ماذا لو استمع الرئيس التونسي لوزرائه

الوزراء يعتمدون على تقارير وأرقام ودراسات تؤكد الحاجة إلى تمويلات خارجية عاجلة، والرئيس سعيد يتبنى مقاربة أيديولوجية تقوم على رفض صندوق النقد وإصلاحاته ويعتبرها إملاءات.
الثلاثاء 2023/08/01
أزمة لم تعد تحتاج إلى تأخير

ما قاله بعض الوزراء التونسيين الجمعة في الرد على تساؤلات النواب يظهر تباينا مع ما يقوله الرئيس قيس سعيد. الوزراء يقولون إنه لا مفر من الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وإن مساعي الرهان على الذات لخلاص الديون لم تحقق نصف المأمول، وهو ما يعني ضرورة الخروج إلى السوق المالية الدولية لجلب الباقي.

لكن الرئيس سعيد لديه اتجاه آخر يطلق من خلاله نعوتا سلبية على صندوق النقد ويستبعد أن تلجأ إليه تونس، وهو لذلك يتحرك في كل اتجاه بحثا عن بديل.

من المهم فهم سرّ هذا الاختلاف في المقاربة. الوزراء يعتمدون على تقارير وأرقام ودراسات حكومية تقود إلى نتيجة مفادها أن البلاد في حاجة إلى تمويلات خارجية عاجلة. وطالما أن الجميع، بما في ذلك الوعود الأوروبية الأخيرة، يقولون حلّوا مشاكلكم مع صندوق النقد وتعالوا، فإن لا حل سوى العودة إلى التفاوض مع الصندوق، والحوار بشأن شروطه، ونقل مخاوفنا له من جديد بشأن قضية الدعم.

◙ من المهم على الرئيس سعيد أن يستمع للحكومة ووزرائها المكلفين بالملفات الاقتصادية والمالية وأن يطلع على الأرقام والحقائق ويبني عليها خطته في المرحلة القادمة ويطلق يد الحكومة لتتفاوض مع الصندوق

مع العلم أن الحكومة التونسية هي من أوقف التفاوض مع الصندوق لوحدها دون خلافات ولا احتجاج على طريقة التفاوض ولا على الشروط، وذلك استجابة لما يقوله الرئيس سعيد بشأن صندوق النقد. وقد وصف في أكثر مناسبة ما يطلبه الصندوق بأنه إملاءات وتدخّل في السيادة الوطنية، وهو ما لا ترضى به تونس.

وإذا كان الوزراء ينطلقون من أرقام وتقارير اقتصادية باردة، فإن الرئيس يتبنى مقاربة أيديولوجية تقوم على رفض الصندوق وإصلاحاته مستبطنا شعارات من السبعينات والثمانينات ترى في الصندوق مخلبا من مخالب الإمبريالية وصندوقا لـ”النهب” وغيرها من الشعارات التي كان يرفعها مثقفون وتيارات يسارية رافضة لسيطرة الرأسمالية على العالم.

هذه أفكار حالمة من حق قيس سعيد أن يتبناها ويدافع عنها، لكن بصفته الشخصية وليس بصفته رئيسا للجمهورية، فموقفه هذا وضع تونس أمام خيار صعب وهو البحث عن بدائل للتمويل خارج الصندوق، وهو أمر بالغ الصعوبة خاصة أن الشركاء التقليديين من الغرب ومن الخليج قالوا لنا وبوضوح إنه لا اتفاقات تمويل قبل الاتفاق مع الصندوق.

لقد حضر الرئيس جلسات الحوار مع الاتحاد الأوروبي بشأن الهجرة، وحصل على وعود جيدة خاصة ما تعلق باستثمار 900 مليون يورو في قادم السنوات، لكن الوعد الأوروبي مربوط بالاتفاق مع صندوق النقد، وكذلك الوعود التي جاءت من الخليج بعد جولة وزير الخارجية هناك.

أعتقد أن من المهم على الرئيس سعيد أن يستمع للحكومة ووزرائها المكلفين بالملفات الاقتصادية والمالية، وأن يطلع على الأرقام والحقائق ويبني عليها خطته في المرحلة القادمة، وأن يطلق يد الحكومة لتتفاوض مع الصندوق وتقدم المحاذير التي تريد تونس أن تتجنبها، خاصة مسألة الدعم.

والصندوق يعرف حساسية موضوع الدعم، ووقف بنفسه على محاذير هذا الخيار في أحداث الخبز التي شهدتها المنطقة في ثمانيات القرن الماضي ضمن مسار الإصلاح الهيكلي الذي دافع عنه الصندوق وسعى لتمريره وضغط على الحكومات في ذلك، لكن ردود الفعل الغاضبة جعلته ينصح بالتعاطي الحذر وبالرفع التدريجي للدعم عن المواد الأساسية وخلق بدائل عملية لتعويض الفئات المتضررة.

لقد تجهزت حكومة نجلاء بودن لهذا المسار، وفي يونيو من العام الماضي كشفت هذه الحكومة في مؤتمر صحفي كبير حضره 13 وزيرا عن جملة من الإصلاحات الهيكلية والعميقة تشمل رفع الدعم عن المواد الأساسية تدريجياً، وإلغاء دعم المحروقات والغاز والكهرباء في أفق سنة 2026، مع إقرار تحويلات مالية للأسر التونسية وخاصة منها الفقيرة كي لا تتأثر بإلغاء الدعم.

