محمد عبلة.. رسام مصري طالع من مغارة علي بابا

“أين تقع مغارة علي بابا؟” سيُقال إنها تقع بين صفحات كتاب فهي نتاج مخيلة عابرة للقارات والأزمنة. ذلك المخزن الخيالي الذي لا يعرف أحد محتوياته لا يفتح أبوابه إلا للراغبين بالضياع بين بريق نفائسه. تلك نفائس تنتمي إلى عالم غير حسي. عالم لا يرتاده إلا المنذورون لخدمة الجمال. وهو العالم الذي لا يعود منه أحد.
الفنان المصري محمد عبلة كان أحد الذين كُتبت لهم سلامة العودة من تلك المغارة ليخبرنا بمحتوياتها. ارتجل عبلة مغارة تشبه إلى حد كبير سيرته الشخصية. فهو غزير الإنتاج قليل العرض. ما يعرضه لا يقع في سياق تسلسل زمني واضح. يعجبه أن يتخذ هيأة الساحر الذي يخبئ أكثر مما يُظهر.
تتخذ الموضوعات الشعبية التي يرسمها طابعا لا يأسرها في إطار الحواس المتاحة. إنه يروي من خلالها حكايته الخاصة.
منفتح على العالم
يعتزل عبلة الحياة العامة ليرسم. يختلي بالنيل في جزيرته ليستعيد حياة أخذتها المياه معها. يرسم تفاصيل تلك الحياة لكي يتعرف على نفسه. القادم من مغارة علي بابا يفضل أن يمشي على طريق الحرير فيلتقط كل ما تقع عليه عيناه في تلك الطريق الغاصة بالمفاجآت.
فكرته عن المصريين تتغير من لوحة إلى أخرى. يعيد اكتشافهم من جديد، مقدّما عددا من اللوحات لنساء مصريات تسيل العاطفة بأجسادهن. مصريات من ماء
عبلة هو ابن رحلته في الحياة. لذلك فإنه لا يلتزم بأسلوب بعينه أو تقنية واحدة. يرسم كل ما يراه من موضوعات بروح تقفز ما بين الواقعية والتعبيرية والتجريدية وهو لا يكتفي بالرسم بل يلجأ في أحيان كثيرة إلى اللصق “كولاج” تعبيرا عن انشداده إلى تفاصيل تشده استعارتها إلى موادها. ولأنه تعرف على متعة السفر بسبب تنقله للإقامة بين مدن عديدة فقد كان يستعير بخفة حكايات وتقنيات من مدن الطريق. مفردة من هنا وأخرى من هناك هي قوته في طريق طويلة. لقد جهز مصريته بكل المواد التي ينفتح من خلالها على العالم.
حداثة محلية وحداثة عالمية
ولد عبلة في الدقهلية عام 1953. وأنهى دراسة الرسم في كلية الفنون بجامعة الإسكندرية عام 1977. درس النحت بزيورخ، كلية الفنون والصناعات. عمل أستاذا زائرا للفنون في إحدى مدارس أوربرو السويدية. ثم بدأ العرض الخاص بمعرض أقامه في المركز الثقافي الإسباني بالقاهرة عام 1977. أما آخر معارضه الشخصية فقد أقامه في هذا العام وحمل عنوان “اللعب بالنار”.
ما بين المعرضين أقام عبلة حوالي أربعين معرضا شخصيا في مصر والكويت وألمانيا وهولندا والسويد. كما شارك في معارض جماعية كثيرة حول العالم وقد كان دائم التنقل بين المدن. ونال الجائزة الأولى في بينالي الكويت ونال جائزة بينالي الإسكندرية والجائزة الشرفية لترينالي مصر الدولي لفن الحفر الطباعي “كرافيك”.
أقام متحفا لفن الكاريكاتير في الفيوم. وفي بداياته تأثر بتجربة الفنان الرائد حامد ندا. كان حريصا على فهم الأساس الذي بنيت عليه الحداثة الفنية في مصر وطريقة تعامل الرواد مع الموروث الجمالي المحلي. بعد ذلك انتقل إلى محاولة استيعاب الدرس الجمالي العالمي من خلال تجارب عدد من الرسامين الذين اعتبرهم أساسيين في الحداثة الفنية العالمية. كان لوقفته التأملية الأخيرة لأعمال الأميركي جاكسون بولوك أثرها العميق في تطوير تقنيات الخط لديه.
