محمد عادل النجار: الجرأة في التجريب تمنحني مساحات أوسع لممارسة المسرح

"ورقة طلبات".. دعوة للتفكير في حقيقة مشاعر الآخرين وتقبل معاناتهم النفسية.
الجمعة 2024/02/23
ديودراما تهتم بالآلام النفسية

عام 1983، كتبت مارشا نورمان نصها “عمت مساء أمي” (نايت ماذر)، والذي أصبح واحدا من أشهر أعمالها التي تناولها العديد من المخرجين المسرحيين، ويبحث في مسألة الانتحار واضطرابات النفس البشرية داخل المجتمع الأميركي. وبعد واحد وأربعين عاما، عاد المخرج المسرحي المصري محمد عادل النجار، إلى هذا النص الثري، ليقدمه في نسخة عربية حملت عنوان “ورقة طلبات”.

عرضت في الدورة السابعة لمهرجان دبا الحصن للمسرح الثنائي مسرحية “ورقة طلبات” التي حاول فيها المخرج محمد عادل النجار تفكيك الأسباب المباشرة وغير المباشرة للتدمير الذاتي والمعززة لرغبة الإنسان في الموت، وخاصة تلك الأسباب التي تسكن النساء، دون قيود واضحة للزمكان، محافظا على أسماء الشخصيات الرئيسية للعمل “جيسي، جاك..”، ومقدما صورة تقريبية لدوافع إقدام الإنسان على الانتحار ولسبب من أهم أسباب نقص التواصل الأسري وتدمر النسيج الاجتماعي القوي.

هذا العمل لفرقة “1+1” وهو من تمثيل ليلى مجدي ودعاء الزيدي، ومخرج منفذ أحمد عادل، ديكور هبة الكومي، إضاءة أبوبكر الشريف وموسيقى شذى شريت.

تحرر من الانغلاق

محمد عادل النجار: تجربة ذاتية دفعتني إلى تبني النص بمجرد قراءته
محمد عادل النجار: تجربة ذاتية دفعتني إلى تبني النص بمجرد قراءته

في حوار جمعه مع “العرب” يعيدنا المخرج الشاب إلى بدايته في المسرح فيقول “حبي للمسرح بدأ من محبتي لخالي وهو ممثل وخريج معهد الفنون المسرحية، كان يصطحبني معه لحضور مسرحيات وفعاليات مسرحية، ثم بعد ذلك اتجهت إلى المسرح المدرسي ومن ثمة المسرح الجامعي. بعد ذلك درست ماجستير في الفن المسرحي بألمانيا لمدة سنتين، ثم تخصصت في النقد والدراما في جامعة حلوان، ثم التحقت بالمعهد العالي للفنون المسرحية وأدرس حاليا التمثيل والإخراج، تقريبا كل سنواتي الماضية أمضيتها في دراسة المسرح، ولم تمر عليّ سنة لم أكن فيها طالبا، فأنا خريج أربع كليات منها اثنتان في المسرح، واحدة في علوم الفيزياء والكيمياء والرابعة في الإعلام، وحاليا أنا طالب في المعهد العالي للفنون المسرحية”.

ويضيف “لديّ شعور دائم بأن الحياة قصيرة جدا ولا أرغب في إضاعة سنوات عمري دون أن أتعلم ما أحبه وأمارسه. لذلك حياتي منقسمة بين الحياة الاجتماعية والمسرح. بدأت بإخراج مسرحيات بشكل منتظم منذ أكثر من 13 سنة، وتحصلت خلال هذه التجربة على جوائز عديدة منها جائزة أفضل مخرج من المركز الثقافي الفرنسي في العام 2013، وجائزة أفضل مخرج صاعد من المهرجان القومي للمسرح وأفضل مؤلف، كما حصلت قبلها على ترشيحات لجوائز منها جائزتا أفضل مخرج وأفضل مؤلف صاعد”.

ويشرح “بعد تجربة 13 سنة في الإخراج مسرحي بدأت أتحرر من الانغلاق في تقديم الفن، كنت في السابق من مناصري الذاتية والمحلية لكنني الآن بدأت أراها نوعا من الانغلاق، صرت أقول لنفسي القديمة لا فأنا أحتاج أن أكون واعيا بأن هناك متلقيا وهناك آخر في الفن عموما سواء كان هذا الآخر هو أنا الآخر لأنني دائما لست أنا الثابت فأنا إنسان يتطور وينقد نفسه ويقيم تجربته الماضية ويخطط للمستقبل وكذلك الآخر بصفته متلقيا للعملية الفنية”.

