مارسيلين إيليا فنان سوري يرسم ذكرياته من مسافة زمنية تتجاوز رُبع قرن

انقطاع الفنانين عن عالم الفن وعودتهم إليه بعد سنين أمر وارد ومتكرر، لكن الإشكال الذي يواجهه كل عائد هو مدى استمرار شغفه وقدرته على التمرد والإضافة وتجاوز الذات، وهذا يتطلب مراكمة التجربة والمداومة عليها. ونحن هنا أمام رسام يعود إلى لوحاته بعد ربع قرن، هو الفنان السوري مارسيلين إيليا الذي جرفه الحنين إلى ألوان الطفولة.
ربع قرن وهو يعمل بالورد الطبيعي، ربع قرن وروحه تستحم بالورد ورحيقه، وينثره في الأمكنة وميادينها لتستنشقها إلى حد الحكمة، فالأشياء الجميلة وإن كانت تذبل سريعا إلا أنها تترك الأثر وهي تشق الوقت. ربع قرن ومارسيلين إيليا ابن مدينة الحسكة (1960) يرسم طريقه في هذه الحياة بالورد، نعم بالورد.
كثيرا ما كنت أتأمل محله ووروده (أزهار مارسيلين)، وأنا أمضي إلى مركز المدينة محاذيا الكنيسة الكبيرة أحد أهم معالم المدينة، أو وأنت تعود، لا يمكن إلا أن تلفحك وروحك وعينيك وروده تلك وعطرها، ولا يمكن أن تصادق الورود وتعشقها، تبيعها وتنسقها ولا تكون فنانا، فمارسيلين كان يملك هواية الرسم منذ أن كان طفلا، وهو ما زال في السنوات الأولى من ذهابه إلى المدرسة.
في المرحل المتوسطة بدأت مشاركات مارسيلين إيليا في معارض جماعية، حين تجاوز عتبة الطفولة والصبا لم يتأخر عن المشاركة في النشاطات والمعارض الجماعية، فكان له حضوره في كل معرض تقيمه نقابة المعلمين لفنانيها بدءا من عام 1986، لكن انشغاله الكبير بالورود وتنسيقها وتسويقها سرقه بعيدا وإن امتدت لربع قرن تقريبا.
ولكن ما إن هاجر إلى خارج البلاد حاله كحال السوريين جميعا، وحط به الرحال في مملكة السويد عام 2014 حتى استيقظ عفريت الرسم في داخله ودفعه بحنين جارف وبفطرية لم تلوث، إلى دائرة الرسم ليحمل ألوانه من جديد، ويبدأ من المكان الذي كان فيه، يبدأ بحب يسعفه كثيرا كي يلون زمنه الذي كان، والذي سيجيء بوصفه رمزا للمحتوى الإنساني، من خلال اللحظة التي ستعاد من تلك الخبرة الأولى للذات في تشكيل وتكوين الأنا لديه، وهذه الألوان غالبا ما تعني أشياء كثيرة، يستخدمها باعتبارها معطى عاما للمعاني وثيقة الصلة بموضوعات عامة وخاصة حان وقتها كي تستيقظ من دواخله ومن بين ألوانه وتقول ما لم يقله هو من ربع قرن.
خارج المرآة وداخلها
هذا بالطبع جدير بالخروج الذي يجعله يحيط بأشكاله الجديدة ويتذوقها وكأنها تمثله حتى تصبح مألوفة لديه، وبرأيي هذا تفتيت للحدود واستجابة مباشرة للغته التي تجعله أكثر قدرة على تقبل تلك المعاني المألوفة لديه، والتي هي تعديلات مناسبة ليسرد ذكرها في حالات معينة من الاندماج مع كل ما هو جمالي، ولهذا السبب ونتيجة ما يشعر به من متعة واكتشاف وارتياح وقلق يواصل تفاعله مع تلك المسافات في ضوء صورها البصرية بتأثير معين من الخبرة الجمالية التي يحملها من مهنته كعاشق للورد وتدليله.
