لويز غلك.. شاعرة أميركية تتقن التقشف والبساطة وتؤسس عالمها على القسوة والمفاجأة

جاء في بيان أكاديمية نوبل التي توجت الشاعرة الأميركية لويز غلك بنوبل للآداب سنة 2020 أن الشاعرة تسعى في قصائدها لطابع عالمي. وفي سعيها هذا تستوحي من الأساطير الحاضرة في غالبية أعمالها، وأن في قصائدها تستمع النفس لما تبقى من أحلامها وأوهامها. وفي مختارات جديدة للشاعرة بالعربية نكتشف خفايا أخرى من عالم الشاعرة التي لا تركن إلى نمط شعري واحد.
كان حصول الشاعرة الأميركية لويز غلك من أصل هنغاري حيث ولدت لعائلة يهودية هنغارية، مفاجأة للكثرين في الأوساط الأدبية الغربية خاصة، هذا على الرغم من كونها فازت بالعديد من الجوائز الأدبية الرئيسية في الولايات المتحدة، مثل وسام العلوم الإنسانية الوطنية، وجائزة بوليتزر، وجائزة الكتاب الوطنية، وجائزة نقاد الكتاب الوطنية، وجائزة بولينجن، بالإضافة إلى جوائز أخرى.
كما حازت على جائزة ولقب الشاعر الأميركي في الفترة من 2003 إلى 2004، الأمر الذي أوضحه المترجم الخضر شودار في مقدمته التحليلية لمختارات من أعمال غلك الشعرية التي صدرت له مؤخرا، حيث قال إن أعمال وكتابات غلك غير معروفة بشكل واسع للقارئ في العالم، بما في ذلك الثقافات الفضولية الرفيعة في أوروبا حيث ظهرت ترجمات جزئية لأعمالها في أوقات متباعدة.
القصيدة ليست شكوى
المختارات التي صدرت عن دار خطوط وظلال الأردنية ضمت قصائد من مجموعات غلك الشعرية هي “المروج” 1996، “فيتا نوفا” 1999، “الأعمار السبعة” 2001، “أفيرنو” 2006، “حياة قروية” 2009 و”ليلة وفاء فاضلة” 2014، يتوقف معها شودار في مقدمته انطلاقا من تجربة غلك وأعمالها كاملة كاشفا عن رؤيته ورؤى النقاد الذين تابعوها.
ويرى المترجم أن هناك تجاوبا دائما بين غلك وبين أشواقها الشعرية في أعمالها كلها، فبالرغم من أن كل كتاب كما تقول هي، هو حالة انقطاع عن الكتاب الذي سبقه، إلا أن الشعر يظل يأتي من الفلك الأول الذي يتحرك فيه سابقا فتظهر صوره وموضوعاته حية في أشكال جديدة أخرى، أحيانا في صورة قلق أو معاناة للسيطرة على العلاقات العاطفية والإنسانية “العائلية مثلا” مع الآخرين؛ الأخوة، الصداقة، الخيانة، الانفصال، الجنس والموت حيث يصبح الشعر طريقة في النظر في حياتنا.
ويلفت شودار إلى حضور نماذج الميثولوجيا في شعرها كوجوه وشخوص في حكايات تتمثل فيها التجربة الإنسانية. والشاعرة نفسها تعرف مخاطر صياغة الشعري ميثيولوجيّا بتطوير الصراع كما في قصائد “أفيرنو”؛ لم تكن برسيفون مجرد رمز كوسمولوجي بوصفها ضحية مؤامرة، وإنما كانت نموذجا للفتاة المتمردة أمام أشكال السلطة المتعالية.
الشاعرة على وعي بمخاطر صياغة الشعري مثيولوجيا والجمود على موضوع أثير واحد كأن تكون القصيدة شكوى ثابتة لا تتغير
ويخف ذلك أكثر في أعمالها الأخيرة في ما يشبه العودة إلى غنائية المتناقضات في أعمالها، الأول “أتكلم لأنني متناثرة” حيث الاتكاء على السيكولوجيا والتوازن بين المشاعر الحارة وحس المفارقة “التحليل النفسي هو كل ما فعلته بعقلي ووقتي”. وبخاصة بعد أن فقدت الميثولوجيا في نظرنا المعاصر اليوم سلطة معتقداتها التي كانت لها من قبل.
