ما بعد إضراب اتحاد الشغل ليس كما قبله

الاتحاد سيجد نفسه وجها لوجه مع الرئيس قيس سعيد وستأخذ المعركة بعدا أكبر من المعارك التقليدية التي دأب الاتحاد على خوضها والانتصار فيها بالضربة القاضية على خصومه الذين كانوا يقبلون بشروطه دون نقاش.
السبت 2022/06/18
الاتحاد ولغة الأمر الواقع

ليس هناك شك في أن المطالب الاجتماعية موجودة وجاهزة ويتم رفعها في كل مناسبة للضغط على الحكومة، لكن ذلك لا يخفي أن للإضراب العام يوم الخميس الماضي أهدافا أخرى أبرزها تثبيت وضع الاتحاد كشريك رئيسي في أي انتقال سياسي في تونس، والتعامل مع “الاتحاد أقوى قوة في البلاد”، وهو الشعار الذي بات النقابيون يرفعونه بعد 2013 حين نجحت المنظمة عبر الإضرابات المتتالية في إجبار حركة النهضة الإسلامية على تسليم الحكم والقبول بالحوار الوطني الذي توّج الاتحاد كلاعب رئيسي وقاده للحصول على جائزة نوبل للسلام ضمن قائمة الرباعي الراعي للحوار.

هذه هي المعركة، والبقية تفاصيل. ولأجل ذلك ينظر الاتحاد إلى الإضراب العام وما سيليه من إضرابات على أنه معركة وجود عليه أن يربحها ويدفع حكومة نجلاء بودن إلى القبول بالأمر الواقع تمام مثلما فعلت الحكومات الضعيفة والمرتبكة التي حكمت تونس ما بعد 2011.

لكن الوضع الآن تغير، صحيح أن الحكومة الحالية ضعيفة، وغارقة في حل أزمات لا تكاد تحصى، وهي مطالبة بتوفير تمويلات ضخمة للتغطية على قروض سابقة، وتمويل مشاريع جديدة، فضلا عن التزامات مالية ذات وزن لتوفير الرواتب لأكثر من نصف مليون موظف في القطاع الحكومي. لكنها ليست وحيدة، فوراءها رئيس الجمهورية الذي نجح في أقل من عام في تغيير المشهد كليا بحل البرلمان وعرض تغييرات كبرى سيتم الاستفتاء عليها من بينها دستور جديد خلفا لدستور 2014.

سيجد الاتحاد نفسه وجها لوجه مع الرئيس قيس سعيد، وستأخذ المعركة بعدا أكبر من المعارك التقليدية التي دأب الاتحاد على خوضها والانتصار فيها بالضربة القاضية على خصومه، الذين كانوا يلجأون إلى القبول بشروطه دون نقاش

ستكون لهذا الإضراب نتائج على الاتحاد ليس فقط في قطع ما كان من ودّ بينه وبين قيس سعيد، بل داخل الاتحاد نفسه من ردات عنيفة على التصعيد وعدم حساب اللحظة التاريخية بدقة

لم يخض قيس سعيد معركة وخسرها إلى الآن، فرغم الضجة التي رافقت تجميد البرلمان ثم حلّه، وتغيير المجلس الأعلى للقضاء، وعزل 57 قاضيا، وتكوين لجان استشارية للإصلاحات “بمن حضر”، فإن الرجل لم يتراجع قيد أنملة، ولم يستمع للقصص التي تحكى عن ضغوط خارجية، وأن الدولة الفلانية غاضبة، والأخرى ترفض تمشّيه وتقترح مسارا جديدا. كل ذلك وضعه وراء ظهره، واستمر في معركة تثبيت نفسه في السلطة وتنفيذ خارطة الطريق التي أعلن عنها قبل نصف عام.

يجد الاتحاد كمساند له في تصعيده مع السلطة مختلف الأحزاب المعارضة لمسار الخامس والعشرين من يوليو التي تريد أن تضعف قيس سعيد عن طريق الاتحاد، وأن تدفعه إلى التراجع خاصة أنه أدار لها الظهر ولم يعد يهتم لأمرها بما في ذلك الأحزاب التي تقول إنها “حزام الرئيس” وحليفة له وداعمة لمسار الخامس والعشرين من يوليو. والمفارقة هنا أن بعض تلك الأحزاب هي من تقف بقوة وراء الإضراب كونها اللاعب المحدد في الاتحاد وتسيطر على النقابات في قطاعات حيوية.

يجد قيس سعيد نفسه في المقابل مدعوما بالدرجة الأولى بالشارع التونسي، حيث تشير استطلاعات الرأي المختلفة أنه ما يزال الشخصية الأكثر شعبية في البلاد بالرغم من الأزمات التي تمرّ بها البلاد. وهذا معطى مهم خاصة إذا عرفنا أن جزءا كبيرا من هذا الشارع هو من العاطلين عن العمل الذين فشلت حكومات ما بعد 2011 في حل مشاكلهم، وفيهم العشرات من الآلاف من خريجي الجامعات، وهم كذلك من المناطق الداخلية الفقيرة التي زادتها ثورة 2011 فقرا على فقر وهمّشتها وتعاطت معها كمناطق أزمات خاصة مع انتشار عناصر إرهابية فيها.

يجد خطاب قيس سعيد منطقيا مصداقيته لدى الناس لأنه يريد إصلاحات توفر للجميع ظروف عيش كريم، وخاصة في الأحياء الشعبية المحيطة بالمدن وفي المناطق الفقيرة الذين يرون فيها منقذا ونصيرا على حكومات سابقة تحالفت موضوعيا مع لوبيات الفساد أو سكتت عنها وسعت لشراء ودها لتضمن بقاءها في السلطة.

