"محفل": عمل يستسهل إعادة الموروث الموسيقي التونسي

انتظر جمهور مهرجان قرطاج الدولي والصحافيون والنقاد والفنانون عرض “محفل” للفنان الفاضل الجزيري ليشهدوا حفلا فنيا يبحث في الموروث الثقافي التونسي ويقدم تنويعاته، لكن العمل لم ينل استحسان الغالبية التي رأت فيه استسهالا كبيرا واستخفافا بالجمهور.
في العام 1991، والعام الذي تلاه، قدم الفنان التونسي الكبير الفاضل الجزيري عرضيْن موسيقيين ناجحين، لا يزال التلفزيون الرسمي التونسي يعرضهما من حين إلى آخر، ويذكرهما المثقفون والفنانون التونسيون كعملين فنيين نجحا في تثمين التراث اللامادي التونسي برؤيةٍ معاصرة آنذاك.
هذا العام، خاض الجزيري مغامرة ثالثة لتقديم “المحفل” (طقوس الأفراح)، ضمن تجربة ثالثة روّج لها على أنها مزاوجة بين الموسيقى التقليدية والحديثة، حيث تم توظيف أنماط فنية متنوعة، تجمع بين الموسيقى الشعبية الفلكلورية التونسية (الجربي، الفزاني، العلاَجي، الغيطة، السعداوي، الدرازي، بوزيقة، الشاوي، المربع، بونوارة) وموسيقى الروك والبلوز والجاز وغيرها، لكنها جاءت تجربة غير موفقة، أثارت غضب الموسيقيين والفنانين وشريحة واسعة من الجمهور.
عرض “محفل” الذي افتتح فعاليات الدورة السابعة والخمسين لمهرجان قرطاج الدولي هو إنتاج مشترك بين مركز الفنون جربة (خاص) ومسرح الأوبرا بمدينة الثقافة (حكومي)، وهو عرض فرجوي احتفالي يعيد تجسيد طقوس الأعراس البدوية التونسية.
وشارك في عرض “محفل” الذي حضره جمهور المهرجان بأماكن ممتلئة، قرابة 120 فنانا بين عازفين ومنشدين وراقصين ومغنّين تونسيين.
ويوضح بيان العرض أنه جمع أصواتا استثنائية من السرس، جربة، الكاف، سيدي بوزيد وتونس، وهم: محمود عيدي وأنيس علوي (سليانة)، زبيدة بن محمود (جربة)، محمد علي شبيل، نور شيبة وسامي الكامل (سيدي بوزيد)، مراد قراش، هيثم حضيري، علي الجزيري، آمنة الجزيري، يحيى الجزيري، محرز الماجري، أسامة النبلي، سامي رزقي، نضال اليحياوي وفوزية الزغلامي (الكاف).
إخراج مرتبك
أدى الفنانون أغاني تراثية تونسية تتغنى بالحب والفرح وتُؤدى في الأعراس التونسية التقليدية على غرار “ساق نجعك” و”هزّي حرامك” و”محفل جربة” و”على باب دارك”.
واستمع جمهور المهرجان إلى “بين الوديان” و”دزيتيلي هاني جيتك” لأيقونة الفن الشعبي في تونس الفنان الراحل إسماعيل الحطاب، بتوزيع جديد وتناوب الكورال على الجمل الموسيقية للأغنيتين بطريقة جديدة.
هذه الأغاني جاءت كتحية إلى روح الحطاب الذي غنى فوق نفس الخشبة منذ ما يناهز الأربعة عقود، وأعادت التونسيين إلى مناخات النوبة التي كانت مفتاح شهرة الجزيري والذي يرى بدوره أن إسماعيل الحطاب هو أيقونة الفن الشعبي التونسي عبر التاريخ في شقه البدوي.
هذا العرض رغم أنه بإشراف فنان مسرحي كبير إلا أنه جاء فاقدا للانسجام، وللرؤية الإخراجية والجمالية، يجمع المئات من الراقصين والمغنيين والعازفين، دون توزيع جيد للوحات الاستعراضية، فالجميع يرقص متى يشاء ثم يعود للغناء، بأزياء لا تعكس روح “المحفل” التونسي وتنوعه وفق الجغرافيا التونسية.
كذلك الموسيقى لم يكن فيها الكثير من التجديد، إلا البعض القليل، الذي حاول المزج بين الروك والموسيقى الشعبية، فكان مزجا هجينا غريبا لم تستسغه أذن التونسي التي ألفت الثوابت الفلكلورية ولم تتقبل تغييرا غير مدروس في أغان أصبحت اليوم تراثا وجزءا لا يتجزأ من هوية التونسي.
الفواصل الموسيقية بين الفقرات كانت هي الأخرى في أغلبها مقتطفات من عرض فني سابق عرض أيضا في مهرجان قرطاج الدولي منذ سنوات، وهو عرض “فلاقة” لنصرالدين الشبلي المعروف باسم “نصرو” والذي شارك في عرض “محفل” مع مجموعة من عازفي الإيقاع، مجتهدا في توجيههم لإضفاء الكثير من الحماس والإبهار السمعي والبصري.
