ما بعد الرواية فرضيات يجيب عليها الروائيون بنصوصهم

التجريب في الكتابة مغامرة هادفة لتقويض القواعد.
الخميس 2024/07/04
التجريب عوالم مختلفة (لوحة للفنان علي رضا درويش)

نسمع مرارا عن موت الرواية كجنس أدبي، وهو ادعاء تكرر منذ عقود، وكانت إجابة الرواية دائما التنويع في أسلوبها وتجديد ثوبها، تحت لافتة التجريب. واتجه الكثير من الكتاب العرب إلى التجريب الروائي ما منحهم مساحات واسعة ومختلفة لتقديم نصوص وأفكار وجماليات خارج المألوف.

حديث النهايات طال الرواية شأنها سائر الأجناس الأدبية والفنية المعروفة، هذا عدا ما وصلت إليه الفلسفة من الرفاهية إذ لم يعد الفيلسوف مثيرا للقلق، وبالتالي لا يطارده رجال محاكم التفتيش كما كان عليه الحال في العصور المظلمة، ولا يطلق أفكارا مشاغبة بل جل ما يشغله أكثر هو البحث عن دور في عالم لا يطول فيه عمر الأفكار المطروحة، لذلك لا يستغرب أن تكون الرواية على مرمى المناقشات التي تدور حول بوادر الغسق الفني والفكري.

ربما يرى البعض أن الرواية ليست مشمولة بهذا الاحتمال لأنها أكثر الفنون مرونة وحيوية، كما أن التجديد في صياغة النص الروائي هو ما يبعد عنه التراوح في الأشكال المستهلكة. ولا شك أن هذا المنطق لا يجانبه الصواب، لأن الروايةَ بخلاف بقية الأجناس الأدبية تعيش على موت خلاياها المسمومة بالتقليد والاجترار. وتستمد الزخم من التفكيك والبناء.

وإذا كان التنويع مدارا للمشروع الروائي، فإن كل ذلك لا يعني بأن هذا الفن يتنفس في منطقة الأمان. والدليل على هذا الرأي هو الأعمال الروائية التي تتناول هموم الكتابة أو تتخذ من ثيمات وشخصيات العناوين الكلاسيكية منصة لمناقشة فرضيات التأليف، ومتطلبات الإبداع الروائي وهذه النبرة من التجريب أصبحت مسموعة في الروايات العربية لاسيما في اشتغالات الأصوات الجديدة.

التثوير الشكلي

عدة أعمال روائية تتناول هموم الكتابة أو تتخذ من ثيمات وشخصيات أدبية منصة لمناقشة فرضيات التأليف
عدة أعمال روائية تتناول هموم الكتابة أو تتخذ من ثيمات وشخصيات أدبية منصة لمناقشة فرضيات التأليف

 تقوم “الجنة أجمل من البعيد” لكاتيا الطويل على البحث عن الشكل الأمثل لبناء الرواية والكشف عن مزاج الكتابة وسيكولوجية القارئ، كما يجادل النص حدود حركة الشخصية ومصيرها العالق بنفسية الروائية المتقلبة. صحيح أن خيال المؤلف ينجب الشخصية الورقية، ولكن ما أن تقف الأخيرة على أصابعها حتى يلوح سؤال من يتحكم بمنْ؟

ويتخلل موضوع الكتابة الموازية في تضاعيف نوفيلا “ذات شتاء في سوكشو” لإليزا شو دوسابان إذ يكشف مما يرشح من الحوارات بين الشخصيتين الفاعلتين الراوية والزائر الفرنسي أن كيراند كاتب للقصص المصورة والغرض من زيارته إلى المدينة الكورية استلهام أجوائها في قصصه المصورة. ويمتد الحديث بين الاثنين إلى تاريخ هذا الشكل الفني وتنقل الراوية عن صديقها بأن الأخير أراد أن يكون بطله بحارا ولكن ما صعب عليه تحقيق ذلك هو كورتو المالطي الشخصية التي اخترعها  الرسام الإيطالي هوغو برات ومن ثم يتدخل صوت كيراند دون الوسيط موضحا رأيه حول مفهوم البطل، والأهم من ذلك هو رفع الغطاء عن القصة المضمرة التي تمثلها الصورة المحيلة إلى الراوية.