ويضيف “الانغلاق أقصد به أيضا أنني كنت أقول لا يهمني وجود الآخر (المشاهد) في العملية الفنية، كما أن الخبرة بالممارسة والفرجة وحضور الفعاليات الثقافية تمنح المخرج خطوات في طريق التجريب، وتستفزه ليخوض التجريب في المسرح، ويستكشف أشكالا مسرحية لم يجربها سابقا، هذه الجرأة في التجريب كنت أفتقدها في بداياتي، فقد كنت سجين فكرة أنني أقدم ما يمكن أن يكون مقبولا ويحظى بالاستحسان دائما وهو فعل مسرحي آمن لكن الأمان قاتل لجزء كبير من الإبداع. حين تخلصت من هذا الأمان، شعرت أنني أخف حتى لو أشتغل الآن أو مستقبلا على تجارب مسرحية آمنة فإنني أقدمه دون أن أكون مقيدا به ومتأثرا به”.

المسرحية تعبّر عنّي

تحرر من الانغلاق

جاءت “ورقة طلبات” محمد عادل بنص بسيط، وحوارات متذبذبة ومتصاعدة، يعززها ديكور مكثف العناصر، يتوزع بين أوراق معلقة في غرفة مغلقة تتوسط الخشبة، وطاولة تحوي مجموعة علب كرتونية كبيرة كتب عليها جميعا عبارة “فراجيل” أي قابلة للكسر، وفي المكان ممثلتان، أم وابنتها، تتصارعان حول رغبة الفتاة في الانتحار، وإصرارها على ذلك. وما زاد من جمالية العمل، هو المؤثرات البصرية، حيث وظف أبوبكر الشريف تقنياته لتعزز من سيرورة الحوار وحالات التحول الدرامي، عبر لعبة الأضواء التي رافقتها موسيقى شذى شريت لتنطق وتفعل ما تعجز عن فعله البطلتان، وتحرر العرض من سقوطه في المباشراتية.

عن هذه المسرحية يقول المخرج لـ”العرب”: “لا أعرف الاشتغال في مسألة لست مهموما بها، قد يطرح عليّ موضوع كبير ومهم جدا لكنه لا يندرج ضمن همومي التي أحملها على عاتقي وأريد التعبير عنها. في هذا العمل انطلقت من تجربة ذاتية خاصة، لها علاقة بالاكتئاب وبفترة نفسية صعبة وثقيلة جدا، دفعتني إلى تبني النص بمجرد قراءته”.

ويضيف “ورقة طلبات تعبّر في جزء كبير منها عنّي، فأنا نفسي أتمنى أن أكون شجاعا وقادرا على كتابة ورقة طلبات خاصة بي، وتتحقق، قبل أن أغادر الحياة”.

وعن أداء الممثلتين يقول عادل “طوال المسرحية، الأم ترمي الصناديق الكرتونية والبنت تجمعها، في إشارة إلى أن الفتاة تجاهد لترتيب حياة أسرتها، كل هذه الصناديق المقفلة والقابلة للكسر، هي إحالة لأفكارنا ومشاعرنا، التي تتعامل معها الأم على أنها غير مهمّة، ولا تحاول مراعاتها.. وورقة طلبات البنت من أكثر ما أعجبني في النص الأصلي للعمل، هي ورقة بسيطة، لا تحتوي طلبات شخصية، كلها طلبات للآخرين وعنهم، وظل لديّ شعور بأن ورقة الطلبات الحقيقية لم تكتب، ورقة الطلبات المكتوبة والتي يعبّر عنها العمل هي انعكاس للحياة التي يتحكم فيها الآخرون من زوج وأخ وزوجة أخ وأمّ وأب وأبناء، وجميعهم مركزون في أنفسهم ولا أحد يلتفت لمشاعر البطلة، حتى الحوار بين الأم وابنتها، لم يكشف لنا طلبات البنت الحقيقية، رغم أن الأم مارست كل السبل لاستنطاقها من نهي وتهديد ومهادنة وترغيب، إلا أن ردود البنت كانت حبيسة الحديث حول البقال والحلويات وطلبات الآخرين، رغم انفجارها في مرة أو مرتين لتعلن أنها أرهقت من طلبات الآخرين والتخلي عن ذاتها من أجل المجموعة”.

