محمد حسن خطاب في حالة من السعي الدائم لرسم الواقع كما يراه

فنان يخلق أعمالا تشكيلية تحضّ الإنسان على التفكير.
السبت 2023/10/28
إعادة تمثل للواقع

بين سوريا وقبرص تتجلى تجربة الفنان التشكيلي محمد حسن خطاب، الفنان الذي يدور في فلك نفسه، ويحاول أن يكون نفسه فقط، من حيث التجربة الشخصية وحتى الفنية التي منحته تأشيرة للتنويع في تجاربه وسحب المتلقي إلى عالمه ليكون متلقيا ومفكرا وفنانا في آن واحد.

تحتار من أين تبدأ وأنت تقبل على عالم فنان تشكيلي له كل هذه الخصوصية، نعم تحتار أي باب تدق فعالمه أشبه بالمدن القديمة التي لها أكثر من باب وإن كانت جميعها تؤدي إلى الانعتاق، حيث تظهر الوقائع على نحو مختلف ومغاير، لكن يجب أن تدق أحدها ليفتح لك وتلج ذلك العالم وتبدأ بعملية الكشف والتنقيب اللذين لا ينتهيان مهما طالت مدة مكوثك فيه. أتحدث هنا عن عالم محمد حسن خطاب أو غريب حسن كما يحب أن يسمي نفسه؛ ابن مدينة نوى الواقعة في حضن حوران جنوب سوريا.

عالم هذا الفنان مختلف ومهم، تتكون فيه الذات بمستويات غير معينة، وفي أُطر غير مقيدة وإن كانت الطبيعة تسوده، فهو يمضي إلى أبعد من مظاهر الأشياء، بل إلى أبعد من الوقائع بحد ذاتها.

هو الذي كان الفن وما زال شغله الشاغل، عاشقا له منذ بداية رحلته معه والتي كانت مبكرة جدا، يتعامل مع المشهد كما لو أن جماله ينبع من بين أضلعه، له قدرة فائقة على النظر إلى ذاته، تلك الذات الهائمة في الحياة بفضائها الرحب وبتنوع حقولها؛ نعم له قدرة فائقة على ارتيادها ومواجهتها بالحقائق القاسية مهما كانت علاقتها بتاريخها وهويتها وخصوصيتها وبتلك الأسئلة الشائكة التي تحيله إلى اتخاذ وجهة نظر لها إستراتيجيتها، سواء كانت في محاولاته لتجسيدها في تجربة لها مدارها أو في إدراجها كفعل حقيقي يحمل زمنيته الخاصة، وكذلك يحمل رموزه الخاصة والموظفة توظيفا دلاليا والتي تقوم بالكشف عن دورها المنوط بها في سياقها السردي، والذي يفترض به أن يقرب قارئها على نحو جلي.

◙ وجوه متخيلة في المدينة
وجوه متخيلة في المدينة

هو يبتكر مفردات لها وقعها المناسب تماما على معظم افتراضاته الخاصة، علاوة على أنها تمنح أشكاله دلالات تبدو كما لو أنها من وقائع الحياة المتخيلة لديه مع أنها في حقيقة الأمر ثمرات لتلك الأشكال بوصفها تحولات لا ثوابت.

ما أريده لهذه القراءة، إضافة إلى أنها محاولة للغوص في بحار غريب حسن علّنا نفوز ببعض مرجانها ولآلئها ونظهرها للآخر ونبين قيمتها المعرفية والجمالية معا، هو أن تساعد هذا الآخر، وأقصد متلقيه، على فهمه وعلى فهم بعض مفاهيمه الأساسية التي استخدمها في بناء سجالاته الواسعة.

