محمد الغرياني دستوري يستقطبه الغنوشي في لعبة مكشوفة

في سبيل الحفاظ على حضورها في المشهد السياسي التونسي تبدي حركة النهضة الإسلامية استعدادا كبيرا للتحالف حتى مع ”الشيطان” كما يقال في علم السياسة. يعكس هذا الطرح سعيا حثيثاً يقوده زعيمها ورئيس البرلمان راشد الغنوشي إلى استقطاب العديد من الوجوه المحسوبة على الخصوم التقليديين للحركة في كل مرة تقوى فيها حدة الخطاب الموجّه ضدها، تارة بالخروج عن الحيادية، وتارة بتضليل الرأي العام التونسي والإقليمي وحتى الدولي بأنها حركة ديمقراطية وبعيدة كل البعد عن الإسلام الراديكالي العنيف.
في خطوة بدت مفاجئة للرأي العام وطرحت العديد من الأسئلة المحيّرة طفا على سطح الأحداث السياسية في تونس هذا الأسبوع خبر تعيين “عرّاب” العائلة الدستورية والأمين العام السابق للتجمع الدستوري المنحلّ محمد الغرياني مستشارا خاصا للغنوشي.
زلزال سياسي
فتح هذا التعيين، رغم أنه لم يتم بشكل فعلي لكن الترتيب له جارٍ على قدم وساق، ردود فعل قوية داخل الأوساط السياسية في تونس، وحفر طويلا في جرح غائر لدى بعض الأحزاب المحسوبة على التيار الثوري على غرار حركة الشعب والتيار الديمقراطي والجبهة الشعبية، والتي رأت فيه تنكّرا لأهداف الثورة ومحاولة للتطبيع مع التجمعيين.
معلوم أن التحالفات التي أبرمتها النهضة سواء سابقا في عهد الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي مع نداء تونس أو حاليا مع قلب تونس أو بتشريك وجوه محسوبة على النظام السابق لا يمكن أن تخرج عن دائرة المناورة، لكن أن يصل الأمر حدّ تعيين الأمين العام للتجمع المنحلّ مستشارا للغنوشي، فهذه بدعة لا يمكن أن تنطلي على أحد من أنصار هذا الفريق أو ذاك. في المقابل يرى شق مخالف لهذا الطرح أنه لا ضرورة للتعجّب والتهويل والنفخ في القضية، فقد سبق للنهضة أن جرّبت كل التحالفات البراغماتية في كل مرة يشتد فيها الخناق عليها إلا وتلجأ إلى أسلوب المناورة والمداهنة. وبين هذا وذاك ظلت ردود الأفعال في مجملها مركزة على خيار مصلحي يسعى الغنوشي إلى فرضه داخل البرلمان من أجل تبريد الأجواء مع الخصم اللدود حزب الدستوري الحر.
وفي تعليقه على خبر تعيين الغرياني مستشارا للغنوشي، أفاد الأمين العام لحركة الشعب زهير المغزاوي بأن الملف ليس من مشمولات الغنوشي بل من مشمولات البرلمان ككل. وأشار إلى أن الغنوشي يقدم لنفسه مهامّ وأدوارا أكثر من دوره كرئيس للبرلمان وهي من الأسباب التي دفعت بعض الكتل إلى محاولة سحب الثقة منه. وزاد المغزاوي بقوله إن الغنوشي يريد لعب أدوار بطولية وهو غير قادر حتى على لعب أدوار داخل حزبه.
بدوره حذّر النائب منجي الرحوي في تدوينة له عبر صفحته الرسمية الغنوشي من مغبة تعيين الغرياني قائلا إن التعيين لن يمرّ وسيشهد رفضا واسعا. ووجه الرحوي كلامه إلى الغرياني مباشرة، قائلا “أنت شخص غير مرحّب به في مجلس نواب الشعب حتى وإن أراد شيخ تخريب تونس فرضك على المجلس سيكون مصيرك نفس مصير الذي سبقك”.
لم تقتصر ردود الفعل على هذا التعيين على الشق المناوئ للنهضة بل إنه أحدث صدمة داخل قواعد الحركة وحلفائها خاصة ائتلاف الكرامة، الذي دعا مؤسسه سيف الدين مخلوف إلى رفض تدخل رموز النظام السابق في ملف شهداء الثورة.
بيت الطاعة
على النقيض من موجة الغليان التي أحدثها هذا الخبر المزلزل في الساحة السياسية، فإنه سرعان ما بدأت التبريرات لهذا العرض الذي لاقى استحسانا من الطرف المراد استقطابه لدخول بيت الطاعة، تأخذ منعرج الحيادية والدعوة إلى عدم الإقصاء وأحيانا التبريد المتعمّد للأجواء من قيادات نهضاوية تغمز إلى أن زعيم الحركة أصاب الهدف بتعيينه لشخصية مثل الغرياني بتاريخها وشبكة علاقاتها.