ويضيف “هي فتاة منسية، مشاعرها منسية، لا أحد يتقرب منها ويفهم مشاعرها ويدعمها أو يهوّن عليها، حتى والدتها ترفض الاقتناع بغضبها واكتئابها ورغبتها في الانتحار”.

الحفاظ على أسماء الشخصيات يمنح العمل بعدا أكثر شمولية ويجعله قريبا من أي مشاهد ولا يحده زمان أو مكان
الحفاظ على أسماء الشخصيات يمنح العمل بعدا أكثر شمولية ويجعله قريبا من أي مشاهد ولا يحده زمان أو مكان

وفيما يتعلق بنقطة التحول في آخر العرض، يقول عادل إنه “يمكن التفكير فيها بجدية، لأن النص الأصلي مدته أكبر من الزمن المخصص للمسرحية، ولا يمكن اختصاره في 45 دقيقة، ونحتاج إلى إعادة تفكير في جودته، ورغم أن البعض اعتبر النهاية مفتوحة إلا أنني أراها نهاية حتمية، تحيلنا إلى تخليص الفتاة نفسها من الحياة، حتى لو لم تنفذ قرارها بالانتحار. المسرحية جرس إنذار لنهتم بمشاعر من حولنا، ومن الجمهور من تساءل بفعل هذا العمل عن حقيقة مشاعر ابنته، وهذا ما نود القيام به، عبر استفزاز المشاهد لإسقاط العرض على حياته وعلاقته، والتفكير فيها”.

حافظ محمد عادل على أسماء الممثلين في النص الأصلي، وهو ما انتقده بعض الحضور من مختصين ومهنيين، لكنه يرى أن ذلك “يمنح العمل بعدا أكثر شمولية، ويجعله قريبا من أيّ مشاهد ولا يحده زمان أو مكان أو جنسية محددة، ويقول “في مصر، لدينا ثقافة مختلفة عن بلد النص الأصلي. من الصعب إن لم يكن من المستحيل أن تبوح بنت لوالدتها برغبتها في الانتحار بعد ساعتين وتجلس الأم لمحاورتها، بل ستجمع حولهما العائلة والجيران وكل من يمكنه التدخل، نحن في مصر والمنطقة العربية أعنف قليلا في التعامل مع أطفالنا”.

ويتابع “كنت خائفا من أن يظن المشاهدون أن هذه الحالة هي حالة البطلة فقط، أردت تعميم المشكلة، وتخيل أن المعاناة النفسية والانتحار يحدثان في بلدان بعيدة عنا أيضا، وفي أزمة مختلفة، كما يمكن أن يحصل ذلك في منزل المشاهد دون أن ينتبه. قد يكون جالسا الآن وأحد أفراد عائلته يفكر جديا في الانتحار. وهذا ما جعلني مصرا على تغريب الموضوع وإبعاده عن مصر”.

محمد عادل كان أحد سجناء الرأي في مصر، حيث سجن هذا الشاب لمدة تتجاوز 150 يوما، ويقول في حواره معنا “في فترة ما توقعت أنني لن أغادر السجن أبدا، وفكرت في أن أكتب ورقة طلبات، كتبت العنوان لكنني لم أستطع كتابة الطلب الأول ودخلت في دوامة من الأفكار حول المهم والأهم من الطلبات، حتى نمت تلك الليلة التي لا تنسى، وظلت فكرة ورقة الطلبات حبيسة عقلي. لو كتبت ربما لم أكن لأنتهي، بل ربما قد أكتب مجلدين أو ثلاثة”.

ويضيف عادل “هذا الموضوع صعب جدا، وتجربة السجن علمتني النظر بتمعن وإجلال لكل تفاصيل الحياة والاستمتاع بكل الأوقات والعيش بهدوء وبساطة. أحببت الحياة واتبعت حكمة خاصة تقول ‘خليك فريش أنت في رحلة’. غرفة السجن التي كنت ممنوعا من التحرك خارجها، جعلت نظرتي للحياة تضيق جدا، وكانت نفسي تهرب للتفكير في التفاصيل والدقائق، ووجدت عقلي يقوم بتكبير كل الصغائر، وبدأت أفكر في اللاشيء وتفاصيل الناس وطرق كلامهم، الآن قد أمضي وقتا ممتعا متأملا السماء، أو برفقة شخص دون حاجة إلى أحداث كثيرة، أو مثيرات وعناصر مادية”.

14