ليبيا تودع الشيخ عبداللطيف الشويرف واحد من أعلام الثقافة والإعلام والسياسة

تجربة طويلة خاضها الشيخ عبداللطيف الشويرف طيلة حياته التي تنقل فيها بين كتابة الأدب والبرامج الإذاعية والتلفزية علاوة على المنابر الإعلامية التي أطلقها والكتب البحثية والدينية التي ألفها، ما جعله وجها ثقافيا وإعلاميا وسياسيا ملما بمجالات شتى، وخلف رحيله منذ أيام حسرة على فقدان علم من أعلام ليبيا والعالم العربي.
ودعت ليبيا الأسبوع المنقضي الكاتب والأديب والوزير الأسبق للأنباء والإرشاد في العهد الملكي وعضو مجمع اللغة العربية الشيخ عبداللطيف الشويرف، الذي رحل مؤخرا عن سن ناهزت 93 عاما، وقد نعته القوى السياسية والثقافية والإعلامية والتربوية والدينية نظرا إلى تعدد المجالات التي عمل فيها ولتنوع إنتاجاته الفكرية والأدبية وتجاربه الحياتية منذ أربعينات القرن المنقضي.
ونعى رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة الشيخ الشويرف، وقال في منشور على صفحته الرسمية في فيسبوك “فقدت بلدنا والأمة الإسلامية علما من أعلامها الأجلاء”، مضيفا “كان منارة للعلم والفقه والأدب، ومدرسة في القرآن وتفسيره”.
كتابات للإذاعة
اشتغل الشويرف في مجالات التربية والتعليم والصحافة المكتوبة والإذاعة والتلفزيون والتأليف والبحث في مجال اللغة العربية سواء للطلبة العرب أو لغير الناطقين بها، وكان له دور مهم في النشاط الثقافي والاجتماعي وفي تفسير القرآن وتبسيط قواعده وتأسيس الجمعيات والمنظمات المتخصصة.
ويعتبر الشويرف من أبرز من تضلعوا في اللغة العربية واهتموا بها ليصنع لنسفه مجدا من خلال ما تركه من مؤلفات في هذا المجال، من أبرزها “تصحيحات لغوية” الموجه للمتخصصين والمشتغلين بآليات الخطاب اللغوي، وكتاب “التدريبات اللغوية” المخصص لمراحل مختلفة من التعليم.
قال الشيخ الشويرف في مذكراته “ولدت عام 1931 في بيتنا بالمدينة القديمة محلة البلدية، زنقة الحليب غير النافذة المتفرعة عن شارع جامع الدروج الذي يصل سوق الترك بشارع قوس الصرارعي. ونشأت بحمد الله في أسرة متدينة، فكان أبي رحمه الله حافظا للقرآن الكريم، وكان مما تشنفت به أذناي منذ نعومة أظفاري صوت تلاوته وهو يدور في وسط البيت، التحقت وأنا صغير بكتاب الشيخ مختار حورية القريب من بيتنا، وفيه تعلمت القراءة والكتابة وأحكام التلاوة، ولم يقطعني عنه إلا قيام الحرب العالمية الثانية التي كانت إيطاليا المحتلة لبلادنا طرفا فيها بجانب المحور، وقد شردت هذه الحرب أهل طرابلس، واضطرتهم إلى الفرار بأرواحهم من هول الغارات والموت النازل من القنابل، وعطلت الحياة في المدينة تعطيلا كاملا”.
ثم ذكر أنه التحق بالمدرسة المركزية الابتدائية عقب دخول القوات البريطانية البلاد عام 1943، وأهله إتقانه القراءة والكتابة وشيئا من الحساب للانتساب إلى الصف الثالث مباشرة، وبعد حصوله على الشهادة الابتدائية عام 1945، التحق بأول مدرسة ثانوية في طرابلس عام 1946، حيث لم تكن في ذلك الوقت المرحلة الإعدادية، وكانت هذه المدرسة بمحلة الظهرة في مكان المدرسة الإسلامية العليا زمن الاحتلال الإيطالي، ونجح في السنة الأولى وانتقل إلى السنة الثانية. وفي صيف ذلك العام تقدم إلى امتحان المعلمين الذي كان يعقد كل سنة، وكان الناجح في هذا الامتحان يمنح دبلوما يخوله الحق في أن يعين مدرسا رسميا، وقد كان النجاح من نصيبه، فتقدم بطلب للعمل في سلك التعليم لإعالة الأسرة.
