطال".

12