مارادونا.. حياة تشبه السينما بل أكثر إدهاشا

أسطورة تركض خلف كرة وقدم تحرك العالم يمينا ويسارا.
السبت 2020/11/28
المايسترو الذي أدهشنا

ماذا يعني أن يغادرنا منذ أيام قليلة، دييغو أرماندو مارادونا؟ إنها كارثة لا تحل بالوسط الكروي فحسب، بل بحراس البهجة وعشاق الحياة.  كيف لأيادي الأقدار أن تختطف ذلك الفتى الوسيم النشيط، ساحر الجماهير، قانص الفرص ومسجل الأهداف التي لا تقوى على تخيلها حتى أفلام الكرتون.

لم يكن أحد يظن أنه سوف يموت.. الأساطير لا تموت. استشعر غيابه الروائيون والسينمائيون وحتى مصمّمو البوسترات والأزياء الرياضية فأقاموا له “وليمة” من الفرح والقول بأن الفوتبول شيء كبير، يفوق ما لم نكن نتوقعه.

خلقه الله ساحرا منذ طفولته، مروضا للمستديرة.. يركلها ساعة بساقه اليسرى التي وشم عليها صورة الزعيم الكوبي فيديل كاسترو، ولحظة استثنائية بيده اليمنى أين يقع وشم مواطنه غيفارا، والتي سجل بها هدفا ضد إنجلترا في مونديال 1986 بتحكيم التونسي علي بن ناصر، الذي زاره في بيته منذ سنوات قليلة فأهداه صورة نادرة عن المباريات، وبادله مارادونا بقميص الأرجنتين ذي اللونين الأبيض والأزرق، وقال إنه يحب تونس والعرب.. على عكس ما يروج له بعض المغرضين وعشاق نظرية المؤامرة.

أمة مارادونا

لم يكن مارادونا إلا “مارادونا”، الفتى السريع الغاضب المشاكس، صاحب الشعر الكثيف والنزق اللاتيني الثائر في نادي نابولي الإيطالي، ثم زاد عليه في صداقته لكاسترو وجهره بالإخلاص لكافة الشعوب التواقة للتحرر والسلام.. من منا يعرف رياضيا مسيّسا ومناصرا للشعوب المضطهدة غير مارادونا؟

“يا ضفاف النيل ويا خضر الروابي.. هل رأيتن فتى أسمر الجبهة كالنور المذاب”.. مَن من سكان البسيطة لا يعرف “دييغو”، يسجل في كل مباراة هدفا في مرمى “الأعداء”.. نعم، لقد جعل مارادونا من كل خصم رياضي “عدوا ” في نظر عشاقه ومحبيه.. لذلك صار محبوه “أمّة ماردونا”.

تنافس المحبون على حب الفتى الأرجنتيني، وأحبه الفقراء مثل بطل شعبي يقتلع لهم قوتهم من أفواه السباع الضاربة.

الذين لا يحبون الرياضة ولا يهتمون لها يقولون “إننا لا نعرف من الفوتبول غير مارادونا”.

الذين يجهلون الأرجنتين يسألون “هل أن دييغو من الأرجنتين، وكذلك تشي؟”.

يساري شامخ وأصيل
يساري شامخ وأصيل

الذين يتعاطفون مع كرة القدم الإنجليزية “يغضون الطرف” عن ذلك الهدف الماكر الذي سجله مارادونا بيده في تلك المباراة الغريبة في بلاد المكسيك عام 1986.

والذين أحبوا السينما واشتغلوا فيها، مثل المبدع أمير كوستاريكا، لم يفوتوا فرصة أن يختموا حياتهم السينمائية دون الحديث عن مارادونا، وطريقة ركضه وابتهاجه بعد تسجيل كل هدف.. عفوا.. كل دهشة.

الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، قال “ماذا نفعل بعدما عاد مارادونا إلى أهله في الأرجنتين؟ مع منْ سنسهر، بعدما اعتدنا أن نعلّق طمأنينة القلب، وخوفه، على قدميه المعجزتين؟ وإلى منْ نأنس ونتحمّس بعدما أدمناه شهرا تحوّلنا خلاله من مشاهدين إلى عشّاق؟ ولمن سنرفع صراخ الحماسة والمتعة ودبابيس الدم، بعدما وجدنا فيه بطلنا المنشود، وأجج فينا عطش الحاجة إلى بطل.. بطل نصفق له، ندعو له بالنصر، نعلّق له تميمة، ونخاف عليه – وعلى أملنا فيه – من الانكسار؟”.

