محمد عيسى المؤدب: الرواية هي التي تقودني إلى معرفة الحقيقة

"حذاء إسباني".. تاريخ منسي بين تونس وإسبانيا من كارتاخينا إلى قليبية.
الجمعة 2023/03/17
الكتابة لم تعد خرافة وحكايات جدات

يمكن للروايات اليوم أن تعيد قراءة التاريخ وأن تنبش في ما هو مهمش ومقصي ومنسي، لا من باب الحنين أو غيره من الانفعالات وإنما لفهم الحاضر من خلال ما حدث في الماضي. هكذا تعود بنا رواية “حذاء إسباني” للكاتب التونسي محمد عيسى المؤدب إلى تاريخ تونس المغيب، تاريخ يجمعها بإسبانيا، ويؤكد أن هذا البلد الصغير كان مساحة كبيرة للحب.

قدم مركز الفنون الدرامية والركحية بمحافظة سليانة (شمال غرب تونس) حلقة جديدة من برنامجه الشهري “أنا كاتب” والذي يخصصه للاحتفاء بالكتّاب التونسيين وآخر إصداراتهم ونقاشها بحضور جمهور من محبي الأدب والمتابعين.

واحتفى المركز في الحلقة الجديدة برواية “حذاء إسباني” للكاتب التونسي محمد عيسى المؤدب، الرواية التي تعود إلى تاريخ منسي من تونس وإسبانيا من خلال دمج أسلوب المذكرات والتراسل واليوميات.

وطن الحب

تحكي الرواية، الصادرة عن دار مسكلياني، مذكرات مانويل قريقوري الضابط الإسباني الذي فر رفقة عسكريين ومدنيين آخرين من الحرب الأهلية في إسبانيا، بين قوات فرانكو المدعومة بالفاشيين والنازيين والجمهوريين الذين وقع التنكيل بهم وبعائلاتهم بأبشع الطرق. تاريخ منسي يعود المؤدب لينبش فيه بذكاء مستعيدا صورة تونس بلد التعايش والتسامح والذي كان مفتوحا للجميع دون استثناء.

وقال محمد عيسى المؤدب “روايتي تدخل في مشروع متكامل يفكر فيه كل مثقف تونسي عاش سنوات ما بعد الثورة يتساءل عن بلاده ليكتشف أنه لا يعرفها. ارتأيت أن أبحث عن هوية هذا البلد، لذا عدت إلى التاريخ في ثلاث روايات ‘جهاد ناعم’ و’حمام الذهب’ نهاية بـ’حذاء إسباني’. موضوع الرواية في الظاهر يتحدث عن الضابط الإسباني مانويل قريقوري الذي فر مع ثلاثة آلاف وخمس مئة بحار إسباني وخمس مئة مدني منهم من رسا في تونس وآخرون في الجزائر”.

رواية "حذاء إسباني" إحياء للماضي لنقول للحاضر إن تونس لا تستحق ما تتعرض له وإنها مساحة حب وتسامح
رواية "حذاء إسباني" إحياء للماضي لنقول للحاضر إن تونس لا تستحق ما تتعرض له وإنها مساحة حب وتسامح

وأضاف الكاتب “للأسف التاريخ التونسي يسكت عن هذه الحادثة. هناك مقابر اليوم مثلا في محافظة القصرين التونسية ومناطق أيضا من الوطن القبلي بتونس، مثل المقبرة اليهودية في تونس العاصمة، لكن رغم تلك الشواهد فالتاريخ مجهول. لذا كان لا بد أن أنبش وأبحث لأكتب عن هؤلاء، وقد استعنت بالدكتورة فيكتوريا فرنانديز دياز في جامعة فالنسيا الإسبانية وهي التي أمدتني بكتاب مختص ودقيق وشامل في توصيف المرحلة. وهذا من المفاجئ إذ تهتم أوروبا بتاريخها بشكل واسع بينما نهمل نحن تاريخنا”.

وتابع “كتابة هذه الرواية لم تكن سهلة. اليوم عندما نسرد التاريخ روائيا فالخطأ غير مسموح، باعتبار أن اليوم رواية ما بعد الحداثة أصبحت تنظر إلى التاريخ وتقدم المجتمعات والأحداث وغيرها، لذا لا بد أن تقنع المتلقي، وهذا ما حاولته وأنا أعود إلى زمن الثلاثينات وما لحقه من مدينة إلى أخرى بداية بكارتاخينا ومدريد في إسبانيا وصولا إلى تونس وبنزرت وحلق الواد وقليبية وقابس، مدن تونسية لا نعرف كيف بنيت فيها الجسور والطرقات في عهد الاستعمار، ومن هؤلاء الذين ساهموا في تشييد هذه المنشآت الإسبان”.

وقال المؤدب “وأنا أكتب هذه الرواية وأبحث، ماذا سأقدم جديدا وأنا أتناول الحرب الأهلية الإسبانية التي كتب فيها الكثير، من روايات وقصص وأشعار ومسرحيات وغيرها. قلت هذا البلد الصغير تونس الذي أصبح في السنوات الأخيرة بلد الكراهية والحقد والتباغض، كان سابقا يحضن جميع الأقليات ممن احتموا بتونس. تونس التي أتاها الصرب هاربين والروس أيضا عام 1919، والإسبان أيضا سنة 1936، واحتضنت حتى الفلسطينيين في الثمانينات. هذا البلد الصغير كان بلد الحب وكان حضنا دافئا. لكن بعد الثورة تحول إلى بلد طارد يقتل أبناءه وانتشر التطرف وظاهرة التسفير إلى بؤر التوتر والهجرة غير النظامية والتطرف وغيرها من المظاهر السلبية”.