وبعيدا عن أيّ أثر رجعي قد تحدثه هذه الصدمة الناجمة عن سياسة الهروب إلى الأمام أو اللامبالاة وعدم التقيّد بالمواثيق والأعراف التي التزمت بها النهضة تجاه قيادييها أولا قبل المنتمين إليها، تتراءى براغماتية زعيمها وأنانيته في هكذا مواقف. هكذا هي لعبة السياسة كما اختبرها الغنوشي في كل مرة يجد فيها نفسه أمام مأزق ويحسّ بالخطر، فيعمد إلى أسلوب المغازلة والاستكانة مع الخصوم قبل المقرّبين. ومما لا شك فيه أن هذه الاستدارة المعلنة لاستقطاب أحد وجوه المنظومة القديمة، وإن كان يحاول أن يتبرّأ منها ويبحث عن الخلاص الفردي، جاءت لضرب أكثر من عصفور بحجر واحد.
مباشرة وبعدما تلقفت وسائل الإعلام الخبر الذي انتشر بسرعة فائقة مشرعاً الباب أمام تأويلات وموائد مستديرة، ذهبت معظم القراءات إلى أن الهدف المعلن للغنوشي من وراء هذا التعيين جاء لعزل عبير موسي.
هذه القراءة الأولية صائبة مما لا شك فيه. لكن هناك جوانب أخرى أكثر عمقا يقرأها المطلعون على كواليس حركة النهضة والعارفون بأسرارها، تتعلق بتكتيك وأسلوب مخاتلة على الطريقة التي فككت بها حزب الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، نداء تونس، ووسّعت دائرة الشقاق والخلافات بين قياداته، وحولت الحزب الذي هزمها في انتخابات 2014 إلى مجموعة من الأحزاب الصغيرة يدور أغلبها في فلك الغنوشي.
يأتي الدور الآن على الدستوري الحرّ الذي بات خصما قويا بمقاربة أكثر شمولية ورؤية تستبطن الماضي وتنبش في سجلاته وتروم التكيّف مع الجدل الذي يطرحه هذا الحزب برئيسته والمنتمين إليه. لكن لماذا الغرياني دون غيره الذي يقع عليه الاختيار، ولماذا في هذا التوقيت بالذات؟ وما هي الغاية من وراء ذلك؟ كل تلك الأسئلة تبدو لمراقب حصيف بمثابة ألغاز لا بد من فك شيفرتها لفهم قدر ممكن مما يدور بخلد الغنوشي وكل الذين يخططون للعبة كسر العظام داخل مشهد سياسي متشظ بتوازناته المعلنة والخفية.
ويتفاعل رئيس حركة النهضة وكل الذين يسايروه في اختيار شخصية محسوبة على التجمع الدستوري الحزب الذي كان يمسك بمختلف الملفات وأسرار جزء كبير من الطبقة السياسية، والذي يمتلك علاقات خارجية قوية. والهدف من وراء ذلك هو شق الدستوريين وتوظيف هذا الشق في ضرب الشق المقابل.
عزف الغنوشي على وتر حساس نظير ما استشفه من الغرياني ومن تصريحاته المتواترة التي تظهر رغبته في “التطبيع” مع الزمن الجديد في سياق معركة الخلاص الفردي. فقد قال في 2019 إنه ضد الخطاب الراديكالي الذي تقوده موسي بمواجهة النهضة، وأنه مع مصالحة شاملة لا تستثني الحركة من المشهد السياسي.
وقال أيضا إنه “يتبنى المرجعية الدستورية والبورقيبية لكن لديه قراءة مختلفة وذلك عبر مصالحة البورقيبية مع الديمقراطية والانفتاح على المشهد السياسي الجديد”. ووصف خطاب موسي بكونه “خطابا راديكاليا داخل العائلة التجمعية ويعتمد على الشعبوية”. وكان قبلها قد قال في 2014 قبل الانتخابات الرئاسية وبعد لقائه بالغنوشي كلمته الشهيرة التي ظل يرددها أنصار النهضة قبل الدستوريين بطيفهم الواسع إن “موسي تريد أن تستثمر لوحدها الأصل التجاري للتجمع”.
لكنّ مراقبين للمشهد السياسي يؤكدون أنه ربما فاتت الغنوشي هذه المرة العديد من الأمور التي كان عليه أن يراجع حساباته قبل الإقدام على هذه الخطوة.
تسفير الخلافات
ويقول المراقبون إن الغرياني ليس رجل الدولة الوازن بل هو لاعب فردي وناعم تموقع منذ سنوات بالقرب من النهضة بحثا عن دور شخصي أكثر من التأثير في ملفات سياسية، أو محاولة عزل عبير موسي، وهي مهمة لا يقدر عليها، فضلا عن كونه لا يسعى لذلك.. وأقصى ما يمكن أن يفعله هو محاولة تقسيم الدستوريبن وهم منقسمون بطبيعتهم. كما أن ظهوره العلني والرسمي لا يخدم هدف تقسيم الدستوريين بقدر ما يهدف إظهار الغنوشي في صورة الزعيم المجمع لكل الصفوف، وذلك في سياق طموحة للترشح في الانتخابات الرئاسية 2024.
