لو سالومي امرأة تؤكد مقولة: إذا أردت حياة حقيقية فاسرقها

تتشابك في السير الذاتية هموم الذات وخفاياها مع المؤثرات الخارجية والذوات الأخرى والتاريخ والأفكار وغيرها، ولذا ليست السيرة الذاتية منغلقة في حدود الذات الجوانية. وهذا ما تؤكده مثلا سيرة واحدة من أشهر النساء في عالم الفكر الإنساني، الروسية لو أندرياس سالومي.
سقف التوقع بالنصوص السيرية يحدده الغرض من الكتابة، والدافع للعودة إلى نبش أقبية الذاكرة. صحيح أن الهدف لاستعادة الوقائع وسحب الضوء نحو محطات واقعة في طيات الماضي يكون ذاتيا على الأغلب. إذ يريد المتكلم الإبانة عن بدايات النشأة والعوامل المؤثرة على سنوات التكوين بدءا بالأحداث السياسية مرورا بالتقاليد والأعراف السائدة إلى أن يتمكن من المساهمة في المشهد بأفكاره النابعة من مبادئه الشخصية. لكن السيرة مهما كانت موغلة في ذاتيتها لا تروى بمعزل عن حياة الشخصيات التي تمثل روح العصر وتؤشر أسماؤها إلى منعطفات في حركة الفكر وبدايات الانزياح عن المتشابه والجنوح نحو المختلف.
ما تسرده الكاتبة الروسية لو سالومي في مؤلفها الموسوم بـ”نيتشه، فرويد، ريلكه” مرفقا بمفردة توضيحية سيرة عاطفية، يؤكد على أنّ التجاور بين الحيوات المستعادة على لسان السارد من مواصفات الكتابة السيرية.
ديالكتيك الإيمان والحب
يمتاز خط السرد في سيرة سالومي بالالتفات إلى البعد الفكري واستبطان ما يعتمل على المستوى الروحي في تشكيلة الفرد. إذن لا يكتفي شريط السرد بالتذكير والتسجيل للمشاهدات والانعطافات التي ترمي بثقلها على الخارطة الحياتية بل تكون للتأمل قسمة في طيات السيرة الذاتية، كما أنّ الاسترسال في البوح بالآراء المغايرة حول المعتقدات والقيم العائلية يبعد شبح التوثيق الممل من مناخ النص السيري إذ يكسب فتح الأدراج والحفر في تربة الزمن الشخصي زخما لبناء السرد، وذلك ما يوفر السلاسة في التواصل مع المادة المروية.
تبدأ لو سالومي خيط سيرتها بالارتداد إلى تجربتها الإيمانية وما كان يعنّ لها مفهوم “الله”، ومن المعلوم أنّ هذا البعد في تركيبة الإنسان لا يتخذ لونا ثابتا ولا يخلو من الإشكالية، وقد يكون عاملا للصراع مع الواقع المثخن باليقين. وبهذا يتشابك النص مع ما هو من صميم الهموم الشخصية. غير أنّ التواشج بين الموضوع والذات لا يفهم منه معنى القطيعة مع المؤثرات الخارجية، صحيح أنّ مصدر الإيمان هو العالم الجواني لكن ذلك لا يعفيه عن البحث والتقاط التوكيدات والإشارات المتمثلة في الشخصيات والرموز. الأمر الذي اختبرته سالومي مع من تسميه بالمعلم والمربي.
مهما يكن الموقف حول بواعث الإيمان والعقيدة الألوهية، فإنّ ما لا يحتمل الجدل أن مفهوم “الله” متأصل في النقاشات الوجودية ويأخذ مجالا واسعا في جسم التفكير الفلسفي. بدورها تستهل سالومي الفصل الأول من سيرتها باستعادة ما اختبرته من صدمة الفقد وتهاوي المبدأ العقائدي الذي كان يسد لها فراغا عقليا وروحيا، وهي بصدد تدوين ما عاشته في غضون هذه المرحلة المفصلية من حياتها ينحو كلامها منحى تنقيبيا لظاهرة الإيمان بالغيب والمتواري عن الأنظار، فبرأيها أنّ الإنسان البدائي لم يشب عن طوق الإيمان الراسخ بالغيب. ويحاول باستمرار إعادة ترتيب مكونات إيمانه ملبيا بذلك متطلبات تطور الوعي.