وبين المؤدب أن هذه الرواية تندرج في هذا الإطار لإحياء الماضي لنقول للحاضر إن هذا البلد لا يستحق ما يتعرض له من تنكيل وتشويه. لذا كانت “حذاء إسباني” دعوة إلى الحب. وحتى الأماكن التي تناولتها موجودة حقا مثل نزل فلوريدا الذي أسسه ضابط إسباني. إذن الشخصية الروائية حقيقية لها شخصية مرجعية في الواقع.

وشدد الروائي التونسي على أن تونس استطاعت التغلب على الدكتاتور فرانكو الذي كان يلاحق الهاربين، واستطاعت أن تتغلب على الاستعمار. لذا يمكنها أن تنتصر مجددا على واقعها الصعب.

الرواية الحديثة

تذكرنا الرواية بالوجود الإسباني المفارق في تونس، الإسبان الذين قدموا غزاة إلى تونس في القرن السادس عشر، عادوا في القرن العشرين هاربين من الدكتاتورية، وقد تقبلهم التونسيون بكل حب.

وبين المؤدب كيف عاد مانويل الضابط ليتحرك في نفس الأماكن التي هدمها الإسبان في القرن السادس عشر، ولكنها تحتضنه، ليصنع تاريخا آخر، وتترسخ بذلك مسألة المصالحة  والتسامح والحب والتأسيس لمنظومة جديدة. التاريخ كان هاجسا حاضرا.

وتابع المؤدب “الفن في الحقيقة، ليس الرواية والأدب فحسب، ليس له رسالة تعليمية مباشرة. انتهت النزعة التعليمية التي كانت تهيمن على الفنون مع القرن الثامن عشر والتاسع عشر. الآن الرسائل مؤجلة أو غير مباشرة. لكل كاتب أسئلته ورسائله. والاستفادة لا تكون في حينها ربما، بل بعد زمن”.

f

الكاتب كما يلفت المؤدب ليس صحافيا ولا مؤرخا انتهازيا ولا هو رجل سياسة، الروائي يجمع كل هذه الأدوار، هو سياسي ومؤرخ ورجل فكر وصحافة وعالم اجتماع وغيره ليقدم لنا أطروحة. الكتّاب في رأيه يقدمون أطروحات ليس بناء على مواقف خاصة بهم بل بناء على بحث وحجاج مرتبط بالتاريخ وبالواقع الذي يعيشه المجتمع.

وأضاف المؤدب “الفن له قيمة كبيرة وهو مؤثر للغاية. مثلا من ينكر أن نجيب محفوظ أثر في صياغة وتشكيل مدينة القاهرة؟ من ينكر مثلا تأثير المسرحيين المنصف السويسي والفاضل الجعايبي وجليلة بكار في المجتمع؟ صحيح ليست لنا حركة سينمائية كبيرة لكن لدينا مسرح كبير”.

في السنوات الأخيرة صار الفن مؤثر جدا، ربما لا يوقف السياسي لكنه يحاصره، هذا ما يراه الروائي في تمثله لوظيفة الكاتب الأساسية اليوم.

وشدد “الكاتب ليس عليه التدخل بعنف أو قسوة على أبطاله وشخصياته فكريا أو غير ذلك، بل يترك الشخصيات تعيش في نصه، لأنه إذا تدخل بقوة يقتل شخصياته الروائية. ومن ناحية أخرى هناك شخصيات في الكثير من الروايات هي ضحايا الكتّاب، أي تصبح أوعية يفرغ فيها الكاتب كل عقده”.

ويذكر أن هناك شخصية في “حذاء إسباني” مارس فيها حريته في الكتابة هي شخصية البحار أحمد زنينة، التي كتبت بعناية ومرح، وكتبها على مزاجه، شخصية خيالية أعطت لأحداث الرواية منعرجات أخرى. وأكد المؤدب على أهمية بناء الشخصية الروائية قائلا “لا يمكن بناء شخصية قائمة على الصدف، بينما الشخصيات تبنى بدقة لتكون مقنعة”. وقال “أنا رغم دراستي في الجامعة واطلاعي وثقافتي، فإنني حين غامرت بدخول عالم الكتابة الروائية وجدت نفسي جاهلا. الرواية هي التي تقودني الآن إلى معرفة الحقيقة، لماذا؟ لأنني أسلط فيها جهدي وفكري وأبحث بجهد. وهذا الجهد يعلمني في الحقيقة”.

وأضاف “ما قرأناه في التاريخ أغلبه زائف. معروف من يكتب التاريخ، إما يكتبه منتصر فهلوي أو يكتبه منهزم حاقد. اليوم لنكتب باحثين عن تاريخنا هناك أمانة كبرى لأن الكتابة لم تعد متعة خرافة وحكايات الغول التي تنيمنا بها الجدات ونحن خائفون، الرواية غير هذا شأنها شأن الفنون الأخرى كالمسرح والسينما وحتى الشعر وغيرها، كلها فنون قائمة على المعرفة وعلى الدقة في إنتاج المعرفة”.

وبين أن الأدب الحديث يضم كل شيء، أدب الرحلة، الأديان، التاريخ، الحضارات، علم الاجتماع وعلم النفس، وكل ما يمكن تصوره. وأكد أن “حذاء إسباني” ليست رواية تاريخية رغم استنادها إلى التاريخ.

13