مارادونا جعل من قدميه أسطورة.. ليست أسطورة أوديب الإغريقية ذات القدم الدامية والذاهبة نحو أقدارها، بل تلك الساقين التي جعلت من الأرجنتين، ثالث أكبر اقتصاد في أميركا اللاتينية، بلدا يجلّه العالم ويقول له “شكرا لأنك بلد مارادونا”.

تهافتت الروايات والأفلام على توثيق حياة مارادونا، تنافست الأعمال الفنية، ولكن البطولة تبقى أبدا ودائما لمارادونا، الذي يلعب أدوار التمثيل والإخراج، والرواية دون تكليف من أحد.

محمود درويش: مع منْ نسهر بعد أن علقنا طمأنينة القلب على قدميه المعجزتين
محمود درويش: مع منْ نسهر بعد أن علقنا طمأنينة القلب على قدميه المعجزتين

أخيرا، عاش جمهور مهرجان كان أفراح وأحزان الأسطورة الأرجنتينية لكرة القدم دييغو مارادونا من خلال فيلم يحمل عنوانا باسمه، للمخرج البريطاني أسيف كاباديا، عرض خارج المسابقة الرسمية. والفيلم عبارة عن رحلة سفر مفتوحة بين نجاحات وإخفاقات الساحر الأرجنتيني وسقوطه في هاوية المخدرات وغيرها مما يوصف بالأبشع. ويتضمن الشريط وثائق مصورة عن نجم نابولي السابق نكتشفها لأول مرة في هذا العمل السينمائي.

كان من المنتظر من أسطورة كرة القدم الأرجنتينية أن يمشي على السجادة الحمراء في مهرجان كان على غرار نجوم الفن السابع الذين يصلون إلى المدينة الفرنسية الساحلية من جميع أنحاء العالم، لكن تعذر عليه ذلك بسبب إجرائه عملية جراحية في الكتف ثم رحيله عن الدنيا.. يا لها من دراما كارثية.

كيف لدييغو أن يغيب عن هذا التتويج وهو المحب للظهور بطريقة تليق بـ”دييغو” الفتى الذي روّض الكرة بين قدميه حتى صارت تستجيب له بالسليقة، ويتواصل معها روحيا كساحر يخاطب حمامة ويوجهها في شرقنا الأصيل.

طارده المجنون أمير كوستاريكا، في شتى ملاعب العالم، رصد ووثق وصوّر أهدافه بدقة فيزيائي لا يشق له غبار، أدهش العالم في شريط لا يستوعبه إلا الغجر الصاعدون إلى السماء.. وقال للناس “انظروا ما تفعله كرة القدم بالشعوب”.

ومثل أرنستو تشي غيفارا، وهوسه بالانتصار لكل القوى المستضعفة، راهن دييغو على كل من يتوقع له الجميع بأنه سيخسر، ولم يتأخر كثيرا في منح البطولة لفريقه الجديد نادي نابولي الذي كان يحمل سجلا فارغا من الألقاب قبل التحاق مارادونا به. وانضمام “العبقري” الأرجنتيني له بوّأه مكانة خاصة ضمن الفرق الأوروبية الكبرى، إذ فاز معه في 1987 بالبطولة لأول مرة في تاريخ الفريق، بعد عام على ظفره، رفقة منتخب بلاده، بمونديال مكسيكو 1986.

تهافتت على مارادونا جميع الكاميرات، وتنافست على تسجيل حلقات سينمائية وتلفزيونية محطات كثيرة، حتى أن “يوتيوب” انفرد ببث أحداث ووقائع جنازته في الأرجنتين.

مارادونا أكبر من مجرد شخص يلعب الفوتبول.. إنه أسطورة تركض خلف كرة تقبّل قدميه، وأكثر حجما من رجل بدين في سنواته الأخيرة، يدخن السيجار الكوبي، يطوق عنقه بصليب مسيحي مثل كل مواطن لاتيني، وينفث دخانه في الأفق مثل فوضوي يساري شامخ وأصيل.

لكن هذا لم يمنع جمهور كان من التوافد بكثرة على صالة عرض فيلمه لمتابعة الشريط الوثائقي حول سيرته الذاتية للمخرج البريطاني من أصل هندي أسيف كاباديا، المعروف ببصمته الخاصة في مجال الأفلام الوثائقية بعد أعمال سابقة له، فاز بأحدها، وهو فيلم “إيمي” عن المطربة الراحلة إيمي واينهاوس، بجائزة الأوسكار.