السيرة ليست استرسالا في رواية الأحداث والمشاهدات بل تتموضع الراوية زاوية العقل التحليلي كاشفة طبائع المجتمع الروسي
وما يتطلع إليه الكائن البشري من خلال ما يسمى بالغيب أو المجهول وتخيله لعوالمه هو الالتفاف على الأسئلة الغامضة أو ما هو مريب ولا يمكن تبسيطه. وفي حزام هذه الأرضية ينشأ الدين، حسب تحليل صديقة الفلاسفة. وعلى غرار ما مرت به البشرية في بداية مسيرتها من الخلط بين المعقول واللامعقول وبين الخيال والواقع تتكرر الدورة نفسها في حياة كل طفل.
تثير سالومي في ذات السياق سؤالا عن مآلات الإفراط في العقلانية وحرمان الطفل من ملكة الخيال، ألا يؤدي ذلك إلى تأجيج شرارة المعاداة للعقلانية في المستقبل؟ والأهم في توليفة سالومي العقائدية هو نظرتها إلى “الله” إذ وجدت فيه قوة تجمع بين مآثر الأبوين. حضن ودفء الأم من جهة وعنفوان قوة الأب من جهة أخرى. وما يحدو بالإنسان نحو ملعب الخيال والهروب من الواقع هو رفضه لخيار الاكتفاء بالعالم الخارجي.
ومن الواضح أنّ سالومي تتعمق في الشق النفسي لمفهوم الإيمان بموازاة سرد سيرتها. وما يقود المؤلفة إلى الانشقاق عن عالم متشبع بحضور إلهي هو التأمل وحتمية الفناء على الاعتبار أنها مصير لامحيص عنه. لاشك أنّ مشاعر مختلفة كانت تتنازعها في هذه المدة. وربما لم يتحقق الانفصال تماما عن حبل الإيمان بنسخته الطفولية إلا بعد لقائها بنيتشه، فالأخير ينصحها باستبدال مقولة بولس في الروزنامة “جاهدوا لأن تكونوا هادئين، والتفتوا إلى شؤونكم، ولتكن أعمالكم صنيعة أيديكم” بما قاله الشاعر الألماني جوته “علينا أن نفطم أنفسنا عن أنصاف الحلول وأنصاف الأشياء أن نحيا بكل ذرة فينا داخل الروح الكلية”.
تعترف سالومي بأن بوادر احتدام الصراع مع فكرة الإيمان بالغيب بدأت في سن السابعة عشرة عندما كانت تتابع حصة تثبيت العقيدة على يد هيرمان ديلتون، لا تستنكف سالومي عن إبداء الإعجاب بالبديل التنويري الذي يجمع بين الإيمان الديني السابق والنضج الفكري المتحقق لاحقا، لكن هي تنفي وجود التواصل بين إيمانها السابق وأفكارها التالية.
وقد لا يستدعي اكتشاف تأثر سالومي بصديقها نيتشه عناء النكش في طبقات آرائها بشأن طبيعة العلاقة بين الربّ والكون. فما تصرح به ليس إلا صدىّ لفكرة فيلسوف المطرقة المدوية. كما أن تجربة الإيمان لم تكن سطحية في مسيرة سالومي كذلك الحال مع الحب، إذ ما إن دبّ هذا الشعور السحري في أعماقها حتى زادها وعيا بأنها “إنسان من لحم ودم”، على حدّ تعبيرها.
لو سالومي أنشأت شبكة من علاقات الصداقة في بلدان مختلفة، لذا تتناول هذا الجانب من العلاقات الإنسانية في سيرتها
ارتاحت سالومي بالمعلم الذي كان يزورها في البيت تحضيرا لمواصلة الدراسة في زيوريخ، إذ تستشف فيه صفات الربّ الذي انفصلت عنه. وهذا ما يصطلح عليه بالإزاحة والإبدال.غير أنّ صدمة جديدة طالتها جراء تهشم صورة المعلم، فكانت مطالبه غير مطابقة لصورته في ذهن التلميذة. تقول “واقع الأمر أنّي رأيت إنسانا آخر واقفا أمامي لم أستطع تبين ملامحه تحت هالة القداسة التي أضفيتها عليها”، ومع حدوث هذا الشرخ فإنّ سالومي لا تنكر فضل المعلم ولا تستكثر عليه صفة القداسة، لأنّه كان شخصا قد ساعدها لمعرفة ذاتها الحقيقية، ولولا معلمها لما تمكنت من الوصول إلى زيوريخ لأنّ روسيا حرمتها من السفر بعد خروجها من الكنيسة.
