متى يتخلص قيس سعيد من تأثير المزايدات بشأن صندوق النقد

لم يعد هناك شك لدى تونس في أن لا حل من خارج صندوق النقد. سمع الرئيس التونسي قيس سعيد هذه الحقيقة من الأوروبيين الذين زاروه الأحد الماضي، ومن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، ومن تصريحات مسؤولين خليجيين، وسيكون عليه الآن أن يجد مدخلا لمراجعة موقفه المتشدد من ولوج بوابة الصندوق.
لقد أوقعت المعارضة واتحاد الشغل قيس سعيد في فخ موضوع الصندوق من خلال المزايدات والاتهامات برهن البلاد للخارج من خلال اتفاق غير عادل. مع العلم أن المعارضة، التي كان جزء كبير منها في السلطة، تفاوضت مع الصندوق وتوصلت معه إلى مشروع اتفاق وكانت في كل مرة تتهرب من التوقيع لاعتبارات شعبوية، وأنها كانت تقدم مصالحها الحزبية على مصالح الناس وحاجة البلاد إلى اتفاق يفتح الطريق أمام إصلاحات اقتصادية جدية.
وسمع قيس سعيد المزايدات نفسها من اتحاد الشغل الذي حذر باستمرار من “رهن” البلاد لإملاءات صندوق النقد الدولي. وكان يرفض بصفة خاصة إصلاح المؤسسات الحكومية الكبرى التي لديه فيها ثقل كبير.
وضمن هذه المزايدات بنى قيس سعيد موقفه من الصندوق، ووصف شروطه لإصلاح الاقتصاد التونسي بأنها إملاءات أو أنها تدخّل في السيادة الوطنية بالرغم من أن حكومة نجلاء بودن قد شرعت في الاستعداد للاتفاق وصمت الآذان عن المزايدات.
◙ حديث قيس سعيد عن سلم اجتماعي يهدده سحب الدعم يفترض أن تونس لديها بدائل تحفظ هذا السلم الاجتماعي فهل هذا موجود بالفعل
ربما كان رفض الرئيس سعيد لشروط الصندوق في 2021 و2022 أمرا مفهوما في ظل صراع إثبات القدرة على الحكم بوجه حملات داخلية وخارجية، وبسبب انشغاله بإعادة بناء السلطة وفق مقاربته الشخصية بالشكل الذي مكنه من أن يصبح صاحب القرار الأول والأخير.
الآن الوضع مختلف، فالظرف الاقتصادي صعب وقدرات الدولة المالية لم تعد قادرة على إدارة الأزمة ولو بالحد الأدنى في ظل عجز الميزانية والتكاليف العالية لكتلة الرواتب والإنفاق الحكومي الذي لم يطله التقشف بعد. كما أن فرص البحث عن بدائل تمويل من خارج صندوق النقد لم تعد متوفرة في ظل توافق جميع الشركاء الإقليميين على أن فرص التمويل أمام تونس تبدأ بعد التوقيع على الاتفاق مع الصندوق وليس قبله، كلام قاله الأميركيون بوضوح والاتحاد الأوروبي والشركاء الخليجيون.
وبعد الوقوف على هذه الحقيقة، وقبل التصعيد مع صندوق النقد أو المانحين الغربيين، ينبغي التفكير في إجابة هادئة على هذا السؤال: هل ما يطلب من تونس منطقي أم لا؟ لننس لحظة الشعارات التي يرددها الاتحاد والمعارضة والكثير من حزام الرئيس سعيد من قوميين ويسار، ونفكر ببراغماتية الدولة التي تبحث عن حلول لنفسها، ولا نشك أن قيس سعيد سينتهي إلى توليفة منطقية تفضي إلى قبول التعاون مع الصندوق ومفاوضته في الشروط وتحسينها أو إرجاء بعضها.
طالما حذر الرئيس التونسي من أن القبول بشروط صندوق النقد الدولي يمكن أن يهدد السلم الاجتماعي، مذكرا باستمرار بأحداث الخبز في يناير 1984 وما خلفته من ضحايا وغضب شعبي مكتوم يمكن أن ينفجر مع العودة إلى الأخذ بأفكار الصندوق وخاصة مسار تقليص الدعم أو رفعه كليا.
حديث قيس سعيد عن سلم اجتماعي يهدده سحب الدعم يفترض أن تونس لديها بدائل تحفظ هذا السلم الاجتماعي، فهل هذا موجود بالفعل. طبعا لا، وهو ما يعني أن السلم الاجتماعي مهدد بالحالين.
