ماذا فعلنا بالدراسات الثقافية المستوردة

يلاحظ راصد الحركة الثقافية ببلداننا أن عددا من دارسينا في جامعاتنا قد مارسوا القفز بالمظلات في مجالات النقد الثقافي، والدراسات الثقافية، والنقد ما بعد الكولونيالي دون إدراك للظروف وللخلفيات التاريخية والسياسية والاجتماعية وللأنساق الفكرية التي أفرزت مثل هذه الحقول المعرفية وشكلت بالتالي أجهزتها النظرية في المجتمعات الأوروبية/ الغربية، حيث نشأت وترعرعت وتطورت، وتكاد الآن تغرق في أزمات مركبة.
من المعروف أن عددا من الجامعات الجزائرية قد بادرت إلى تأسيس تخصصي النقد الثقافي، والدراسات الثقافية، وتخصص الدراسات ما بعد الكولونيالية، قبل تكوين الإطارات التي تتكفل بمهمة تدريس هذه التخصصات المهمة فعلا لطلابنا.
بسبب انعدام التكوين الجدي سواء في بلداننا أو في إطار البعثات الطلابية إلى الخارج للأساتذة المتخصصين في هذه التخصصات وجدنا طلابنا يدرسون على أيدي أساتذة غير مؤهلين نظريا وتطبيقيا، الأمر الذي أدى ولا يزال يؤدي إلى تخرج أجيال تلهث وراء نقل المصطلحات نقلا فجا وإلى إسقاط مفاهيم ونظريات مستوردة على واقع مختلف حيث يتعذر غالبا أن نجد هذه المفاهيم والمصطلحات قادرة على العمل وأن تنتج قيمة مضافة داخل نسيج مجتمعاتنا المختلف.
أود هنا أن أثير هذه القضية بمناسبة صدور كتاب لأحد رواد الدراسات الثقافية مؤخرا وهو ستيوارت هول الذي يعتبر بحق منظرا أساسيا إلى جانب منظرين قليلين جدا في مسرح هذا الحقل المعرفي المهم جدا. إن القضية التي أطرحها تتصل بمشكلة عدم تماثل، أو لنقل عدم تكامل النظرية الثقافية المستوردة وتاريخها وأسباب إبداعها مع خصائص ومشكلات وبنيات المجتمع الذي يستوردها بالجملة ودون أي تطوير وإعادة تشكيل وإضافة لجهازها النظري أو لطرائق تطبيقها ميدانيا كما هو الحال عندنا راهنا.
أشرع أولا في النظر في هوية الدراسات الثقافية كما هي في طبعتها البريطانية علما أنها تعد ثمرة للأزمات والتغيرات والنضالات التي شاهدها المجتمع البريطاني، وأكثر من ذلك فإنها تمثل الرد الثقافي النقدي لمثقفي اليسار الجديد على الهجمة الرأسمالية الاستغلالية المهددة لأمن الطبقة العمالية وللشرائح الاجتماعية الأخرى المهمشة، وهي أيضا بمثابة مقاومة للممارسات وللتمثَلات المشوهة لثقافات الأقليات والإثنيات في المجتمع البريطاني نفسه وفي المجتمعات الغربية الرأسمالية بشكل عام.
وفي هذا الصدد يؤكد ستيوارت هول في كتابه الصادر حديثا بعنوان “الدراسات الثقافية: التاريخ النظري”، قائلا “أفصل نفسي عن أولئك الذين يقرأون ميلاد الدراسات الثقافية كمشروع فكري، بينما كنت ألح بأنها مولودة في الواقع كمشروع سياسي، وكطريقة لتحليل الثقافة الرأسمالية المتطورة لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. إنه ليس مفاجئا إذن أن يكون انبعاث الدراسات الثقافية مرتبطا بشكل حميمي بميلاد اليسار الجديد كتجمع سياسي متميز، وقد بقي هذان البعدان، لوقت من الزمان، حركتين مربوطتين معا عن قرب حيث تتحركان مع بعضهما البعض بشكل متواز″.