وبما أنّ سالومي أنشأت شبكة من علاقات الصداقة في بلدان مختلفة ومع عدة شخصيات لذا يقع هذا الجانب من العلاقات الإنسانية ضمن مجال تناولها. إنّ عبارة “أن نكون صديقين” تجسد بنظر لو القدرة الفائقة على التصالح بين أشد مظاهر تعقيدا في هذه الحياة. فالصديق هو الذي يحمي الإنسان من نفسه.
وتتطرق إلى الحب وما يرافقه من السقوط من وهم التجزئة بين الجانبين الروحي والجسدي. قد تكون الصورة التي تسود عن المرأة المبدعة أو المشاركة في المعترك الفكري بأنها تثور على طبيعة شخصيتها ومتنكرة لفكرة الإنجاب، لكن سالومي تعتبر بأنّ حرمان المرأة من تجربة الأمومة يعني عدم معايشة أهم مقوم من مقومات كينونتها.
وتعلن بالوضوح بأنها لم تكن موفقة على مدار حياتها في رابطة الزواج ولا في رابطة الأمومة وما اختبرت رابطة الإيروسية الخالصة. وهذا الثالوث هو قوام الحب برأي الفيلسوفة.
تضاهي الأمومة لدى سالومي فعل الخلق والانتقال من حالة الانكفاء إلى حالة الإبداع. تفرد الراوية بالضمير الأول فصلا لسرد أصولها العائلية وتركيبة البيئة الأسرية. فهي كانت الوحيدة من بين الأخوة وطبعت صرامة الأب وانضباطه العسكري المناخ التربوي لأبنائه. فكان الضابط معاصرا لنخبة من الأدباء الروس في حقبة عهد القيصر “نيكولاس الأول” ومنغمسا في ملذات الحياة، لكن حياته تشهد تحولا دينيا بعد الزواج. قدر لسالومي أن تعيش زمنا يعج بالأحداث والمخاضات الثورية. فالعزوف عن الاهتمامات السياسية لم يمنعها من معاينة الخطوط التي يتركها الحراك الثوري على مختلف المجالات الحياتية والفكرية.
الثورة والصحبة الفكرية
كان والد سالومي مشاركا في تطويق تبعات الانتفاضة البولندية، ويقلد على دوره الفعال بوسام النبالة الروسي. إذن قد ترعرعت لو سالومي محاطة ببزات الجيش على حد قولها. ومع ذلك لا تحول خلفية والدها العسكرية وأسرتها المحافظة من دون التأثر برموز ثورية بارزة، إذ تحتفظ بأدراج مكتبها بصورة فيرا ساسوليتش المرأة الفوضوية التي تطلق النار على عمدة سان بطرسبورج.
وما تراه سالومي محل الاستغراب أن دعاة الثورة من المثقفين لم يقدموا نموذجا يحتذى بل أصيب جلّهم بلوثة الاقتداء بالمدمنين والغارقين في لجة الخرافات. وتضرب بتولستوي مثالا لهذه العقلية الأنتلجنسية. وتعقب على هذه الحالة موضحة بأن حماسة الخنوع للمصير لا تختلف عن حماسة الفعل الثوري، وما يحرك الطرفين ليس مبدأ ذاتيا بل قوة خارجية.
راقبت سالومي مآل موجة الانتفاضات التي تنتهي بالثورة البلشفية. معلنة بنبرة انتقادية بأنّ ما يسري في دماء روسيا البلشفية مجرد أفكار باردة لا روح فيها مستوردة من منظومة الأفكار والنظريات الغربية. إذن ما تضمه السيرة ليس استرسالا في رواية الأحداث والمشاهدات بل تتموضع الراوية زاوية العقل التحليلي كاشفة طبائع المجتمع الروسي والظلال التي تلقيها خصائص البيئة على نفسية الإنسان.