ويقطع الكاتب المغربي محمد سعيد أحجيوج شوطا أبعد في تثوير الشكل الروائي والارتداد عن الصياغات المعهودة وذلك بالاعتماد على لعبة التدوين وما يوهم بالمحو. وترى تبديات هذا الخط أكثر في روايته الجديدة “متاهة الأوهام” حيث تغلب أنفاس مكتئبة على الاستهلال ويتخذ السرد منحى أقرب إلى البوح والمكاشفة بالضمير الثاني، إذ ما يتوخاه السارد من ضمير المخاطب هو الاستبطان الداخلي والتعبير عن هواجسه الشخصية إضافة إلى إشراك المتلقي في مناخ النص الراصد لإكراهات الحياة اليومية.

وما يستشف من الكلام المروي أن السارد يعاني من الصراع بين التقيد بالمسؤولية الأسرية والرفض الداخلي للواقع المثقل بوطأة التحديات لذلك ينتفض على ما يمكن تسميته بالمزاج الشعبي المؤمن بأن الأطفال يأتون بأرزاقهم، لأن اليوم الأول لطفلته قد تزامن مع إعلان الشركة الاستغناء عن خدماته.

ملعب الروايات التي تنهض على التجريب يتسع للتعدد في الأشكال التعبيرية والاستبدال في الضمائر كاسرا القواعد
ملعب الروايات التي تنهض على التجريب يتسع للتعدد في الأشكال التعبيرية والاستبدال في الضمائر كاسرا القواعد

لا يكسر حلقة هذا التراوح في الهموم اليومية سوى رنين الهاتف ويثير الرقم استغراب السارد. وهو يعلق قبل الرد مبتسما مكالمة من الشيطان! يتدخل صوت أنثوي يذكر بنبرة اللزوجة المعتادة لدى كل مندوبي المبيعات الذين يحسنون اختراق عزلة الآخرين. لهذا يريد السارد اختصار المكالمة بالقول إنه ليس مهتما بالشراء مهما كانت المبيعات، معبرا عن غضبه من الشركات التي تبيع عملاءها. ولا ينقطع خط الاتصال ويتسمر الصوت الأنثوي في المطالبة بخمس دقائق من وقت من يبادلها الكلام على الخط ليتعرف كل واحد على الآخر. والأهم في هذه الحزمة السردية هو أن المتصلة تذكر اسم السارد كاشفة عن تفاصيل حياته اليومية واستسلامه لتيار الروتين المنزلي. “لا تكبت غضبك عزيزي محمد..”، وقد لا يكون الأمر مستدعيا التنويه إلى أن التطابق بين اسم الراوي واسم المؤلف يلقى بغلالة الغموض على النص ومن الأجدر بالقراءة أن تقع على خط الارتياب ولا تنساق مع المعطيات التي تحيل إلى المؤلف المعلن عن نفسه من واجهة الغلاف. لأن اختزال النص لهذا البعد يقطع الطريق على متابعة التشكيلة الإبداعية والإبانة عن تقاطعاتها مع سياقات تعبيرية متعددة.

على أيّ حال فإن صاحب “كهف الألواح” لا يغريه شرك الإسهاب والاسترسال في السرد، ويمرر جزءا من أوراق لعبة الكتابة في مستهل العمل. لا ينتهي القسم الأول من الرواية قبل تداعي شبح الشيطان إلى ذهن المتلقي وذلك عندما يجد السارد في حيثيات المكالمة فكرة لكتابة الرواية التي تنطلق به نحو قمة الأدباء الطليعيين، ما يعني أن وصفه للاتصال بأنه مكالمة من الشيطان لم يكن عفو الخاطر بل تأكيدا للمبدأ الميثولوجي الذي يربط بين الإبداع وعالم الجن.

فعلا يبدأ محمد بمحاولات ترويض المساحات البيضاء لخياله الروائي. ولا يكون العنوان غير “متاهة الأوهام”، الأمر الذي يضع مشروع أحجيوج في مصاف النصوص الروائية التي تتخذ موضوعة الكتابة ثيمة في المتن الروائي.

هنا تمكن الإشارة إلى ما نشره الكاتب التونسي سفيان رجب بعنوان “قارئة بنهج الدباغين” وهو يتناول ظاهرة الانتحال أو النصوص الشبحية متابعا على امتداد مساحة العمل كل ما يقع ضمنَ نطاق التأليف الروائي من الفرق بين تعامل الكاتب مع نصه ومقاربة الناقد للمعطى الإبداعي إلى دور المحرر الأدبي وذائقة القارئ وسلطة الأسماء الأجنبية.