ويلح ستيوارت هول كثيرا على ضرورة وضع خط تحت العلاقة الوطيدة بين ميلاد اليسار الجديد، وميلاد الدراسات الثقافية. وهنا نتساءل هل يمكن لنا أن ننقل هذه العلاقة بين السياسة والثقافة إلى مجتمعاتنا دون أن نقع في تعسف فرض مفاهيم ونظريات وطرائق تفكير خاصة بمجتمع رأسمالي متطور مثل بريطانيا، على واقعنا المختلف والمتخلف تماما، حيث أننا لم ننجز بعد مجتمعا رأسماليا متطورا وليست لدينا في الوقت نفسه طبقات تقارن بمعايير الطبقات في أوروبا/ الغرب، كما لا نجد لدينا يسارا جديدا نابعا من تجاربنا السياسية والاجتماعية والفكرية؟
لا شك أن الإجابة على مثل هذه الأسئلة أمر حيوي ومطلوب ولكن أرى أنه من الضروري أن نؤجل ذلك وننطلق مباشرة في معالجة كيفية استقبال وفهم بعض دارسينا ونقادنا لتخصص الدراسات الثقافية، وفي هذا الخصوص لقد لفت انتباهي كل من الدكتورين سعد البازعي، وميجان الرويلي اللذين قاما بجهد معتبر لعرض وشرح عدد من المصطلحات التي يتشكل منها جزء مهم من معمار الجهاز النقدي للدراسات الثقافية، وذلك في كتابيهما الموسوم “دليل الناقد الأدبي” ولكن يلاحظ أن التأويلات والتعريفات التي يقترحها الدكتوران البازعي والرويلي تتضمن بعض الهنات الطفيفة.
يقول المؤلفان إن “الدراسات الثقافية شأنها شأن غيرها من قضايا الفكر والمعرفة، ليست جديدة، ولعل سماتها عبر التخصصية وطغيان الصبغة التنظيرية فيها وتشظيها في حقول أو ثقافات متفرقة والغموض الذي يعتري اهتماماتها منهجها”، وأن “كل هذه تقود المرء لأن يلمح فيها أثر الاستراتيجيات التي أفرزتها الممارسات النقدية الأخرى، مثل البنيوية، وما بعد البنيوية والنقد النسوي، والتحليل النفسي، ودراسات الجنوسة (الذكورة أو الأنوثة) وما إلى ذلك”.
إلى جانب هذا يقدم المؤلفان تعريفا خاصا للدراسات الثقافية هكذا “وهي في علاقاتها هذه تكاد تكون ظاهرة كرنفالية، إذ تستمد وجودها من غيرها وتتشكل في حقل خاص من خلال هذا الاستمداد المستمر”. ونسجل هنا أن البازعي والرويلي يستبعدان صفة التخصص عن الدراسات الثقافية، وهذا خطأ، لأن الدراسات الثقافية هي نوع جديد من التخصص المركب من مجموعة من التخصصات.
ثم يلاحظ أنهما لا يوليان أي اهتمام مركزي للخلفية التاريخية التي أنتجت الدراسات الثقافية ببريطانيا، كما نجدهما لا يدرسان جهود الممهدين للدراسات الثقافية، ولمساهمات الناقدين الثقافيين المعروفين وهما رتشارد هوغارت وستيورات هول، اللذان عملا في مركز برمينغهام للدراسات الثقافية جنبا إلى جنب مع مجموعة من مساعديهما وطلابهما، الذين ساهموا معهما ومن بعدهما أيضا في إثراء الدراسات الثقافية نظريا وممارسة، وفي توسيع دائرتها الأكاديمية.