◙ الخطاب الذي يرتكز على مهاجمة اللوبيات وتحميلها مسؤولية الأزمات بدأ يفقد بريقه لدى الناس، خاصة بعد مرور سنتين على تاريخ إجراءات الخامس والعشرين من يوليو

لكن هذا الإعلان لم يكن يتماشى مع خيارات الرئيس سعيد، التي قاد وفقها حملته الانتخابية في 2019، وكذلك ما تلا مسار 25 يوليو 2021 والوعود الكبيرة التي قدمها للناس.

والسؤال الذي يطرح الآن: إلى متى سيستمر هذا التباين، وكيف نحله، ومن سيتنازل؟ الرئيس الذي يفكر بكل شيء وهو صاحب القرار في الكبيرة والصغيرة، أم تقارير الوزراء وأرقام الواقع، وهل سنجد من الوقت والإمكانيات لإدارة هذا الخلاف من دون أن تجد تونس نفسها في وضع أكثر صعوبة من الآن؟

رأينا أن الرئيس سعيد ما يزال يركز على تسوية الأزمة من الداخل بالضغط على الإدارة لتحسين أدائها وعزل العناصر المرتبطة بلوبيات التعطيل وخلق الأزمات لإرباك السلطة السياسية.

لديه قناعة بأن الأزمة مرتبطة بالبيروقراطية والفساد وبالخصوم الذين يتحركون في السر لإرباكه من خلال حركات صغيرة، ولكن مؤثرة من نوع القطع المتكرر للماء والكهرباء وافتعال أزمة الخبز ودفع الناس للتذمر بسبب الصفوف الطويلة على الخبز التي صارت عادة يومية، وكثر معها الهمس والتساؤل بشأن المستقبل.

وفي آخر لقاء للرئيس سعيد مع الناس، في ذكرى 25 يوليو، سمع شكاوى المواطنين من انقطاع الماء والكهرباء ونقص الخبز، وردًا على ذلك أكد أن “هناك متابعة دقيقة لهذه المشاكل في كامل مناطق البلاد”.

وقال إن “الارتفاع الشديد لدرجات الحرارة وارتباط التزوّد بالماء بالتيار الكهربائي تسببا في حدوث هذه المشاكل”. وتابع مخاطبًا التونسيين “أعلم أنكم تشعرون بضيق لكن ستحلّ كل هذه المشاكل قريبًا”.

ومن الواضح أن الرئيس سعيد نفسه يعرف أن الأمر لم يعد يحتاج إلى تأخير، ولا إلى تفسيرات، وإنما إلى تعهدات جادة لتجاوز العراقيل.

◙ الحكومة التونسية هي من أوقف التفاوض مع الصندوق لوحدها دون خلافات ولا احتجاج على طريقة التفاوض ولا على الشروط، وذلك استجابة لما يقوله الرئيس سعيد بشأن صندوق النقد

وفي كلمة مصورة له في 23 مايو الماضي ذكر أن “خبز المواطن والمواد الأساسية يجب أن يتوفّرا، وهذا دور وزارة الفلاحة (الزراعة)، وديوان الحبوب (حكومي) وكل الإدارات المعنية في الدولة التي يجب أن تتصدى للمحتكرين والعابثين بقوت التونسيين”.

هل المسألة تعود فقط إلى المحتكرين والعابثين كما يقول الرئيس أم إلى ظروف موضوعية من مثل ما عبّر عنه الوزراء بالحديث عن نقص في إنتاج الحبوب في الداخل بحوالي 60 في المئة، وأن خطة تعزيز الاكتفاء الذاتي لم تنجح، وهو ما يعني الحاجة إلى استيراد الحبوب، وهو أمر صعب ومعقد بسبب محدودية مدخرات البلاد من العملية الصعبة وتراجع قيمة الدينار.

الخطاب الذي يرتكز على مهاجمة اللوبيات وتحميلها مسؤولية الأزمات بدأ يفقد بريقه لدى الناس، خاصة بعد مرور سنتين على تاريخ إجراءات الخامس والعشرين من يوليو، في وقت لم تظهر فيه نتائج واضحة لهذا الخطاب؛ إذ مازالت أسعار السلع والمواد الاستهلاكية تشهد زيادات، وندرة بعض المواد الأساسية مستمرة.

من المهم أن يتبنى الرئيس سعيد خطابا يقوم على مصارحة الناس بواقع البلاد وإمكانياتها. صحيح أن من مصلحة الرئيس أن يستمر في مهاجمه خصومه السياسيين وأن يفكك وجودهم في الإدارة، لكن هذا يجب أن يتماشى مع نتائج على الأرض ليس فقط بتحسين أوضاع الناس ومستوى عيشهم، ولكن أيضا أن يرى الناس بأم أعينهم كم استعادت الدولة من أموال الفاسدين والمحتكرين وكشف خططهم وفق ملفات واضحة، وألا يقف الأمر عند خطاب فضفاض يتكرر مع كل أزمة في الخبز أو الكهرباء أو الماء.

8