إذن ينداح النفس الارتيابي على جسد النصوص الروائية ولا يقف الشك عند حدود الرواية لدى السارد في “متاهة الأوهام”، بل يستعيد ما قرأه  لمحمد شحرور عن تحريف الفقهاء لأركان الإسلام. وتمر بذهنه أصداء الجدل عن العلاقة والتشابه بين الأديان كما يلتبس في ذاكرته صوت المرأة التي تعاود الاتصال به مع فرضية أن يكون الصوت ترددا لحياة قد عاشها بنسخة أخرى أو كل ذلك ليس إلا ما قرأه في رواية “يوميات طائر الزنبرك”.

 هذا الاكتظاظ الناجم من التداخل بين الصور والأسئلة والأفكار تقابله رغبة بوجود قوة سحرية تعيد الخفة إلى الرأس يقول السارد العائد إلى الضمير الأول “فكرت لوهلة وتمنيت لو أن هذه البالوعة تمتلك قوة سحرية لتشفط أفكاري القاتمة وتخلصني من عذاب الشك”، على هذا النحو ينفرد صوت الشخصية الرئيسة بالمشهد وذلك يتناغم مع شكل النص وجزالته التعبيرية في صياغة الصورة المناسبة للنسق الروائي.

ضد الكتابة

الكتابة مغامرة هادفة لتقويض القواعد المتعارف عليها
"متاهة الأوهام" ليست إلا هموم الكتابة ومشاكسة ثيمات الروايات التقليدية

التجريب في الكتابة مغامرة هادفة لتقويض القواعد المتعارف عليها، ورمية بخلاف الخط السائد والحال هذه فمن الطبيعي أن يتسعَ ملعب الروايات التي تنهض على التجريب للتعدد في الأشكال التعبيرية والاستبدال في الضمائر. كما نرى ذلك في برنامج محمد سعيد أحجيوج، إذ لا يتقيد بالأحادية في الصياغة والضمير، بل يتنقل بين الضمائر الثلاثة كما يستدعي مع بداية كل قسم من روايته صيغة مختلفة، وهذا ما يدرك منه دراية الكاتب بفنيات الكتابة الروائية. ويعلن أحجيوج على لسان نسخته الافتراضية رأيه عن نجيب محفوظ مبديا نفورا من روايته الرمزية “الشحاذ” مع تحديد ما لا يعجبه في صياغته، وهو تكرار حرف العطف، في ما راقتَ له رواية “الحرافيش” وهي الوحيدة التي أكمل قراءتها من بين كل روايات محفوظ.

تتوارد الإحالات إلى الأعمال السابقة للكاتب في سياق متاهة البحث عن موضوع رواية هي قيد التأليف تتقاطع خطوط ثلاثة أفكار في تشكيلة محمد سعيد أحجيوج بدءا من صوت الأنثى التي تطالب بالتعارف مرورا بالملف الذي يقدمه ضابط المخابرات ليكون مادة للرواية بعنوان “لهيب الصحراء” أو “لعبة الذئاب” وصولا إلى ما يمكن استلهامه من مشاركة الحفلة الماجنة.

ولا يوجد ما يناسب عنوانا لرواية معجونة من أجواء داعرة سوى رقصة تعرّ. حصيلة الحافر عن قصة الإطار في رواية “متاهة الأوهام” ليست إلا همومَ الكتابة ومشاكسة ثيمات الروايات التقليدية.

 ليس غرض أحجيوج تقديم وصفة روائية مطعمة بالبطولات الخارقة أو النفس النضالي أو الترويج للأفكار التعبوية بل يرمي الكاتب إلى الكشف عن الخيبات التي تتراكم على إيقاع تصاعد الهوس بالتعتيم من خلال التطويل في الكتابة والثرثرة والافتتان بالألقاب المضخمة .ما اشتغل عليه محمد سعيد أحجيوج في مساحة سردية رشيقة ينطبق عليه قول موريس بلانشو “الكتابة هي رفض تخطي العتبة هي رفض الكتابة”. يشار إلى أن المؤلف قد ألحق قسما من الحوارات التي أجريت معه بالرواية وما تقع عليه من الآراء يوازي تنظيرا لمرويته السردية.

13