والشاعرة أيضا على وعي بمخاطر الجمود على موضوع أثير واحد؛ كأن تكون القصيدة شكوى ثابتة لا تتغير، والحفاظ على شعرية الكتابة من الغرور الذاتي أو الافتتان بالنفس بالتجرد، والتعاطي مع أشكال أخرى للعالم وراء الذات. وللقارئ أن يجد مثالا في قصائد “حياة قروية” 2009 التي تدور حول قرية خيالية بلا اسم على لسان شخوص من سكانها، أناس لا كما تعرفهم غلك في الحقيقة وإنما كما هم يتكلمون في مخيلتها الشعرية.
ويوضح شودار أن معاناة الشاعرة الشخصية ساعدت على شحذ أدواتها في التعبير الشعري منذ بدأت تنشر في نهاية الستينات حين أخذ شعر الاعترافات الأميركي في الانكماش.
في كتابها “براهين ونظريات” تناقش غلك قيم الصدق والجرأة كقيم جمالية في الكتابة وتفصلها عن معنى “الأصالة” التي هي “الاستعمال الأقصى للإرادة الذاتية” في الشعر كما في الحياة. وما من غاية هناك أعلى من جودة الكتابة. الشاعر الذي يراهن على قيم تلح من خارج الشعر هو في الأغلب يخسر اللغة الشعرية القابلة للتذكر والتي هي الانطباع الذي يبقى معنا كقراء لشعره. وتبدو بعض كتب غلك، رغم تمفصل الشكل، نصا طويلا بصوت واحد من معمارية التضمين السردي لقصة امرأة في حداد بعد الطلاق كما في “حياة جديدة” (فيتا نوفا) إلى المنمنمة الشعرية في بعض نصوص “أفيرنو” في كل ذلك تظهر شعرية غلك في التقشف والعمق، عمق البساطة، في القسوة والمفاجأة؛ إذ تقول “يستهويني الحذف، المسكوت عنه، الإيحاء، الصمت البليغ والمطلق. المسكوت عنه بالنسبة إليّ بحاجة إلى قوة هائلة؛ كثيرا ما أتمنى لو كتبت نص القصيدة كله بهذا المعاني من التعبير بما يشبه اللامرئي”.
الشعر مكاشفة
يقول شودار عن مجموعة “المروج” إن “نصوصها تقع في ثلاثة مستويات متداخلة، هناك سلسلة من قصائد الوجوه الميثولوجية شخوص الأوديسا: بينيلوب، سيرس وتليماك حيث يأتي الخطاب عادة بضمير المتكلم ويمكن إضافة قصائد متفرقة قصيرة الحجم يحكمها كلها أسلوب واحد في الشكل وفي حساسية التعبير الشعري وتعكس تجانسا في ما بينها ككل. وهناك قصائد الأمثال التي فضلت غلك أن تكون متداخلة دون أن تجمعها في خيط واحد للتجاوب مع بقية القصائد. فقد كتبت هي كذلك، حتى وإن بدت كأنها خارج حبكة الأصل، بأسلوب بسيط يعزز القيمة المجازية على لسان راو عليم أكثر من أشكال التعبير الأخرى، ثم القصائد الحوارية على لسان الزوج والزوجة حيث يجري التناوب في الخطاب بين ‘أنا’ و’أنت’ ويتداخل مع شخوص الميثولوجيا. وهي تعرض بخفة ساخرة مشاحنات الزوجين اللذين لا يكلم أحدهما الآخر إلا بلسان التجريح. لكن القصائد كلها تتواشج في النهاية ويقع بعضها على تخوم بعض عند غلك التي تربط دائما بين موضوعها الشعري وحياتها كامرأة”.

الشعر عند غلك مكاشفة لأعوام الشباب ولهذا الغموض الذي يجتازه الواحد من الطفولة إلى حياة الكبار
ويرى المترجم أن مجموعة “فيتا نوفا” استعادة لعمل دانتي نفسه الذي أراد أن يتحرر من موضوعه العاطفي بحرمان نفسه من الحب، لكن غلك التي خسرت الحبيب بعد انفصالها، هي على العكس من دانتي امرأة منكسرة، منغمسة كليا في الشعور بالفقد ومستمتعة ولو ظاهريا بحياتها الداخلية. الشعر هنا مكاشفة لأعوام الشباب، لهذا الغموض الذي يجتازه الواحد من الطفولة إلى حياة الكبار، ولمعنى الموت ماثلا في ذكرى رحيل الأم، كأن الصوت الذي يتكلم يستعيد زمنا مضى في زمن حاضر متحرك لا بوصفه توقا إلى الطفولة الأولى وإنما ذهاب إلى زمن آخر، حاضر ومختلف. وينتهي الكتاب بنزاع بين الزوجين على حق تبني “بليزرد” الكلب الذي يتحول سورياليا إلى شاعر بعينين دامعتين كطفل فقد حياة أبويه المشتركة؛ نهاية حياة امرأة تبدأ حياتها الجديدة بكمبريدج.