عند الفنان كل أشكال التوحد مع الإنسان وحبه وما يدور في فلكه يعتبر أوليا يستحق الوقوف عنده واكتشاف بواطنه، وتعزيز ذلك بالترابط في ما بينها، وهنا يعيد إنتاج مجزءاته ومفككاته ومقاطعه كصور متخيلة في المرآة وهي تلتقط كل تلك التحولات.
مارسيلين إيليا لم يتخلّ عن عفويته، ولم يعش قلق العودة إلى محراب اللون، وهذا نوع من المصالحة مع الذات، ومع الحب الذي ينبض في تلك الذات، فهو على دراية بأن ما سيخطه من ألوان سيعبر عن رؤيته كشخص يمنح نفسه الاقتراب من ذاته، سيعبر عن رؤيته وما تحوز من تصورات قد تكون لها جاذبية خاصة، بحالات من الإدراك الخالص، وقد تعرض بعض أفكاره بشيء من الاختصار، فهو يأتي بعد غياب طويل وإن كان مستغرقا في الجمال ومشاهده، فهذا الغياب يحمل من الغيوم الكثيفة الكثير والتي لا بد أن تهطل، بل هي في حالة من الهطول الدائم التي ستغسل روح الفنان ويسمح لها بالسمو في ملكوت الفن والجمال والإبداع.
◙ أعمال الفنان تؤكد أنه مازال قريبا من الصور التي تبدو للوهلة الأولى كما لو كانت مجرد حالات ماضوية يشغلها الحنين
من خلال عودته هذه ستبدأ عوالمه المتناقضة منها والمتماسكة بالتكامل والتوالد، ويبدو لنا أن كل ما يستحضره إيليا وما يقدمه هو شكل من الخبرة الخاصة لديه، الخبرة الأولية التي ستتوحد في النهاية بمنتجه، من جانبه الخيالي على الأقل، بوصفه شكلا مختلفا، وإن بموضوعات غير مختلفة، بل بموضاعات توجد هناك، على مرآته التي حملها بحواسه ووجدانه، وهذا ما سيراه في هذه المرحلة بالذات.
إن الحركة التي يرصدها الفنان تضاف إلى ضوابط لغته بوصفها حركة منقسمة خارج المرآة وداخلها، حركة تجعله يتموضع على ذاته حتى اكتشافها، بل حتى اكتشافه لتلك الحاجات التي ستتحول على بياضه وبين ألوانه إلى مطالب ورغبات هي في النهاية مطالب ورغبات إنسانية عامة يسعى لها كل نقي وصاف، وهذا يجعله يزداد حضورا في المساحة التي يرتقي بها وفيها ويكتسب رموز جوهرها وهذا إدراك آخر لقوة اللون وقدرته على الأمر والنهي، وقدرته على الإيهام والتعبير معا، وفي ضوء ذلك ومن خلال التحريك الذي سيحدثه لأبنيته، أقصد لأبنية الحلم والرؤية لديه، سيجعله يبوح لنا كمتلقين ما لديه من تخييلات عميقة الجذور تعيدنا وهو معنا إلى تلك العمليات غير المعقدة التي كنا ننظر إليها كمؤثرات مستقلة اعتدنا على استهلاكها ونحن نمضي إلى الحلم.