عاد الفيلم الذي عرض خارج المسابقة الرسمية في مهرجان كان، بمشاهديه إلى المرحلة التي شكلت نقطة بداية في المسار الكروي الناجح لنجم وسط الميدان الأرجنتيني سنوات الثمانينات، وتحديدا عندما انتقل من “بوكا جونيورز” إلى “برشلونة” في عام 1982، وهي السنة نفسها التي لعب فيها مونديال إسبانيا إلى جانب منتخب بلاده.

أجمل الأهداف

نجاحات وإخفاقات
نجاحات وإخفاقات

ولأن حياة مارادونا دراما حقيقية جاهزة ولا تحتاج إلى سيناريست، ولأنه شديد المناصرة للمستضعفين، لم يتأخر دييغو، كثيرا، في منح البطولة لفريقه الجديد في ثمانينات القرن الماضي نادي نابولي.

لم يكن مسؤولو برشلونة يعلمون أنهم فرطوا في جوهرة كروية. فأي ناد يطمح لحصد الألقاب لا يمكن له التخلي عنها. لقد كان انتقاله في 1984 إلى نابولي بداية حقيقية له في التألق على العشب الأخضر الأوروبي في إيطاليا وبقية دول أوروبا.

نتوقف عند هذا الفيلم في ما عرف بـ”يد الله” إذ يسجل الفيلم بصراحة أخاذة، وفي دراما آسرة، خدعة مارادونا للحكم التونسي علي بن ناصر، واستطاع تسجيل هدف تاريخي بيده ضد المنتخب الإنجليزي في ربع نهائي كأس العالم بالمكسيك. كما سجل هدفا ثانيا بعد أن راوغ مجموعة من اللاعبين بطريقة ساحرة. ويعتبر هذا الهدف حتى اليوم أجمل الأهداف التي عرفتها ميادين كرة القدم، وفق تعريف النقاد والمتخصصين.

ومثل أي بطل ملحمي من أساطير الإغريق، لا بد من أخطاء قاتلة، وهفوات مدمّرة على شاكلة “كعب أخيل” في حرب طروادة، فقد كشف الفيلم كيف أدى التصنت على هاتفه إلى سقوطه في فخ الشرطة ليدخل في جحيم الملاحقات القضائية جراء تعاطيه المخدرات. وكان ذلك إعلانا مسبقا لنهاية أسطورة مارادونا على الملاعب الرياضية، وفق الشريط الذي يراه نقاد كثيرون منحازا ضد مارادونا.

رسالة سياسية

بببب

كشف الفيلم دموع النجم الأرجنتيني السابق التي ذرفها أمام المشاهدين في إحدى المقابلات التلفزيونية عن أن الفتى الساحر لنابولي كان يعاني نفسيا جراء سقوطه في الهاوية بسبب الأخطاء القاتلة التي ارتكبها، وكانت سببا في انطفاء نجمه على المربعات الخضراء. لكن هذه الأخطاء لم تنتقص من قيمته بوصفه لاعبا كبيرا حمل المتعة والفرجة بطريقة غير مسبوقة إلى ميادين كرة القدم، ويعتبره الكثيرون أفضل لاعب عرفته الملاعب في العالم على الإطلاق.

تسابق السينمائيون والتلفزيونيون على إخراج شخصية مارادونا، من مقاعد الانتظار، وتصويرها في محيطها الاجتماعي الداعي إلى البكاء.. ولا شيء غير البكاء.

خلق الله مارادونا كي يسجل الأهداف كما خلق مواطنه الروائي جورج أمادو، كي يكتب الروايات، وغيره من أبناء أميركا اللاتينية.. إنهم خلقوا كي يرووا، كما وصف غابرييل غارسيا ماركيز، نفسه.

الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش لم يتخلّ عن الركب المارادوني في ملحمة دييغو عام 1986، إذ يصف المباراة كمعلق رياضي بقوله “مارادونا يرسم علامة الصليب، يبوس الأرض. يقف، يُحاصرْ، يفلت كالصوت، يقطف الكرة، يحاصرْ. يمرر الكرة جاهزة على شكل هدية إلى قدم زميل ساعده في فتح قلعة الدفاع، فيصوّبها الزميل الماهر في اتجاه المدى والجمهور.. مارادونا يصفق من الوجع”.

