متى تتشكل لجنة تحقيق فلسطينية

لا آتي بجديد عندما أقول إن غالبية شعوب العالم الثّالث في منطقتنا تعيش بين استبداد أو احتلال، وإن المستبد العربي الذي يتصرف بصفته ربّ البيت، فالبلاد كلها ملكه الشّخصي من جبال وأنهار وسهول وآثار عمرها آلاف السّنوات، هو المغناطيس الجاذب للمحتل بسبب حماقته وتهوره. فالاستبداد لا محالة ينتهي إلى احتلال خارجي أو انقلابات أو حروب أهلية بسبب النزعات العصبية أو المذهبية أو الإثنية وهو يتأسس على هذه النزعات، وهي عبارة عن تقوقع حزب أو جماعة أو طائفةٍ ما على نفسها واعتبار أتباعها أنهم الفرقة الناجية دينيا أو وطنيا، وهذا تماما ما يحدث في إسرائيل عندما يتشدقون بأنهم شعب الله المختار.
وفي إسرائيل اليوم وعند شعب الله المختار، تمّ تشكيل لجنة تحقيق للوقوف على ما جرى في السّابع من أكتوبر، وحدثت خلافات حادة بين وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير الذي لم يخدم في الجيش الإسرائيلي أساسا، وبين رئيس الأركان هرتسي هاليفي وارتفع الصراخ بينهما، مما اضطر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى رفع الجلسة (انتهى الخبر). لكن المضحك المبكي هو قيام بعض وسائل الإعلام من قنوات فضائية أو صحف عربية، بنقل هذا الخبر بأسلوب عجيب وكأنه بداية نهاية إسرائيل، وأن الحرب الأهلية الإسرائيلية على الأبواب.
هذه اللجنة المكلفة إسرائيليا بعد مرور ما يقارب ثلاثة أشهر على حرب الإبادة ضد الشّعب الفلسطيني، بدأت مهامها فعليا. ولكن السؤال الصعب متى ستخرج إلى الضوء لجنة فلسطينية مشابهة تقف على ما جرى بعد عملية طوفان الأقصى وتقوم بمراجعة ومحاسبة شاملة كاملة وطنية لا فصائلية؟
قمة الوطنية تكمن في الجرأة على مراجعة المراحل السّابقة وتقييمها والعمل على تقويمها، ومراكمة الانتصارات، كي لا تكون مجرد شهادة وتضحية وخراب ودمار بلا نصر وتحقيق المآرب التحررية
والسؤال الأصعب أيضا، لمَ عندما يتم الحديث فقط، عن تقدير وتقييم ما جرى وما كسبنا أو ما خسرنا إلى حد الآن بعد طوفان الأقصى، يكون هذا من الكبائر ومن الخيانة و.. إلخ من التهم التي وجهت إلى أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية حسين الشيخ عندما طالب بضرورة هذا التقييم، وقامت الدنيا ولم تقعد. ولمَ عند مجرد الحديث عن ضرورة هذا التقييم والمحاسبة يعتبر هذا كفرا بواحا وفي درجة أقل أنّه حديث سابق لأوانه، وفي المقابل هو من البديهيات والمسلمات والضروريات التي لا يختلف عليها إثنان في حكومة الحرب الإسرائيلية الموغلة في التطرف والتخلف.
إن الإعلام العربي يسلط الضوء، على تصرفات وتصريحات الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة ويظهر مدى عنصريتها وشرورها ويتحدث بصيغة تقترب إلى التباهي عمّا يحدث بها من خلافات، أفلا يتوجب الحديث إعلاميا أيضا عن مرحلة تقييم للوضع الفلسطيني؟!
لكن، وللأسف الشديد وأقولها بغصة كبيرة، أن هذه الحكومة المفترسة والآكلة للحوم الفلسطينيين، متقدمة ديمقراطيا وعمليا ووطنيا على الواقع الفلسطيني.
فقمة الوطنية تكمن في الجرأة على مراجعة المراحل السّابقة وتقييمها والعمل على تقويمها، ومراكمة الانتصارات، كي لا تكون مجرد شهادة وتضحية وخراب ودمار بلا نصر وتحقيق المآرب التحررية. ليس هذا فقط، بل عدم نصب فزاعة التخوين والتكفير في وجه من يتحدث عن هذه المراجعة، والتوقف عن رسم هالة مقدسة تحيط بعملية طوفان الأقصى وكأنها غزوة من غزوات النبي الكريم لا يجوز المساس بها أو الاقتراب من ذكرها، والوقوف على حقائق وإرهاصات المرحلة الماضية وتوابعها بحلوها ومرّها وبخيرها وشرّها.
وفي المحصلة، يجب أن ترتفع الأصوات الفلسطينية والعربية المطالبة بضرورة تشكيل لجنة تحقيق داخلية، وتقع هذه المسؤولية على عاتق المثقفين في الدرجة الأولى، وأن تدعم الصوت السّياسي الذي طالب بضرورة هذا التحقيق، لا أن تهاجمه وهي تعرف تمام المعرفة، أنّه يصدح بالحق لكنه كان الأكثر جرأة، والنخب التي عاكسته هي التي تخاف أن تنظر في المرآة.