تحرير الطفل
لقد أشارت أعمال مارسيلين إيليا إلى أنه ما زال قريبا من تلك الصور التي تبدو للوهلة الأولى كما لو كانت مجرد حالات ماضوية، مستمدة من حياة هؤلاء الناس الذين أصبحوا جزءا من الذاكرة لا غير، لكن الأمر ليس طلسما، ولا يحتاج إلى فك رموزه، صحيح أنه بات مليئا بالمنغصات، ولكنه ثري لا يحتاج إلا إلى تفسيرات بسيطة حتى يكون ممكنا، أقصد محتملا من خلال ذلك التماسك المنطقي الذي يضفي أهمية كبيرة على صوره البصرية بأفكار قابلة للتمثيل، فإيليا يفضل ألا يستيقظ من زمن كان الحلم فيه ممنوعا، ولكنه كان قادرا أن يعبر عن نفسه ولو بصمت، وهذا يجعل المدى لديه مفتوحة على الخلف وإن باهتمام خاص، فهو يعتمد كثيرا على أفكار نائمة في دواخله تأبى الاستيقاظ، مملوءة بالرغبات وهذا وحده قد يكون غير كاف لتدويره وإعادة إنتاجه.
ووفقا للاشعور الذي سيحيلنا إلى تلك الذكريات التي ما إن يتم سردها حتى تحس بأنها هلوسات عاشق قادم من أساطير الأولين، فكل ما فيها بات قصصا تروى للأحفاد لا للأبناء وهذا اقتراب من بنية ومنطق حلم حان كي نستيقظ منه، وإن كان إيليا بشفافيته، وإنسانيته يناظر المشهد البصري بكشوفات تحكي عن المحتوى الكامن فيها، وهنا قد تنشأ عملية من التماثل بين إنشاءاته الخاصة وإنشاءات متلقيه، والتي من خلالها قد يكون قادرا على نقل الطاقة النفسية من شيء كان هامشيا إلى شيء بات جوهريا وهنا يبدأ نهاره بالتدفق، وهنا يبدأ عملياته بتحويل المواد الخام لديه إلى مثيرات للحلم والذكريات وأفكارهما.
إيليا لا يسعى للخطر، أقصد للمغامرة، فتحديه يستمده من ذلك الخطر ومن تلك المغامرة الغائبة، لكن لا يصعب عليه التعبير عنها بإشاراته ورموزه الكثيرة، وهذا أمر يسجل له يجعله يخلق تحدياته بذاته ليقوم بمواجهتها، وهذا مرتبط حتما بطروحاته وما تحمله من تنبيهات حسية كل منها مرتبطة بخبرته في حل العقد الكثيرة التي تحيط به وبنا جميعا.
◙ أدعو الفنان إلى إطلاق سراح الطفل داخله، ومنحه الشغب الجميل، ليمضي هو خلفه عل ذلك الطفل يهديه إلى طرق ما زالت بانتظاره
مارسيلين إيليا يرسم بالكلمات وبالقهوة وبالأكرليك، وقدم أكثر من معرض فردي في كل من ستوكهولم، وسكلستونا، يسير بموجب منحى اعتاد عليه، وببساطة فهو لا يعرض نفسه لكل ما هو طارئ، ولهذا جاء بناؤه عفويا مرتبطا بالطفل النائم في دواخله، وهذا الطفل هادئ، مطيع لريشته، لا يحاول أن يترك الطريق، ربما خشية من الضياع، أو ربما لبعده عن الشغب الذي يكمن في دواخل كل طفل، أو لحصوله على نتائج متشابهة ترضيه على طول الوقت، أو ربما لقمعه من قبل مارسيلين الكبير.
أدعو الفنان إلى إطلاق سراح الطفل داخله، ومنحه الشغب الجميل، ليمضي هو خلفه عل ذلك الطفل يهديه إلى طرق ما زالت بانتظاره، أقصد من كل ذلك أن مارسيلين يحتاج إلى نوع من المغامرة وكسر الروتين، والانعطاف نحو الغموض قليلا، نحو التجريد إلى حد ما، لتمضي ريشته إلى المكان الذي تستحق، تمضي إلى رؤية جديدة سيكون مقتنعا بها، تمضي إلى مكان حافل بالحركة وبكل ما هو مثير كاستجابة لنداء ذلك الطفل الذي لديه الكثير ليسرده له.