ما يميز عبلة عن سواه من الرسامين المصريين أن حرصه على أن يكون مصريا لم يقف حائلا بينه وبين إظهار حماسته لتأثيرات الفنانين العالميين الذين أعجب بأعمالهم. ذلك ما فتح أمامه أبواب مدن عالمية عديدة، سواء من خلال عرض أعماله أو الإقامة فيها.
المسافر الذي اصطاد أحلامه

“رحلة إلى الهند“، “زيارة إلى الهند” هما عنوانان لمعرضين من معارضه الشخصية. الأول أقامه عام 2009 والثاني أقامه عام 2015. المعرضان يقدمان فكرة عن عبلة المسافر الذي اعتبر السفر مناسبة لاكتشاف اللقى البصرية التي ستحتل لاحقا مكانا في عالمه.
لا يستعير عبلة مفردات من الأماكن التي يزورها. بل إنه يمزج تلك المفردات بتفاصيل حياته لتبدو كما لو أنها جزء من عالمه المسكون بالتحولات. ليس السائح من يرى ويتذكر بل الرسام الذي يعمل على تنقية ذاكرته الجمالية من الشوائب اليومية. وإذا ما كان عبلة قد سافر إلى مدن عالمية عديدة وأقام في مدن أخرى فإن الهند تظل بالنسبة له مكانا فريدا على مستوى الإلهام البصري. إنها بلاد يقيم شعبها في كل مفردة من مفردات جمالها.
التقيت عبلة مرة واحدة. كان ذلك في عمان وكان اللقاء سريعا. غير أنني لاحظت أنه يبحث بحيوية عن مصادر إلهام في المشاهد التي تتشكل من حوله. سواء ما تتركه المدينة من أثر أو ما ينتج عن حركة الناس. إنه كائن حيوي، سريع التأثر ويبحث بعمق عن خلفيات المشاهد التي يراها. ومثلما يهتم عبلة بالمشاهد البصرية فإنه ينقب بحثا عن المرجعيات السياسية والثقافية.
لربما يسعده أن يُقال له “إنك ترسم مثل هندي” تعليقا على معرضيه المذكورين. ليست لديه عقدة الهوية الضيقة. لقد رأى هناك جمالا وكان عليه أن يستلهمه. ولو لم يقم بذلك لما كان مخلصا لهويته الشخصية. ذلك المسافر كان في حقيقته صائد أحلام في حدائق العالم.
عاطفة من ماء للمصريات
“أحيط نفسي بالماء. حتى إذا اشتعل حريق مرة أخرى، يكون من السهل إطفاؤه” يقول محمد عبلة وهو يتذكر بأسى أن حريق مبنى “سفر خانة” عام 1997 قد دمر أكثر من 500 عمل من أعماله. كانت تلك الواقعة مأساة يمكن أن تنهي أمل البقاء عند أي رسام آخر.
عثر عبلة على فرصة للتحدي في جزيرة القرصاية. كان عليه أن يدافع عن بقاء الجزيرة من جهة، ومن جهة أخرى صار ينتج رسومه بطريقة مجنونة ليثبت للزمن أنه قادر على أن يقف على قدميه مرة أخرى. “لا أزال حيا” تلك صرخته وهي التعبير الوحيد الذي استطاع عبلة من خلاله أن يرى النيل كما لو أنه لم يره من قبل.
عاد عبلة إلى الماء يومها. صارت فكرته عن المصريين تتغير من لوحة إلى أخرى. كان يعيد اكتشافهم من جديد. رسم عددا من اللوحات لنساء مصريات تسيل العاطفة بأجسادهن. مصريات من ماء. هذا رسام لا يكتفي بما يراه بل يمضي بالمرئيات إلى أصولها العاطفية. إنه يعلمنا طريقة جديدة في النظر. تلك طريقة تكشف عن حياة تقع إلى جوارنا غير أننا لم نكتشفها.
يلعب عبلة في مجال خيالي، الجزء الأكبر منه مستعار من عالمنا. غير أنه يمزج ذلك الجزء المستعار بعالمه المائي الغامض لينتج حياة تفاجئنا بقوة عاطفتها وتشدنا إلى سحر رؤاها. “في الرسم حياة أخرى” هذا ما يمكن أن يقوله عبلة.