إن الغنوشي يبحث من وراء احتواء الغرياني عن استقطاب الكفاءات الدستورية والتجمّعية المضطهدة منذ عشر سنوات والتي لم تعرف عبير موسي كيف تدافع عنها ولم تستطع النهضة تبني موقف مساند وذي مصداقية تجاهها. ويمكن أن يساعد الغرياني في طمأنة هؤلاء وفتح قنوات تواصل بينهم وبين النهضة، وإن كان المزاج العام لدى هؤلاء هو الحذر من حركة مثقلة بتاريخ محاط بالعنف والسعي لمحو مكاسب البلاد في التحديث والتطوير التي أسّست لها الدولة الوطنية منذ عهد الزعيم الحبيب بورقيبة إلى مرحلة حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي.
ويقول المراقبون إن اللعبة التي فهمها الغنوشي ولم يفهمها “الثوريون” هي أن هناك حنينا شعبيا للنظام السابق ووعيا بالظلم الذي سلّط على جيل من الكفاءات التي عملت معه، ويحاول الجميع استقطابها، ولكن محاولات الاستقطاب هذه تحيي أيضا ردود فعل نحو العودة إلى الشيطنة، وإبراز خطاب عدائي يقطع الطريق على أيّ مصالحة وطنية تعيد الاعتبار للمتضررين ممن عملوا بصدق وتفان لخدمة بلادهم.
يتحدر الغرياني من محافظة القيروان التي ولد فيها في أغسطس 1962. وقد عرفت حياته العديد من التقلبات. تقلد العديد من المناصب السياسية في عهد النظام السابق إلى أن كلف في 2008 بتولي الأمانة العامة لحزب التجمع الدستوري. تعرض للاعتقال في 2011 مع العديد من الوجوه المحسوبة على نظام بن علي بينهم الراحل عبدالعزيز بن ضياء وعبدالله القلال وعبدالرحيم الزواري بتهمة إساءة استخدام السلطة. أطلق سراحه في 2013 وتم منعه من الظهور في الأماكن العامة. لكنه عاد من جديد إلى الحياة السياسية وتنقل بين أكثر من حزب من النداء إلى المبادرة إلى تحيا تونس.
في ظل هذا الجو المشحون باللاءات التي ترفع في وجه زعيم النهضة، كان عليه التحرك وإيجاد مخرج ما، عبر تسفير جانب من الخلافات إلى خصومه. أولاً داخل قبة البرلمان في محاولة لإحراج الدستوريين عبر تقديم شخصية قوية مؤثرة يراها قادرة على ضبط الإيقاع مع موسي، رغم أن الأخيرة تعتبر الغرياني “بطاقة محروقة”، ولا تعترف أصلا بما جاء به قانون المصالحة المثير للجدل. ثانيا، وهو الأهم بالنسبة إلى الغنوشي، محاولة ضرب مبادرة رئيس الجمهورية قيس سعيد الذي يبدي تمسكا بتمرير قانون جديد لـ”المصالحة”، ما قد يهدد رغبة الغنوشي المستمر في الإمساك بهذا الملف واستعماله ورقة للتفاوض وبناء نوع من الثقة مع قيادات وكفاءات دولة اختارت القطيعة مع فوضى ما بعد الثورة، ورفضت أن تضع خبراتها في مسار بلا أفق.
مع الإشارة إلى أن قيس سعيد ليست له مبادرة مصالحة شاملة وإنما يحاول إحياء مبادرة قديمة تعود لسبع سنوات وتهدف إلى مقايضة رجال الأعمال بمعادلة المال مقابل وقف التتبعات. وتستغل حركة النهضة موقف سعيد الذي يسيطر عليه منطق التحامل على “الأزلام” كي تناور بإظهار أنها البديل الأقرب لاستقطاب تلك الكفاءات التجمعية.
معطى آخر لا يقل أهمية يتعلق بتخطيط الغنوشي للترشح إلى رئاسة تونس في العام 2024 رغم تآكل شعبيته، وقد كشف عن ذلك مؤخرا في رسالة لمجموعة المئة المناهضة لتأجيل انعقاد مؤتمر الحركة الحادي عشر والرافضة للتمديد له لولاية جديدة، وما أثاره ذلك من حنق كبير لدى قياديين بارزين أعلنوا العصيان ضده.
ما يلحظه مراقبون أن الغنوشي يسعى بكل أدواته الممكنة إلى تسفير الخلافات الداخلية التي يواجهها من قيادات بارزة سئمت خروجه عن النص وإنهاكه للمشهد السياسي، عبر اجتراح حلول ظرفية تسمح له بالتخفي إلى حين مرور العاصفة. فتعيين الغرياني يأتي في هذا الإطار وهو يعتبر حلا من بين الحلول وواجهة يستخدمها زعيم الحركة لضرب خصومه التقليديين، وربما يكون كشافا له نحو قصر قرطاج.
في حال انتقل الغرياني إلى قبة البرلمان، فإن مهمته لن تقتصر، حتماً، على مرافقة الغنوشي كظله أينما حل، على غرار ما كان يفعل الحبيب خضر سابقا، بل إن عمله سيكون تكتيكيا، استكشافيا، من أجل مهمات أبعد ستأتي لاحقاً.