وحده الفارس أو الخيّال كما يسميه البعض بزيّه الشبيه بأزياء المقاومين وبحصانه الراقص وسلاحه المشهر في وجه عدو وهمي هو من أضفى جمالية على بداية العرض وختامه، فاتجهت نحوه الأنظار، مترقبة خطواته المحسوبة وزيّه الاحتفالي.
هذا العرض الذي اشتغل عليه لسنة كاملة، جاء متسرعا يستسهل إعادة تقديم التراث التونسي، بأغان اعتادت المجموعات الموسيقية تقديمها في السنوات الأخيرة، بعضها برؤية معاصرة وبعضها الآخر يحافظ على هويتها، ورغم أن فنانين تونسيين كبارا كانوا يعتزمون المشاركة فيه، إلا أن العرض الأول له ربما يبرر غيابهم، فقد جاء بإخراج مرتبك خلّف ردود فعل عنيفة لن يتقبل أي فنان تونسي يحترم تجربته أن يكون ضحيتها.
هوية جماعية
المحفل عندنا في تونس محافل، يختلف من إقليم جغرافي إلى آخر ومن مدينة إلى أخرى، وأحيانا بين سكان المدينة الواحدة، يتميز بأجوائه الاحتفالية، بزغاريد النسوة وأزيائهن المطرزة والملونة وحليّهن الذهبية، تختلف رقصاتهن باختلاف المحفل وجهته، كذلك تختلف الموسيقى بين الحضر والبدو، لكنه يظل محفلا تونسيا، يعبر من خلاله التونسيون عن هويتهم الجماعية، لا يعتبرون أفراحهم كاملة دون محفل كبير يمتد ليالي وأياما كانت في السابق “سبعة أيام وسبع ليال”، لكنها اُختصرت اليوم في عصر السرعة في يومين أو ثلاثة.
والمحفل اصطلاحا هو عبارة عن مجموعة نساء متجمّلات بأبهى ما لديهن من اللّباس والحلي، يتجمّعن في المناسبات الاحتفاليّة كالعرس والختان في شكل موكب يترجّل باتّجاه بيت الاحتفال، ويكون ذلك بطريقة متوارثة ومعلومة لدى أهل البوادي.
وتقول الباحثة الزازية برقوقي إنه في المحفل “تلتقي جملة من العناصر المشكّلة لهذه الظّاهرة، تتمثل في نخبة من النّساء اللاّتي يتقنّ الغناء والزّغردة، ومختارات من أغاني المحفل والتي تكون في مجملها ذات علاقة بالإطار والمناسبة، إلى جانب حضور جملة من الرموز والدلالات تنطلق من المخيال الجمعي وترتبط أساسا بأدوات التخاطب المتعلقة باللفظ والحركة والشكل واللون”.
وتوضح “تثير نساء المحفل بغنائهن مشاعر الاعتزاز بالنّفس وبالانتماء لدى الأهالي، كما تحيي ما خزّن في الذاّكرة من قيم الفتوّة والفروسيّة وبطولات المعارك والصّراعات، لذلك تحرص نساء المحفل على انتقاء الأغاني حسب متطلّبات المقام، خاصة إذا رأين الفرسان يستعدّون للرّكض واستعراض مهاراتهم”.
تجربة مسرحية مهمة
يحظى الجزيري بقيمة كبيرة في الساحة الثقافية التونسية وهو يعد واحدا من الرواد الذين أسسوا لفن مسرحي ولموسيقى تعترف بالذائقة الشعبية التي كانت في سنوات ما بعد الاستقلال وحتى في عهد نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي منبوذة، ينظر إلى محبيها وأهلها وممارسيها نظرة دونية لم تتصالح مع الاختلاف إلا منذ سنوات قليلة.
منذ نحو اثنين وثلاثين عاما كان الجزيري شريكا في عرض “النوبة”، عرض أعلن ميلاد عدد كبير من الفنانين الشعبيين، وصالح الجمهور مع فكرة اعتلاء الراقصات وفناني النوب (جمع نوبة) والأعراس خشبة أكبر المهرجانات الفنية، ويحسب له أنه كان جريئا في تنفيذ هذه الفكرة في ذلك الزمن بكل ما تميز به من خصوصيات اجتماعية. ورغم ذلك يراه البعض فنانا نال رضا السلطة ولا يزال، فتكرّم أعماله مهما كانت نقائصها، وتحتفي به مؤسسات الدولة وفي مقدمتها وزارة الثقافة، مهما تغير قادتها. كذلك تحظى مبادراته الفنية بالدعم الرسمي دون غيرها من التجارب.