توجد ثنائيات عديدة في الوسط الفكري والأدبي. ولعل علاقة نيتشه وسالومي من أشهر ما أثار انتباه المهتمين بفلسفة صاحب “هكذا تكلم زرادشت” لأنّ القراءة الانتفائية لحياته وأفكاره قد جعلته عدوا شرسا للمرأة، لذا فمن المؤكد أنّ لقاء نيتشه بالأنثى التي عدها نظيرا فكريا له يكتسب أبعادا جدلية.
ومن المعلوم أن لو سالومي نشرت كتابا بعنوان “نيتشه سيرة فكرية” ترصد فيه فلسفة صاحبها وفتوحاته الفكرية المحايثة لوقائع حياته الشخصية، مشيرة إلى أن الالتحام القائم بين العمل الفكري الخارجي والحياة الجوانية يبدو أكثر وضوحا في مسيرة نيتشه.
ترتد لو في سيرتها الذاتية بالزمن إلى اللحظة التي تجمعها بنيتشه، فكان صديقهما المشترك باول ريه حلقة الوصل بين الإثنين. تشير سالومي إلى طريقة نيتشه الاستعراضية في الاحتفاء بها “من أي نجم سقطنا لنهبط هنا؟”، ومن ثمّ بعد مغادرته لإيطاليا يلتقي نيتشه بسالومي من جديد في مدينة “لوتسيرن” السويسرية ويطلب يدها للزواج من خلال وساطة باول ريه، وما يكون مفاجأ بالنسبة إلى الأصدقاء هو إصرار نيتشه على جلسة التصوير وترتيب تفاصيلها إذ يختار عربة ويقترح على سالومي أن تمسك بسوط، ومن نافلة القول بأنّ هذه الصورة أصحبت واسعة الانتشار.
ولا تكتم سالومي إعجابها الشديد بنيتشه وتلمذتها له. وكان يساورها شعور التردد من أن تسلك طريقه، كما تحدوها الرغبة الملحة بأن تشق طريقها الخاص. والرمانة التي رجحت كفة الاحتمال الأخير هي تلميحات نيتشه بأنّ باول ليس الرجل المناسب لسالومي. ويتصاعد التوتر في العلاقة وتحمل لو مسؤولية تدهور صحة نيتشه.
تؤكد سالومي بأنها لم تفهم أعمال نيتشه حق فهمها إلا بعد أن قابلته وجها لوجه، وسبقت غيرها في التوقع بأنّ أفكار صديقها الفليسوف لن تكون مهجورة، بل تتسع حلقات متابعيها يوما تلو آخر. وترى بأنّ شاعرية لغة نيتشه هي أعظم شأنا وأجلّ قيمة من الحقائق المتضمنة فيها.
وما يرشح من كلام الراوية يؤكد بأنها كانت أقرب روحيا من باول ريه، إذ تصفه بتوأم الروح. غير أن مشكلة باول تمثلت في كراهيته لنفسه. وهذا ما دفعه بأن يفرغ مشاعره الطيبة على شخص آخر كنوع من أنواع الخلاص المنشود. هذا ليس كل ما ترويه سالومي في سيرتها بل تكرس مفصلا من الكتاب لعلاقتها مع راينر ريلكه واكتشافها لروسيا برفقته. كما تسرد بالتفصيل ما تعلمته من فرويد، مبدية إعجابها الشديد بعبقرية مكتشف قارة اللاوعي. ولا تتجاهل تجربة زواجها بالأكاديمي المتخصص في الدراسات الشرقية فريدريش كارل أندرياس.
ما يجدر بالإشارة، أنّ سالومي على الرغم من تأثرها بأصدقائها من الفلاسفة والصحافيين والفنانين لكن نبغت من تعدين الأفكار التي تعبر عن ألمعيتها وتفوقها في التبصر والفهم. ولم تكن المنافسة جزءا من برنامجها الحياتي واستقبلت أمنياتها المتحققة بمزاج الزاهد. وتلخص مقولة للشاعر الألماني جورج فريدش داومر فلسفتها للحياة “صدقني لن يمنحك العالم ما تحلم به أبدا لو أردتّ حياة حقيقية فاسرقها”.