متحف أورانجيري في باريس يحتفي بالشاعر غيوم أبولونير

احتفاء بالظاهرة المدهشة المسماة أبولونير، يقيم متحف أورانجيري في باريس معرضا بعنوان “أبولونير: نظرة الشاعر” ندخل فيه رحلة إلى عوالم الأخير حيث يتداخل الشعر والمدارس الفنية ورواد القرن العشرين من بيكاسو وكوكتو وجايكوب وماتيس وغيرهم، ليردد من يغادر المعرض العبارة التي رددها سكان باريس حين تشييع أبولونير “العنوا غيوم” قاصدين بذلك السخرية من الامبراطور الألماني عبر جثمان أبولونير.
يأخذنا المعرض عبر الصور والتخطيطات إلى بداية حياة أبولونير، مولده في روما إذ نرى صورة لأمه وإشارات إلى غموض نشأته، فالأخير كشاعر يرى نفسه نقيض رامبو، فكما صاحب المركب السكران اعتزل أوروبا كلها، أبولونير قام بالعكس، خلق لنفسه عجائبية خاصة جعلته ينغمس في أوساط الفن والشعر، وأحاط نفسه بهالة من الغرابة وخفة الظل جعلته يبرز كناقد فنيّ من العيار الثقيل، فهو صديق التكعيبيين وروّاد السينما الأوائل، كما أن الغرابة هذه لا تقتصر على نتاجه وآرائه بل تمتد إلى حياته ذاتها، فغموض نسبه جعل أصدقاءه يحولونه إلى أسطورة، حتى البعض ادّعى أنه ابن غير شرعي للبابا، كما أنه سجن لأسبوع حين اتهم بسرقة المونوليزا عام 1911 ما زاد من الأقاويل من حوله.
المعرض يستعيد عوالم أبولونير الخصوصية منها والعمومية، لنشاهد مراسلاته ومخطوطاته إلى جانب قصائد “الكاليغرام” الخاصة به على الجدران، بورتريهات له في كل مكان، رسمها كوكتو، بيكاسو، جيكوب، دوشامب، شاغال، ليبدو أبولونير كأفيون يجتاح الجميع، كذلك نتلمس التحولات التي مر بها في حياته والأحداث التي شهدها، فتارة نراه مهرجا وتارة نراه بثيابه العسكرية وهو يلف رأسه بضمادة كما في أحد تخطيطات بيكاسو له، لينطبق عليه اسم “الشاعر ذو الرأس المكلل بالنجوم” كما يقول فاولي وذلك إثر إصابته بشظايا في رأسه بعد التحاقه بالجيش الفرنسي عام 1914.
نشأت بين بيكاسو وأبولونير صداقة عميقة بدأت عام 1905، فتبادلا الرسائل والهدايا والأعمال الفنية، والمعرض يعكس ذلك عبر أعمال بيكاسو المهداة للأخير، وبالرغم من تقدير أبولونير للتكعيبية ودفاعه عن هندسيتها وخطوطها كناقد فني، أبولونير كشاعر كان المضاد لذلك، قصائده التي نراها بخط يده هي انبثاق لروح حرّة، انفلات من القيد ولهب يزكي روح العصر الجديد، إذ نراها ممتدة على صفحات الجرائد وعلى الجدران بأشكالها الفريدة .
أبولونير جعل من حياته وحيا للآخرين، صديق الفنانين والشاعر كوّن ذاته ليكون ملهما، يستمد فرادته من هذه الذات نفسها ومن تجاربها
أبولونير جعل من حياته وحيا للآخرين، صديق الفنانين والشاعر كوّن ذاته ليكون ملهما، يستمد فرادته من هذه الذات نفسها ومن تجاربها، وكان دوره جوهريا في الثورة الجمالية التي ساهمت في خلق ما يعرف بـ”الفن الحديث”، فتأثيره يمتد حتى بعد وفاته مع السورياليين في منتصف القرن العشرين، فتكويناته الشعريّة كانت ملهمة لأراغون وإيلوار، بل وحتى مسرحيته “نهدا تريسياس” اعتُبرت تبشيرا بالمسرح الجديد حين أعيد عرضها في الأربعينات، هذا التأثير جعل السورياليين يعتبرونه شفيعهم وقديسهم، بل حتى أن كلمة “سوريالية” يعود الفضل له في تكوينها، حيث ظهرت للمرة الأولى عام 1917 في رسالة وجهها لصديقه بول دورمية.
في المعرض نتلمس أبولونير الشخص، مقتنياته الفردية، خط يده، خربشاته، مخطوطات قصائده، مقالاته وكتبه بطبعاتها الأولى، إلى جانب أبولونير المُلهم، كيف رآه الآخرون وكيف تلمّسوا حضوره، لنتحسس عبره إرهاصا لما ستشهده السنوات المجنونة في باريس لاحقا.