ويسأل الشاعر الفلسطيني في قصيدته المارادونية “ماذا فعلت بالساعة، ماذا صنعت بالمواعيد؟”.

ولأن حياة مارادونا تشبه السينما، فقد انتبه إليها المخرج الصربي الموهوب أمير كوستاريكا، الحائز على السعفة الذهبية مرتين بفيلميه “بابا في رحلة عمل” 1985 و”تحت الأرض” 1995، وهو المُصر الدائم على كشف ما تعانيه الشعوب المضطهدة، وحياة وحريات الأفراد، التي تهددها على الدوام السلطات القمعية في هذه البلاد.

هذه الأفكار نفسها التي حملها مارادونا حينما شارك في موكب الاحتجاج ضد زيارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش للأرجنتين عام 2005، بمصاحبة الرئيس الفنزويلي تشافيز، المعروف بموقفه الصدامي والمعادي للسياسة الأميركية.

تتت

أضاء كوستاريكا جوانب كثيرة في حياة مارادونا، إنسانياً وثورياً بفيلمه التسجيلي الأول، والذي عرض في مهرجان كان السينمائي سنة 2008، فهو رسالة سياسية تمزج بين نهج كوستاريكا وسلوك مارادونا إزاء القوى العظمى.. لقد “وافق شن طبقة” كما تقول العرب، ذلك أن على الرجلين أن يلتقيا.. وكان اللقاء في فيلم توثيقي أخاذ، يعدّ من أجمل ما صُوّر وقيل ودُوّن عن مارادونا.

وفي الفيلم الذي حمل توقيع المخرج اللامع أمير كوستاريكا، لم يخجل مارادونا من أن يتحدث عن هفواته، وعيوبه الشخصية، والفترات القاسية التي مرّت به وقت معاناته مع الإدمان، وتأثير ذلك عليه وعلى أسرته، وندمه الشديد على ضياع الوقت، من دون أن يرى ويستمتع بأبوته، ويبني تفاصيلها اليومية، ككل الآباء الآخرين، ويغفر له وقوفه أمام نفسه، من دون مواربة، ومعرفة ماذا يريد.

ويعلق الكاتب والناقد الفلسطيني محمد عبدالرحيم، بقوله في هذا المنحى “ربما بعد هذا الفيلم نرى أن كرة القدم ليست مجرد لعبة شعبية، رغم ما تشغله من اهتمام بين الناس، كما قد تتغيّر وجهة نظر لاعب الكرة نفسه في مهمته الحياتية، وقدره في كونه لاعب كرة، فالفيلم رسالة سياسية واجتماعية في المقام الأول، ويُجسد بوعي عميق، بدون عبارات رنانة جوفاء، نجد صداها لدى الكثير من السياسيين ورجال الدين والمناضلين الزائفين”.

ويستدرك الكاتب الفلسطيني بقوله “الذين يتفننون في الضحك على قاصري العقول، وكلما زادت شعبيتهم، ازدادت أرصدتهم في البنوك.. هل لدينا الجرأة أن نثور على هؤلاء، وألا نجعل أي قداسة إلا للحقيقة، وننأى بعقولنا عن الفضائيات، التي تكرّس لنا السلطة وممثليها، وتساعد في جعلنا مجرد قطيع هَش الروح، نسير وراء سياسي فاسد، أو رجل دين أفسد، من دون أن ننسى مواجهة أنفسنا بعيوبنا في المقام الأول؟”.

مارادونا أسطورة تجري خلف كرة، ورجل يشع البهجة أينما حل، لذلك تهافتت وتسابقت على نجوميته جميع وسائل الإعلام، فلقد قررت منصة “أمازون” منذ عامين تخليد قصة حياته في مسلسل تليفزيوني. وكان من المقرر عرضه خلال العام الجاري ولكن توقفت عملية تصوير المسلسل بسبب أزمة فايروس كورونا المستجد. ومن المقرر أن يتم استكمال تصوير المسلسل خلال الشهور القادمة لعرضه في شهر أكتوبر من العام القادم.

مارادونا.. لا يستطيع أيّ كاتب – ومهما ادعى حياديته – أن يتمالك نفسه إزاء التأثر بهذا الرحيل.. وداعا أيها المبهج الذي يشبهنا نحن الفقراء الحالمون.. وداعا يا أجمل من عرف القرن العشرون، وكذلك الحادي والعشرون، على ما أظن.

16