"ليلة الدموع".. مآسي الناس وآلامهم النفسية مادة موسيقية غنائية مربحة

في “ليلة الدموع” اجتمع فنانون وجمهور حول الألم، ليرددوا أغاني حزينة، يرى فيها المستمعون تعبيرا عن آلامهم وأحلامهم الضائعة وذكرياتهم الموجعة، بينما هي “سلعة” مربحة في سوق الفن لا يتاجر بها الجميع رغم أنها تضمن النجاح والشهرة السريعين.
بعد "كاسيت 90"، الحفل الناجح الذي احتفى بأشهر فناني التسعينات من القرن الماضي، نظمت الهيئة العامة للترفيه السعودية حفلا ثانيا، لكنه هذه المرة كان حفلا غريبا باسم غريب جعله محل سخرية وتنمر من أغلب جمهور الموسيقى العربية، الحفل الذي أطلق عليه عنوان “ليلة الدموع”، جمع أشهر المغنين الشباب العرب ممن سخّروا تجربتهم لأداء الأغاني الحزينة.
جاء عنوان الحفل بناء على فكرة رئيس الهيئة العامة للترفيه تركي آل الشيخ، الذي أعلن عن فكرته عبر صفحته في موقع فيسبوك، بنشر البوستر والتعليق: “ملوك العكننة، لا أوصيكم عاوزكم تقضوا على الجمهور”.
ورغم السخرية والتندر بعنوان الحفل وثيمته العامة إلا أن تذاكره نفدت خلال أقل من سبع ساعات من طرحها للبيع، فبدا الجمهور وكأنه متعطش إلى الحزن.
شارك في الحفل ثمانية مطربين أساسيين، من بينهم سبعة مصريين، هم: طارق الشيخ، ومسلم، وحمادة هلال، وتامر عاشور، وأحمد سعد، وهيثم شاكر، وأحمد كمال الذي التحق بالحفل بعد الإعلان رسميا عنه، إلى جانب الفنان اللبناني آدم، بقيادة المايسترو هاني فرحات. كما شارك الفنان رامي صبري بأغنية عن بعد، عزفها أونلاين وأداها صحبة الجمهور.
افتتح الحفل كورال روح الشرق الذي ارتدى أعضاءه بدلا وفساتين سوداء، وقدموا مجموعة من أشهر الأغاني العربية الحزينة ومنها أغنية “أنا مصمم” لبهاء سلطان و”هي ذكريات” لعمرو دياب، وأغنيات أخرى. كذلك حضر الفنان محمد جمعة ليمثل مشهدا من شخصية العم ضياء الشهيرة في مسلسل “الوصية”، والتي كانت شخصية سوداوية شديدة التشاؤم وعرفت بإفيه “كله رايح” الذي يعبر من خلاله عن تشاؤمه وسوداويته المفرطة في التفاعل مع كل الأحداث اليومية المفرح منها قبل المحزن.
كذلك حضرت الفنانة المصرية شيرين التي انتقت أكثر أغنياتها حزنا وألما لترددها في “ليلة الدموع”، رغم أنها أضفت القليل من المرح على الحفل بلون ثوبها الأزرق الذي كسر حدة السواد الأعظم الذي عم المسرح، كما كسرتها إفيهات ونكت الممثل المصري محيي إسماعيل الذي شارك بأشهر مقولاته.
بأزيائهم السوداء صعد الفنانون واحدا تلو الآخر على خشبة مسرح بنش مارك، ليؤدوا جميعهم أغنيات مختارة بعناية كي تتماشى مع ثيمة الحفل، كأنهم قادمون لعزاء عزيز، حتى الشاعر المصري هشام الجخ الذي كان ضيفا في الحفل ارتدى الأسود وردد إحدى أشهر قصائده الحزينة “ماتزعليش”، والتي يقول مطلعها “ما تزعليش لو جم قالولك إنه مش باين عليه أثر الفراق.. وإنه مش بيجيب في سيرتك وإنه عادي”.