وتحتاج الحكومة التونسية، وهي حكومة تكنوقراط، إلى أن تظهر إلى المشهد وتشرح للتونسيين حقيقة وضعهم بالأرقام، والفرص التي أمامهم، وهل صحيح أنهم يمكن أن يضربوا بشروط الصندوق وضغوط أميركا وأوروبا عرض الحائط؟ وهل ثمة بدائل من الشرق؟ هل قدم الصينيون أو الروس وعودا؟
ربما يكون الرئيس سعيد محرجا في التراجع العلني عن تمسكه برفض خيار اللجوء إلى صندوق النقد. يمكن لرئيسة الحكومة، التي لا تفكر في الترشح لانتخابات قادمة، ولا طموح سياسيا لها، أن تنوب عن الرئيس في هذه المهمة، مستفيدة من تطور مهم في الموقف الأميركي.
منح وزير الخارجية الأميركي، في تصريحات له الاثنين، تونس السلم الذي سيمكنها من النزول من علياء تشددها حين بعث إشارة إيجابية توحي بأن بلاده تدعم عودة المفاوضات بين تونس والصندوق، وإعادة النظر في شروط الاتفاق وفق المرونة التي تسمح بها آليات الصندوق، بما يوفر للحكومة التونسية فرصة إقناع التونسيين بأهمية الاتفاق وتخفيف حدة التخوف منه، والذي سبق أن أشار إليه الرئيس قيس سعيد مرارا.
◙ لقد أوقعت المعارضة واتحاد الشغل قيس سعيد في فخ موضوع الصندوق من خلال المزايدات والاتهامات برهن البلاد للخارج من خلال اتفاق غير عادل
تجنب بلينكن ربط الدعم الاقتصادي بالملف السياسي كما كان يحصل في السابق، في موقف يظهر أن مقاربة واشنطن صارت تلتقي مع المقاربة الأوروبية في إدارة الأزمة التونسية، وأن الأهمية تكمن في مساعدة البلاد على الخروج من أزمتها المالية الخانقة وتشجيعها على ذلك وإرجاء عناصر الخلاف معها إلى ظروف أفضل.
ويمكن أن تقدم تونس مشروعا يتضمن مآخذها على عرض الصندوق، وتقترح خطة زمنية لتنفيذ التزاماتها تجاه الصندوق، خاصة أن تجارب سابقة له مع دول مثل الأردن ومصر لم تتضمن شروطا قاسية من نوع رفع الدعم عن المواد الأساسية، بل بالعكس وضع خططا مرحلية تقوم على التفاهم مع الدول المعنية من أجل التعافي وتحكّم الدولة في مواردها.
وما يدعو إلى التفاؤل أن الحكومة التونسية خطت خطوات في التحضير لمتطلبات الاتفاق مع الصندوق بالرغم من مؤاخذات الرئيس التونسي على هذا الخيار.
وكشفت وزيرة الصناعة والمناجم والطاقة السابقة نائلة نويرة القنجي قبل إقالتها عن بعض تفاصيل هذا الاتفاق، حين قالت إن “الحكومة شارفت على الانتهاء من إعداد برنامج توجيه الدعم إلى مستحقيه وخاصة في ما يتعلق بالمحروقات”.
ويتوقع أن تحمل الأيام القادمة إشارات عن تغيير في موقف الحكومة التونسية باتجاه العودة إلى الاتفاق مع صندوق النقد واستكمال التفاوض بشأن نقاط الخلاف والخطوات الترتيبية لاستلام القسط الأول من القرض. وأول هذه الإشارات ما نقلته وكالة رويتزر الثلاثاء عن مسؤول حكومي تونسي قال إن بلاده تعد اقتراحا بديلا لطرحه على صندوق النقد، وأن هذا الاقتراح لا يشمل أي إجراءات تتعلق بخفض دعم السلع الغذائية والمحروقات بما يضر بالفئات المهمشة والفقيرة ويزيد معاناتها.
مع التذكير بأن قرض الصندوق ليس غاية في ذاته، لكنه عتبة ضرورية لإعادة الثقة في تونس لدى السوق المالية الدولية، وهو بمثابة ضمانة معنوية تجعل صناديق أخرى أو دولا تتشجع لمنح تونس قروضا جديدة.
وبالتالي فهو ليس حلا سحريا للمشاكل الكثيرة التي تعيشها البلاد، ولن يكون بديلا عن الإصلاحات التي يجب على البلاد أن تخوضها دون عواطف ولا شعارات ولا حسابات سياسية.