لا بد من الذكر هنا أن تخصص الدراسات الثقافية هو تخصص مركب وبمثابة رد ” ثقافي وتربوي له أبعاد سياسية”، على المنظومة التربوية التقليدية الغربية ببعديها الرأسمالي والكولونيالي. وحسب المؤرخين الثقافيين فإن الدراسات الثقافية قد احتضنتها المعاهد العليا المدعوة ﺑـ”البوليتكنيكس″ التي كان يدرس فيها أبناء الطبقة العاملة البريطانية وأبناء الإثنيات المهاجرة والمقيمة ببريطانيا.
وهكذا نجد أن الدراسات الثقافية كانت تهدف منذ نشأتها إلى إيجاد موقع لثقافة الشرائح المهمشة ضمن منظومة التعليم العالي البريطاني وخاصة في المرحلة التتشارية (نسبة إلى تاتشر) المعروفة برأسماليتها المتطرفة، وسياساتها المنهجية لتفكيك اليسار البريطاني كتنظيمات وأحزاب سياسية، وكمؤسسات ذات طابع اجتماعي وثقافي وتربوي تنتمي إلى اليسار أو الشرائع الشعبية العمالية إلخ.
إن ذكر هذا السياق التاريخي ضروري لفهم ظاهرة الدراسات الثقافية، وتوجهاتها واستراتيجياتها ككل. إنه لا بد أيضا من إضافة بعض النقاط الأخرى مثل علاقة التضافر بين الإثنيات وثقافاتها، ونضالها من أجل الاعتراف بها داخل المهجر البريطاني، و في المهاجر الغربية عموما وبين بروز وتطور مضامين الدراسات الثقافية. وهناك بعد سياسي آخر له دور تكويني للدراسات الثقافية ويتمثل في إدراك اليسار الثقافي والتعليمي البريطاني ضرورة نقل المعركة مع اليمين الرأسمالي إلى الجبهة الثقافية والتعليمية وعدم الاكتفاء بالنضال السياسي الحزبي التقليدي في إطار الأحزاب أو في إطار تنظيمات المجتمع المدني.
والجدير بالإشارة هنا هو أن الدراسات الثقافية قد قامت بكسر الجدار التقليدي الذي يقوم على أساس النظر إلى الثقافة كسلطة مهيمنة واعتبارها خاصية من خصائص الطبقة العليا فقط، وبتفكيك سيطرة المنظور التحليلي الوضعي المنطقي الأنجلو – ساكسوني للعالم والحياة، ولقد نتج عن هذا تغير راديكالي نتج عنه انفتاح الأجيال الشابة في المجتمع البريطاني على المنظورات الفلسفية القارية الأوروبية، وعلى ثقافات الإثنيات والأقليات وعلى ما يدعى بالمجموعات الثانوية في المجتمع، وكذا على ثقافات العالم الأخرى، وبذلك تمكنت الدراسات الثقافية من تفعيل مشروع نقد المركزيات المغلقة.
أما على المستوى المعرفي – الثقافي والمنهجي فإن الدراسات الثقافية قد قامت بزحزحة ما يدعى بالموقف الثقافي الفوقي المتمركز طبقيا، أو قوميا، أو غربيا، من الثقافات الأخرى التي تقحم تعسفيا في خانة “ثقافات الهامش” وتلصق بها صفة الدونية عن سبق إصرار.
لا شك أن نجاح الدراسات الثقافية في نقد وخلخلة المركزيات، والبطريركية، والأصوليات، وغيرها من الخطابات الثقافية والفكرية ذات الأصول والأهداف الرأسمالية، والاستعمارية، والطبقية المتعالية وغيرها هي التي جعلتها تتسم بسمة المقاومة الثقافية من ناحية وبطابع “الكرنفال النظري” متعدد الأصوات الذي مكن النقاد من بناء تخصص نقدي مركب من حقول معرفية متنوعة ومتبادلة الاعتماد. وإذا كانت الدراسات الثقافية في مراكز نشأتها وتطورها هكذا فما هو تميز النسخة المستوردة من الدراسات الثقافية التي أتى بها عدد من دارسينا ونقادنا إلى مجتمعاتنا المغاربية والمشرقية؟