وقال الشويرف “بقيت في التعليم بمدرسة الظهرة الابتدائية حتى عام 1953 حيث قدمت استقالتي متطلعا إلى مجال أرحب وأدعى إلى تحقيق طموحي الشبابي في التقدم وتحسين وضعي الاقتصادي وخاصة بعد أن تزوجت عام 1952 وازداد عبء المسؤولية على عاتقي. ولم أبق عاطلا بلا عمل سوى عشرين يوما”.
في أثناء عمله الوظيفي الرسمي، كان الشويرف يواصل تعليمه وتثقيفه الذاتي، وكان يشارك في الندوات واللقاءات الفكرية والمحاضرات التي كانت تنظم في نادي الاتحاد، عندما كانت النوادي الرياضية تهتم برياضة الفكر بجانب اهتمامها برياضة البدن، وتمرن عضلات الثقافة كما تمرن عضلات الجسم. وقد تعلم في برامج اللجنة الثقافية بنادي الاتحاد المداخلات والنقاش وتبادل الآراء، وأشار في مذكراته إلى أن بعض المشادات كانت تحدث وتصل إلى الحدة في موضوعات تعليم المرأة والسفور ومشكلات الزواج وغيرها.
وأكد أن “في عام 1958 أعاد الأستاذ علي الديب رحمه الله إصدار جريدته الأسبوعية المشهورة ‘الليبي’، فاستدعاني إلى مكتبه في ميدان الشهداء، وعرض علي أن أكون محررا في جريدته، فاعتذرت له بأني لم أخض أي تجربة صحفية في السابق، وليس لي عهد بعمل الصحافة، فأجابني بأنه لمس استعدادي للكتابة من خلال تحريري لمضابط جلسات المجلس التشريعي الذي كان رئيسا له في دورته الأولى، وأنه معجب بأسلوبي وقدرتي على صياغة الأفكار بشكل واضح ومشوق. وقبلت لأنه أثار في نفسي رغبة كامنة في الكتابة خارج النطاق الإداري المحدود، وبحثا عن مجال أوسع للتعبير والتنفيس عن شحنات الأفكار والخواطر التي تدج بها نفوس الشباب في ذلك الوقت”.
الشيخ الشويرف تولى في الأعوام الأخيرة من حياته عضوية مجمع اللغة العربية الليبي، ومهمة المستشار الثقافي للهيئة المشتركة لتأسيس المراكز الثقافية الإسلامية
ظل الشويرف ثلاثة أعوام من 1958 إلى 1960 يكتب في جريدة “الليبي” التي كانت تنفد أعدادها بعد سويعات من صدورها كل خميس، وكان الشعب ينتظرها بلهفة لأنها كانت تعبر عن ضميره وتعكس همومه.
وبدأ الشويرف الكتابة للإذاعة منذ إنشائها عام 1957 في مبناها المتواضع في شارع الزاوية، وواصل الكتابة لها بعد انتقالها إلى مقرها في شارع الشط، وتنوعت كتاباته للإذاعة من الحديث الصباحي، وعلى هامش التلاوة، والمسلسلات التمثيلية، والتعليق السياسي، والخواطر، والبرامج اللغوية. ومن البرامج الإذاعية التي كان يعتز بها “إلى الأمام” الذي كان يذاع بعد ظهر كل يوم جمعة وكان له صداه الواسع ومستمعوه، واستمر ستة عشر عاما متواصلة حتى قطعه أحد مديري الإذاعة عام 1976.
كما قدم برنامج “قصة وآية” وهو مسلسلات تمثيلية تذاع على امتداد ليالي شهر رمضان، وبدأ مسيرته من عام 1958، واستمر ما لا يقل عن 55 عاما، وهو عمر قياسي بالنسبة لأي برنامج إذاعي، كما تولى كتابة برنامج “لغتنا العربية” وصنوه “لسان العرب”، وهو أيضا مما طال عمره واستمر أكثر من عشرين سنة. وكان للبرنامج الصباحي “مع كتاب الله” أثر خاص في نفسه، ويقول إنه كان يكتبه بروح وانفعال لا يستطيع تصويرهما بالكلمات، كما قدم للتلفزيون برنامج “لغة القرآن الكريم” وبرنامج “مناسك الحج والعمرة”، وبعض المقابلات. وفي الخارج سجل أحاديث مرئية لتلفزيون أبوظبي، وأحاديث مسموعة لإذاعة دبي.