ولد الجزيري في عائلة من البرجوازية الصغيرة في تونس المدينة معروفة بصناعة الشاشية، والده كان بائع كتب معروفا في باب سويقة ومدير مقهى “رمسيس” ونزل “الزيتونة” وهي أماكن تجمع السياسيين والمؤلفين والمسرحيين والموسيقيين في ذلك الوقت. مكن هذا المحيط الجزيري من تطوير حبه للثقافة والمسرح وامتهانه العمل الثقافي، لكنه جعله دوما في مرمى “العنصرية الجهوية”، فكل تقصير منه -كما هو الحال في عرض محفل- كان يقابل بهجوم “جهوي” يربط بين تنشئته البرجوازية وبين عدم قدرته على التعبير عن هوية غالبية الشعب التونسي ذي الطبقة المتوسطة الكادحة بموسيقاها الشعبية البدوية.
عرض "محفل" افتقد الانسجام والرؤية الإخراجية والجمالية رغم أنه بإشراف الفنان المسرحي الكبير الفاضل الجزيري
وتابع دراسته الثانوية في المدرسة الصادقية، حيث كان عضوا في فرقة درامية مدرسية وكان معه العديد من الأسماء ممن هم اليوم من أهم الفنانين في تونس أمثال الممثل رؤوف بن عمر. أصبح الجزيري واحدا من تلاميذ زبير التركي في الرسم تحت إشراف محسن بن عبدالله وأحمد لاربي في اللغة العربية. عندما كان تلميذا، كان يشارك في مظاهرات 1968 وفي إضرابات الطلبة في كلية الآداب بتونس، حيث كان يتحدث في إحدى القاعات لكي يعبر عن آرائه بصفته ممثلا للطلبة. وفي سنة 1969 التحق بشعبة الفلسفة لكنه أعيد بسرعة بسبب مواقفه.
بدأت نشاطات الجزيري المسرحية الأولى في دار الثقافة ابن خلدون وهناك شارك في مسرحية “مراد الثالث” لعلي بن عياد والحبيب بولعراس. سافر بعد ذلك ضمن منحة للدراسة في لندن برفقة الهادي غويلا، رؤوف بن عمر ورضا بن سليمان. وعندما عاد إلى تونس، شارك في تأسيس مسرح الجنوب بقفصة سنة 1972 برفقة فاضل الجعايبي، جليلة بكار، رجاء فرحات ومحمد إدريس الذي أخرج مسرحية “جحا والشرق الحائر”. في 1976 أسس مع فاضل الجعايبي والحبيب مسروقي مسرح تونس الجديد وأنتجوا “العرس”، “غسّالة النوادر”، “عرب” و”الكريطة”، مع فرقة مسرحية هاوية متكونة من لمين النهدي، كمال التواتي، عبدالحميد قياس وتوفيق البحري، وجميعهم اليوم من كبار الفنانين التونسيين.
أما في السينما، فمثل الجزيري في فيلم “ترافيرسي” (عبور) سنة 1981 لمحمود بن محمود، وفي “سجنان” لعبداللطيف بن عمار وفي “الميسيا” لروبرتو روسيليني. وفي سنة 2007 أخرج فيلم “ثلاثون”. كما أخرج أعمالا سابقة كانت أيقونة في مهرجان قرطاج الدولي منها “النوبة” لسمير العقربي (1991)، “الحضرة” (1992)، وكذلك مسرحيات من تأليفه مثل “الزازة” 2010.
الجزيري الذي كان سينوغراف ومخرج العمل، سقطت منه تفاصيل كثيرة في تصميم وتنفيذ العناصر المشهديّة، لو حضرت لكان العمل متكاملا، وفي حين شفعت له تجربته المهمة لدى البعض، رأى البعض الآخر أن تلك التجربة عينها هي ما يجب أن تكون الحجة الأكبر لانتقاده، واستنكار الاستسهال الكبير في عرض موسيقى المحفل التونسي.
تجربته خضعت أيضا لمقارنة بين “محفل” وبين عرض “عشاق الدنيا” الذي افتتح فعاليات الدورة السادسة والخمسين لمهرجان قرطاج العام الماضي، والذي قدم فيه المخرج عبدالحميد بوشناق رؤيته الخاصة للموسيقى الشعبية في التسعينات من القرن الماضي، ونقل للمشاهد حكاية مسرحية مقتبسة من عمله الدرامي “النوبة” بجزئيه الأول والثاني.
إن تراثنا الشعبي يزخر بزاد ثقافي ثري من العادات والتقاليد والممارسات الشعبية التي تعكس بوضوح هوية وأصالة مجتمعنا أمام ما يعتريهما اليوم من متغيرات طرأت علينا بفعل التطور والحداثة، وهيمنة الثقافات الوافدة التي أسهمت في تغريب الشعب، تغريب يبدو أنه انعكس على “محفل” الجزيري الذي جاء مفتقدا للبحث والتدقيق، لا يعدو كونه مجرد استعراض لجوانب من الثقافة الشعبية، ولم ينجح كثيرا في إبراز الخصوصيّات الاجتماعيّة والتّصورات الفكريّة والممارسات الاحتفاليّة للمحافل التونسية والوقوف على أهم رموزها الدلاليّة.