خمس ساعات من الحزن والدموع والوقوف على أطلال الحبيب الذي هجر أو خان أو جرح، لاقت استحسان شريحة واسعة من الجمهور العربي رغم أن البعض الآخر انتقدها بشدة، وخاصة الجمهور التونسي الذي تعجب من نقل الحفل مباشرا على التلفزيون الرسمي التونسي، مُقرّا بأن الأمر يعبّر تعبيرا واضحا عن حالته المعيشة.
حقق الحفل ومقاطعه المصورة أرقام مشاهدة قياسية، ولا يزال المغنون المشاركون فيه يتصدرون الترند العربي. كل هذا ليس وليد اللحظة ولا يرتبط بحب الجمهور العربي لفنان بعينه بل يمكننا القول إن الجمهور العربي يرى منذ سنوات، ولا يزال، في هذه الأغاني تعبيرا عن حياته التي ليست على ما يرام.
خمس ساعات من الحزن والدموع والوقوف على أطلال الحبيب لاقت استحسان شريحة واسعة من الجمهور العربي
إن هذه الموسيقى هي انعكاس لمعاناة يومية ومعيشية ونسب السعادة المنخفضة للغاية في المنطقة العربية التي يشكو أبناؤها من أوضاع اقتصادية حرجة وحروب وصراعات أهلية وهجرة قسرية وعجز عن تكوين أسر مستقرة.
“كُثْر الهمّ يضحّك (كثرة الهموم تثير الضحك)”، هكذا يفكر أغلب العرب، ورغم أن الكثير من الشعوب العربية تضحك على بلاياها وأحزانها أكثر من أي شيء آخر وتصوغ حولها النكات إلا أن علاقتها بالضحك ربطتها دوما بالحزن. أغلبنا يخافون من الضحك إلى درجة أننا في تونس مثلا بعد أن نضحك كثيرا ندعو الله أن يكون آخر هذا الضحك خيرا وهو ما يفعله إخوتنا العرب في أغلبهم، وكأن الضحك آخره مصيبة.
يبدو لي أن جذور هذه النظرة عميقة جدا، قد تعود إلى ربط المجتمعات العربية الدنيا بالكد والشقاء، وربطها الحب بالخطيئة الكبرى، واعتبارها الدنيا دار ابتلاء وصرفها عمرها في انتظار الموت لعل الجنة تكون الخاتمة. هذه النظرة التي توارثها العرب بفعل فتاوى وتشريعات وأحاديث مغلوطة في أغلبها، جعلتهم يتقبلون الألم أكثر مما يفرحون بحياة لا ابتلاء فيها.
إن العربي أيضا سجين دور الضحية، تلك الضحية التي تستمتع بألم الحب والعذاب والتعلق بالحبيب الهاجر، وإن استمر هجره طول العمر أو قال صراحة “لا أريدك”.
عن هذا يقول الدكتور في العلاج النفسي محمد طه “في علاقات الحب عندنا هناك دائما بكائيات؛ بكائية قبل العلاقة.. بحثاً عن علاقة وشعوراً بالوحدة، وبكائية أثناء العلاقة.. تأثراً بلوعة الحب.. وشكوى من قسوة الحبيب.. وخوفاً من الفراق، وبكائية بعد العلاقة.. بكائية على الخيانة.. وعلى الظلم.. وعلى الأطلال. نحن الثقافة الوحيدة في العالم التي كان جزء أصيل من بدايات أشعارها وقصائدها القديمة مخصصا فقط للبكاء على الأطلال.. نحن أنشأنا علاقة توكسيك (سامة) مع الحب نفسه.. علاقة مؤلمة مع الذكريات والنوستالجيا.. علاقة اعتمادية مع الألم”.