في المقابل يجد خطاب الاتحاد رواجه لدى موظفي القطاع الحكومي الذين تمتعوا لسنوات بزيادات آلية دون مراعاة الوضع الاقتصادي للبلاد، وخاصة وضع الفئات الضعيفة والمهمشة التي تتحمل لوحدها عبء لعبة ليّ الذراع بين الاتحاد والحكومة ولوبيات الفساد. ففي الوقت الذي يحصل فيه الموظفون على زيادات محدودة ومضبوطة في الرواتب كانت الأسعار ترتفع آليا وبشكل اعتباطي لتشمل جميع السلع دون اتفاقيات مسبقة مع الحكومة، ما يزيد من الأعباء على الفئات الضعيفة.

وكان القطاع الحكومي ينجح الإضرابات ضمن معادلة التضامن القطاعي الذي انتشر على نطاق واسع في البلاد، لكن تلويح حكومة بودن باقتطاع أيام الإضرابات مستقبلا، وفي أيّ قطاع، سيدفع الكثيرين إلى التنصل من ذلك التضامن والتفكير في المصلحة الخاصة ذلك أن جزءا من هؤلاء الموظفين يدعم إصلاحات الرئيس سعيد وعلى استعداد للتضحية من أجل إنجاحها.

وكانت الرسالة واضحة من خلال دعوة رئيس الجمهورية الحكومة إلى التشدد مع الإضراب في قطاع القضاء، حيث قال إن “المرفق العمومي للدولة لا يمكن أن يتوقّف”، وإن “من الضروري اقتطاع أيام العمل واتخاذ جملة الإجراءات الأخرى المنصوص عليها بالقانون حتى لا يتكرّر المساس بمصالح المتقاضين”.

الحكومة بيدها أوراق كثيرة، تبدأ من الإهمال والتجاهل، ثم تطبيق القانون، وقد تصل إلى معاملة الاتحاد كحزب سياسي وليس كشريك اجتماعي

كما أن الحكومة لا تبدو مستعدة لتقديم تنازلات تحت الضغط، وهو ما بدا واضحا في حديث المتحدث باسم الحكومة نصرالدين النصيبي الذي قال إن الإضراب ستكون له تكلفة كبيرة على تونس، وإن “النقابة تطالب بمطالب لا يمكن الإيفاء بها”. وأضاف “لا نريد إعطاء وعود كاذبة لاتحاد الشغل”.

ستكون لهذا الإضراب نتائج على الاتحاد ليس فقط في قطع ما كان من ودّ بينه وبين قيس سعيد، بل داخل الاتحاد نفسه من ردات عنيفة على التصعيد وعدم حساب اللحظة التاريخية بدقة. في السابق كان نجاح الإضراب محسوما لأن المضربين كانوا يتعاملون معه كفرصة للراحة، لكن أن يتبعه اقتطاع من الرواتب، فهذا سيجعل أيّ إضراب في المستقبل مثار خلاف ومقاطعة ومزايدات وتخوين، وبالنتيجة، فلن يكون سوى إضراب محدود وليس بنسب تقارب المئة في المئة كما تريده قيادة الاتحاد.

والمؤشرات على هذا واضحة، ففي إضراب الخميس الماضي لم تستجب للإضراب قطاعات من ذلك جماعة الضمان الاجتماعي لموظفي الدولة الذين خاضوا إضرابات في السابق لتحقيق مكاسب خاصة بالقطاع ورفع الاتحاد عنهم الغطاء، واقتطعت الدولة من رواتبهم فقرّروا رد الصاع صاعين بمقاطعة الإضراب. من بين مطالب هذه القطاعات سن قوانين تتيح لأيّ موظف إذا تقاعد عن العمل أن يأتي بابنه أو ابنته أو قريب له يضعه في مكانه.

وهو مطلب يظهر حجم الغرور الذي بلغ بالنقابات بسبب أن لا أحد قال للاتحاد إن هناك حدودا لا يمكن تجاوزها من ذلك تغيير قوانين الدخول إلى العمل الحكومي.

إذا استمر الاتحاد في الردّ على أيّ خلاف مع الدولة بالمرور مباشرة إلى الإضراب العام، فستحدث صدمات في داخله، سيتآكل من الداخل خاصة إذا مرت الحكومة لفتح ملف إنفاق الاتحاد للأموال الكبرى التي يجمعها من الاقتطاع الحكومي لفائدته، أين تذهب تلك الأموال وكيف تنفق، ولماذا لا يدفع الاتحاد ديون الضمان الاجتماعي التي تقدر بالملايين من الدينارات.

وقد تلقي الحكومة بحجر في بركة استقرار الاتحاد بأن تفتح الباب أمام الاعتراف بالتعدد النقابي، فهناك نقابات أخرى موجودة وناشطة ولها منخرطون بالآلاف، لكن الحكومة لا تقتطع سوى لفائدته هو كونه شريكا تاريخيا في بناء الدولة الوطنية. كما أنها قد تقتطع الأموال من مئات الآلاف من الموظفين ولا تحوّلها مباشرة للاتحاد، وتلاعبه على المواقف، وتعطي بحسب مستوى الحوار والتوافق وتحجب مع ارتفاع الشعارات والعنتريات.

الحكومة بيدها أوراق كثيرة، تبدأ من الإهمال والتجاهل، ثم تطبيق القانون، وقد تصل إلى معاملة الاتحاد كحزب سياسي وليس كشريك اجتماعي، وذلك مسار طويل ومعقد على الجميع وخاصة على الاتحاد.

8