ينبغي لنا أن نشير أيضا إلى تلك الآليات التي بها يدعو متلقيه وهو معهم إلى تخصيب أفكاره بعيدا عن قولبتها، فهو في جميع الأحوال يدعو إلى الميكانيكية في التفكير وهذا سيكون العون الأكبر لنا كمتلقين على فهمه وفهم تعريفاته الفاعلة فينا ونحن نركن بتأمل أمام أعماله التي تحاط بهالة من الأهمية. فهو يعزز بها رؤيته للعالم، الرؤية التي تحمل من التحدي الكثير، التحدي الذي جعله يثبت أن الفن الرفيع له من القدسية ما يضعه ضمن أولوياته كإنسان، قدسية لا تقيد نفسها بالوقائع ولا بمظاهر الحياة وثقافتها وقشورها، ولا يقارب الفن المتاح للعموم بل يبحث دائما عما هو أشد فاعلية وأكثر دفعا نحو التحريض والتفكير. فكما هو على استعداد لخوض هذه المخاطرة إذا جازت لنا تسميتها بذلك، على متلقيه أن يبدي استعداده لها أيضا.

الأمر هنا يدعو الفنان ومتلقيه إلى العمل على كسر العوائق كلها التي قد تظهر هنا أو تلد هناك، وهو لا يكتفي بذلك بل يبرره، وحقيقة ما يجري بالفعل هي ما يطلقه عبر أعماله ضمن سيرورة ديالكتيكية تتيح له نظرات ثاقبة تعينه على مصادقة تلك السيرورة وتجاوز عقباتها، وكأنه بذلك يقول لنا إن الواقع مهما كان محاطا بهالات كثيرة فليس من الصعب كشف مكنوناته وتجاوز العوائق التي تصنعها الهالات، فهو بالفعل يعارض الفعل التواصلي بين تلك المكنونات إن كانت سطحية، ويوافق عليها إن كانت مصوبة نحو الداخل. هنا تبدأ عمليات التنبؤ بالحضور والولادة التي تقوم على أساس من المعايير التوافقية إلى حد ما.

◙ فنان يعبّر عن نفسه
فنان يعبّر عن نفسه

حري بي القول، وكما يبدو لي على الأقل، إن غريب حسن في حالة من السعي الدائم، السعي الذي لا ينحصر في حلقة مغلقة، بل يشمل كل ما يؤججه من مراتعه البعيدة أو القريبة حتى يتسامى مع المسافات وكأنه يرغب في التهامها.

“أرسم الواقع كما أراه، لا كما هو”، قالها غريب حسن مرارا، وقد قالها غيره أيضا، وسيقولها الكثيرون، فهذه وجهة نظر الغارق في التشكيل إلى حد الشغف، وجهة تكاد توجز ماهية الأسلوب وماهية الفنان، بل تكاد تكون الرد على السجالات الخلبية التي نعيشها حول الواقعية.

نعم نظرة غريب حسن ثاقبة تشجع الفنان على أن يكون معنيا بنفسه، ويبدي استعدادا دائما لأن يكون نفسه، نفسه فقط، ولا أحد غيره، استعدادا لفعل تواصلي يعزز عالمه، ويميز خصائصه لا ضمن معايير متفق عليها بل ضمن معاييره هو، ليستكشف الصلات بين تكويناته على أمل إيجاد حالات خاصة به، حالات تجمعه بها، لا يتعالى عليها، بل يوسعها بسجالات يسمو بها، وبها يزداد حلمه المتجه إلى أمكنة تسكنها وقائعه وملاحظاته، أمكنة تلبي حاجاته باختباراتها القابلة للرصد؛ فهو يُدخل مفهوم تحليل الأشكال، أقصد أشكال إنتاجه، إلى أسلوبه الذي بدأ يتطور حتى بات يحمل نظرته على طبق جمالي، وبأن ذات الفنان ولاوعيه قادران على لعب دور مهم في تفعيل فعلهما في بناء أشياء ترى لا بوصفها موضوعات يمكن التلاعب بها فحسب، بل أيضا بوصفها محركا لتلك الذات وإدراكاتها.