ويوضح طه “الأغنية على قدر ما تثيره في الناس من مشاعر.. تلفت النظر إلى نمط واضح ومتكرر جداً في علاقة مجتمعنا وثقافتنا بالحزن.. راجع المخزون الهائل من الأغاني التي حققت انتشارا كبيرا خلال سنوات، بدءا من “كتاب حياتى يا عين” وصولا إلى “جرح تاني” و”أودعك آخر وداع”، وغيرها من الأغاني”.
جاءت الأغاني الحزينة والدرامية دائما منذ كلاسيكيات الموسيقى العربية لتعزف على هذا الوتر، وتصنع من مأساة الشخص مادة للبكاء والنحيب والغناء الحزين، إلى درجة تدفع الشخص إلى الهروب من أزماته بالاستماع للأغاني، وأصبحت الأغاني الحزينة تتنوع ممتدة من الفقد والبعد العاطفي إلى البكاء على الحياة والمصير بشكل عام.
وبالعودة إلى أرشيف الموسيقى العربية نجد أن الأغاني الحزينة ومطربيها هم الأكثر بقاءً وانتشارا والأغنيات الحزينة هي من تضمن في الأغلب البقاء للمطرب في ذهن الجمهور حتى بعد رحيله، ومنها على سبيل المثال “قارئة الفنجان” لعبدالحيلم و”صغيرون” لسعدون جابر، و”سألوني الناس” لفيروز و”ديما دموع” لحمادة هلال وغيرها من عشرات الأغاني الحزينة لعشرات المطربين الذين تطرب أذن السامع لأغانيهم الحزينة أكثر من أغنياتهم الفرحة والسعيدة.
في هذا الحفل، مثلا، حضر الفنان المصري تامر عاشور، الذي يعرف بأغانيه الحزينة وبأنه يوزع على جمهور حفلاته مناديل يمسحون بها دموعهم. هذا الفنان الذي منحه العزف على وتر الأحزان شهرة واسعة قال في أحد تصريحاته الصحفية السابقة إنه يحب أداء الأغاني الحزينة لأن الجمهور أحبه من خلالها ولأنها طابع يميزه ويوفر له النجاح، لكنه في الحقيقة شخص مرح ولا يعيش كل الحزن الذي يتغنى به.
إنها تجارة مربحة، تجارة لا تكسد، بل تزداد توسعا كلما ازدادت أزمات المرء الذاتية والجماعية، تمنح الفنانين شهرة ومالا ونجاحا، في حين تمنح المستمع “حبوبا افتراضية” مسكنة لألمه.
هذه التجارة هي في عرف خبراء الطاقة والتنمية الذاتية، ممارسة خطيرة جدا على السلوك البشري، حيث يقول العاملون في هذين المجالين إن الأغاني يمكن أن تبرمج العقل الباطن سواء بالسلب أو الإيجاب، فكل كلمة يقولها الإنسان أو يركز عليها هي طاقة وتعتبر تأكيدا يترسخ في العقل اللاوعي وعلى أساسه تبدأ حياته في التشكل وفق الطاقة الشعورية التي يعيشها، إن كان سعيدا سيرى السعادة في كل شيء وإن كان حزينا سيرى الحزن في كل مكان.
الأغاني عبارة عن توكيدات، هكذا يؤكد خبراء التنمية، بل يعتبرون أن الأغاني ذات تأثير أكبر وأعمق وبإمكانها ترسيخ قناعات الإنسان وتغييرها في وقت أسرع بكثير من التوكيدات الإيجابية التي يجب أن يحفز نفسه بها، هذا كله بسبب صوت الموسيقى وإعجاب المستمع بالفنان الذي يحبه. والأغنية بمؤثراتها اللغوية والموسيقية تلقي بالإنسان في تجربة حسية وشعورية قوية لذا فإن سرعة برمجة العقل الباطن تكون أكثر عشرات المرات من أي توكيدات إيجابية عادية أنت تسمعها.