محكمة الذات الجائرة

إذا أتيحت لنا الفرصة لقضاء وقت قصير قبل النوم لاستعراض أحداث كل يوم، فنحن قلما نسْلم من توبيخ أنفسنا؛ الأفكار المزعجة التي تسلط ضوء النقد الذاتي تمنعنا من الاستسلام للنوم من دون المرور بمحكمة الذات القاسية، التنمر الشخصي الذي نتعرض له يوميا تقريبا يقوض ثقتنا بأنفسنا ويجعلنا تحت رحمة تأنيب الذات بل وجلدها، فقط لأننا لم نتصرف بصورة جيدة بما فيه الكفاية أو هكذا تعتقد ذاتنا الناقدة.
لكنْ هناك ترياق خاص للالتفاف على قرارات هذه المحكمة الجائرة، كما يقرر علماء النفس، وهو ترياق التعاطف الذاتي؛ أي أن نتقبل عيوبنا وضعفنا بسماحة نفس مثلما نتقبل نقاط قوتنا وأن نأخذ أنفسنا بالنية الطيبة تماما، مثلما نفعل مع أصدقائنا والأشخاص المهمين في حياتنا، فلا نقف كثيرا عند الهفوات والسقطات غير المحسوبة وغير المقصودة.
هذا النوع من النوايا الحسنة الموجهة إلى الداخل مهمّ بقدر أهمية العلاج الدوائي الذي يطرد عنا المرض الجسدي ويمنحنا مناعة لأجل معين؛ فترياق التعاطف يهدئ النقد الذاتي ويزيح عن أرواحنا قليلاً الآثار المؤلمة لسوط التأنيب ويطبب جروحنا النفسية ويشعرنا بالثقة والأمان مرة أخرى لمواجهة أحداث يوم جديد.
تكشف الأبحاث أن التعاطف الذاتي لا يعد خيارا مريحا يجعلنا نشعر بالتحسن ويحررنا من الضغط النفسي الذي يسببه تقريع النفس فحسب، بل إنه ينطوي على تقييم موضوعي وعميق للذات من شأنه أن يمنح الأشخاص قدرة أكبر للتعامل مع المواقف الصعبة في الحياة؛ كالمرض والطلاق أو فقدان الوظيفة، وربما يتدخّل في تعديل سلوكات الحياة اليومية كاتخاذ خيار الطعام الصحي أو الابتعاد عن الكحول والتدخين، إذ أن التغلب على الناقد الذاتي يمكّن المرء من الوصول إلى كامل إمكاناته الجسدية والعقلية والنفسية أيضاً.
فمن منا يمتلك مثل هذا الترياق يا ترى؟
يمكن لأحدنا ببساطة أن يصنع علاجا للنقد الذاتي إذا تبين له أن صوت الناقد الداخلي ما هو إلا فكرة خطرت له في لحظة معينة، والأفكار تحتمل الخطأ والصواب فليس كل مل نفكر فيه أو نتصوره صحيحا أو دقيقا، فربما كان مبالغا فيه أو منحازا بشكل أو بآخر إلى تجاربنا الشخصية.
بعد ذلك، يمكننا أن نحرر الفكرة باعتبارها خاطئة وغير واقعية أو أنها لا تنتمي إلى خياراتنا، وحتى لو جانبت الواقع قليلا فإن هذا النوع من الأفكار المتنمرة يعمل على تعديل سمة الاعتداد بالذات، فكلما تم تحييدها استعدنا ثقتنا بأنفسنا وفي هذه الحالة فقط يمكننا أن نتقبل فكرة مغايرة تماما؛ هي أننا كائنات إنسانية لا تخضع لمواصفات الكمال التي تتصف بها بعض الظواهر في هذا الكون الواسع، أو تقترب منه.
ولمن لا يمتلك القدرة على مواجهة النقد الذاتي فهناك من المقربين أو الأصدقاء من يمكنه أن يقدم هذه الخدمة عن طيب خاطر، مع مساحة واسعة من الثقة التي نمنحها لهم، على أمل أن يمدوا لنا يد العون بالترياق ويحملوا على عاتقهم رفدنا بمشاعر التعاطف والتفهم والمشاركة والمواساة.