غريب هنا يمضي دون خوف ودون قلق، بل كأنه في نزهة يرى كل ما فيها من جمال طبيعي عليها تترتب فعله وما تحكمه من قواعد تقنية. وفي ضوء ذلك هو يختزل الأشياء كلها لا بوصفها موضوعات قادر على أن يلتمس السيطرة عليها والتحكم فيها فحسب، بل أيضا بوصفها ألقا ضوئيا يدفعه صوب ضروب غير محددة هي الأكثر دقة والأكثر اختزالا والأرهف ظلالا، وهذا يكاد يشكل الأساس في إنتاجه على هيئة غايات غير معينة بأميز طريقة ممكنة بالنسبة إليه؛ فإلى جانب تنامي بزوغه دون ارتياب يدعو إلى تناول الأشياء من جوهرها بأسلوبه الرشيق وبمقدرته الواضحة.

◙ رؤية للعالم تحمل من التحدي الكثير
رؤية للعالم تحمل من التحدي الكثير

خلاصة الفكرة هنا أن يكون في أماكن متعددة في الوقت ذاته وبطريقته هو، وبهذا يرسم لنفسه نمطا من الأشكال ينزع به نحو تحولات من أولوياتها أن يكون له لونه الخاص به.

بدأت علاقة غريب حسن مع الريشة من الخط، كانت له اهتماماته وإنجازاته في الخط العربي، وكان معروفا بذلك في مدينته. قد تكون هذه البوابة هي التي منحته شرف الدخول إلى عالم الحياة، أقصد عالم اللون والريشة، منحته الانتماء إلى هذا المكون العذب، المكون الذي يجعلك تستعيد صوتك الحقيقي الأصيل، الصوت الذي إليه تعزو الكثير من مفرداتك، ويساهم في إفهامك بأن الوعي الصائب يقارع هنا، رغم النفور المتعاظم من النظرة الأداتية التي باتت تسيطر على الحياة الحديثة على نحو متزايد، ويلح عليك بأنه يجب ألا تقصر اهتمامك على ما هو مفيد تكتيكيا في تحقيق الغاية الجمالية، بل لا بد من إستراتيجية تتكئ عليها، وعلى هذه تترتب جوانب من الممارسة التي تصورها أنت على نحو أداتي، وأنت أهل لها، وكذلك في تبيان الكيفية التي تجري عليها، سواء كانت في عمليات التحرر من العثرات وتجسيد نظرية صائبة أو في سعيك إلى تعزيز تكوين الذات لذاتها فتبدأ حينها عملية تثبيت تلك الذات متمثلة في علاقة النظرية بالممارسة.

هذا يساعد بشكل كبير على الانعتاق الإنساني الذي تصبو إليه كل الأزاميل والريش، وبحصوله على الثانوية العامة التحق في البداية بكلية الهندسة المعمارية، ولكن سرعان ما غير اتجاه بوصلته نحو كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق، المكان الذي يليق به رغم أن العمارة ليست غريبة ولا بعيدة عن هذا المضمار الذي يحب أن يخوض فيه، ليتخرج منها وتحديدا من قسم التصوير الزيتي.

تتلمذ غريب حسن على يد كبار الفنانين المعاصرين وأهمهم، لا على مستوى سوريا فحسب بل أيضا على مستوى العالم العربي، نذكر منهم فاتح المدرس وميلاد الشايب ومحمود حماد وخزيمة علواني ونذير نبعة وإلياس الزيات وعبدالمناف شما وآخرين، لينهل من ينابيعهم ما تيسر له من ماء زلال وخمر معتق وجمال صاف، دون أن يقلدهم أو يقع تحت سطوتهم. ولم يبال بالمدارس ولم يقيد نفسه بإحداها بل بقي طليقا بينها، بل بقي محلقا بينها جميعا، مدركا أن عفويته وارتجالاته بقيتا هما جناحاه اللذان يخططان له وجهته وشخصيته وأسلوبه، ناهلا من مخزونه القديم والجديد والضاج بأحاسيسه ومشاعره وإنسانيته كل ما يجعله يعترف بأن هذه الحياة فيها ما يستحق الحياة حسب قول محمود درويش. وبقي أن نشير إلى أنه يعيش في قبرص منذ أكثر من عشرين عاما واستطاع أن يثبت ذاته بين سكان البلاد، فله اسمه ورصيده الجميلان فيها.

لوحة

لوحة

لوحة

 

13