تجربة مختلفة
عيّن الشويرف في عام 1963 وزيرا للأنباء والإرشاد في حكومة الدكتور محيي الدين فكيني، يقول “أحب أن أترك الآخرين يتحدثون عن عملي في الوزارة وما طرأ على الخطاب الإعلامي فيها من تحول وتطور واهتمام كبير بالقضايا العربية وعلى رأسها قضية فلسطين. وقد قرأت لبعض أدبائنا وكتابنا شهادة تملؤني فخرا واعتزازا بما قدمته في فترة الوزارة القصيرة. ومن أبرز ما أفتخر به ترخيصي بإصدار جريدة ‘البلاغ’ للأستاذ علي وريث، وجريدة ‘الشعب’ للأستاذ علي مصطفى المصراتي، وكنت ناويا الترخيص بجرائد أخرى لبعض المواطنين الشرفاء لولا أن الحكومة استقالت احتجاجا على قمع مظاهرات الطلبة وقتل بعضهم في حوادث يناير الدامية عام 1964”.
وأضاف “الذين عاشوا تلك الفترة يعرفون مدى الصعوبة البالغة التي تصل إلى درجة الاستحالة في إصدار تراخيص لجرائد وطنية ولعناصر معروفة بنضالها ومقاومتها للقواعد الأجنبية، ويدركون أن الإقدام على هذه الخطوة يعد في تلك الظروف مغامرة جريئة قد تطيح بصاحبها وتنظمه في قائمة المغضوب عليهم”.
وذكر أنه “في عام 1965 خضت الانتخابات للمجلس النيابي عن دائرة المدينة القديمة ضمن الجبهة الوطنية التي كانت تضم الأستاذ علي وريث رحمه الله، والشيخ محمود صبحي، والأستاذ علي مصطفى المصراتي، والأستاذ بشير المغيربي، وغيرهم. وقد أقدمت حكومة حسين مازق التي أجرت الانتخابات على جريمة بشعة فزورت الانتخابات بطريقة بدائية غبية هي تكسير صناديقنا وإفراغ ما فيها من بطاقات الانتخاب وصبها في صندوق المرشح الآخر المتفق عليه. وتولى كبر هذه الجريمة وزير الداخلية فاضل الأمير بالتنسيق مع رئيسه حسين مازق، حيث خطط لها، وأشرف بنفسه على تنفيذها ومتابعتها، وهنأ الذين تشوهت أيديهم بارتكابها من رجال الأمن، كما أفادت ذلك شهادة الشهود في محاكمات الثورة”.
الشويرف اشتغل في مجالات التعليم والصحافة والإذاعة والتلفزيون والتأليف والبحث في مجال اللغة العربية
وتابع أنه “عين في سنة 1965 رئيسا للجنة العليا لرعاية الفنون والآداب في عهد وزير الإعلام والثقافة خليفة التليسي، وأنجزت في فترة رئاستي للجنة المذكورة إصدار الكتاب الشهري، وإحياء ذكريات شعراء ليبيا الكبار من أمثال أحمد رفيق المهدوي وأحمد الشارف، وأقمت لكل من هذين الشاعرين الكبيرين تمثالا رأسيا من الجبس نفذهما الفنان الليبي علي قانه”.
كان الشيخ الشويرف من المؤسسين لجمعية الفكر التي كان لها مقر متواضع في شارع البلدية بطرابلس، وكانت تتحرك بإمكانات أكثر تواضعا، وترأسها في فترة من الفترات. وقامت هذه الجمعية في مرحلة نشأتها الأولى بنشاط لا بأس به، فأسست مكتبة، ونظمت مواسم للمحاضرات والندوات، واستضافت للمحاضرة فيها عدة شخصيات زائرة من أمثال المفكر الجزائري مالك بن نبي، وكان من المؤسسين لجمعية الدعوة الإسلامية، وأحد الموقعين على قانونها، وكان عضوا بمجلس إدارتها الأول الذي كان يرأسه الشيخ محمود صبحي، كما ساهم في إنشاء كلية الدعوة الإسلامية وشارك في صياغة قانونها مع الأستاذ كمال المنتصر.
وتولى الشيخ الشويرف إلى الأعوام الأخيرة من حياته عضوية مجمع اللغة العربية الليبي، ومهمة المستشار الثقافي للهيئة المشتركة لتأسيس المراكز الثقافية الإسلامية، ومدرس مادة البلاغة في كلية الدعوة الإسلامية، ومتعاونا مع مكتب الإعلام والنشر بجمعية الدعوة الإسلامية العالمية، ومع الهيئة العامة للأوقاف وشؤون الزكاة.
وألف الأجزاء الأربعة من كتاب “التدريبات اللغوية” المقرر على سنوات الكلية الأربع، وكتاب “تصحيحات لغوية”، وكتاب “نماذج وصور”، وكتابين في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه كانا مقررين على السنتين الثالثة والرابعة في المرحلة الثانوية التخصصية، وكتاب “دليل الحج والعمرة”، وشارك في تأليف الأجزاء الستة من كتاب “تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها”.