ويشير شودار إلى أن مجموعة “الأعمار السبعة” تحمل قصائدها معنى التحول الدائم للحياة والتقدم في العمر وما حول ذلك من مشاعر الصراع والخوف من الموت. قرابة الأخوة كحصار عائلي بكل ما فيه من عذوبة ونضج ومخاطر، كأن العالم رغم مرور الوقت ينحصر في تلك العلاقة وحدها. عودة إلى النظر في المصائر وكيف يمكن القبض على ما يفلت منا باستمرار. الذكريات، مذاق الأشياء المختلفة الأولى، تعذر الهروب من الهشاشة التي تلاحق كل ما حولنا وفي حوزتنا، كأن الحياة أبدا لا تكفي. امرأة خمسينية في منتصف العمر تراجع، بعد أن اكتملت، تجارب سيرتها الأولى وتحتفي بالعالم الحسي للطبيعة؛ الأعمار السبعة هي قصائد الصيف، الحر، النضج، الكسل، السكينة، الامتلاء والتلاشي، وهي أيضا قصائد الفاكهة ومباهج الحس؛ الخوج، المشمش، وأسماء الأزهار البسيطة والغامضة.
ويلفت إلى أن غلك اقتبست اسم مجموعة “أفيرنو” من مكان بجنوب إيطاليا؛ من فوهة بركان تعني المدخل إلى العالم السفلي وفي اللاتينية القديمة تعني كلمة أفيرنوس “وصل إلى” وما يتصل بذلك من معان خاصة بمسالك الطريق. وصول الحياة إلى منتصف العمر. تدور غنائية الأنا في هذه القصائد حول الاكتمال الفكري للعمر وتحديات الذاكرة في نسيانها لأشياء الألفة حين تعجز عن ذكر أسماء اليومي؛ لا شيء يمنع من حتمية اقتراب الشيخوخة وضعف القدرة الذهنية للجسد في تذكر كل ما سبق. ومثلما اعتمدت غلك في مجموعتها السابقة “الأعمار السبعة” زهو الصيف كفضاء زمني للطبيعة وما لا يمكن أن نتحاشاه، منحت لهذه القصائد زمن الخريف الزاحف إلى الشتاء.
وعن مجموعة “حياة قروية” يلاحظ شودار أن غلك تعود من خلالها إلى فكرة الفناء والمرور السريع للحياة، الفكرة الأولية ذاتها التي نعثر عليها في تأملاتها الشعرية السابقة. أما عن المجموعة الأخيرة ضمن المختارات “ليلة وفاء فاضلة” فتتراوح قصائدها المتفرقة بين لوحات نثرية ونصوص غنائية. سبع قصائد منها (ترجم منها في المختارات قصيدتين) تدور كلها حول شخصية خيالية لرسام إنجليزي مات والداه في عمر الطفولة.
وتذكر غلك أنها بدأت العمل على هذه النصوص بعد انقطاع أكثر من عامين عن الكتابة. يمكن القول بأن هذه القصائد استكشاف للموضوعات الأثيرة في شعر غلك؛ الشخصي والفكري على السواء، بالعودة الدائمة إلى حقائق التجربة الإنسانية: الصمت، الخواء والموت وما تحمله من تحد للقدرة الإبداعية في الشعر والكتابة.
مختارات من مجموعة "المروج" نص "أغنية بينيلوب":
أيتها الروح الصغيرة، الصغيرة العارية على الدوام،
افعلي ما أطلبه منك، تسلقي
الرف شبيه أغصان شجر التنوب،
انتظري فوق، متيقظة مثل
حارس أو مترصد. قريبا سيكون في البيت؛
عليك أن تكوني
سخية. لم تكوني كاملة
تماما. بجسدك المشاغب
اقترفت أشياء ما كان ينبغي لك
ذكرها في قصائد. ناديه
إذن، من على المياه المكشوفة، من على المياه اللامعة
بأغنيتك الحزينة، بأغنيتك
الآسرة الخارقة،
مثل ماريا كلاس. من الذي
لا يريدك؟ أي اشتهاء شيطاني
قد تفشلين في الاستجابة إليه؟ عاجلا
سيعود من مكانه حيث هو الآن،
مسفوعا بالشمس في غيابه، مشتهيا
دجاجه المشوي. آه، عليك أن تحييه،
عليك أن تهزي أغصان الشجرة
لتثيري انتباهه، لكن حاذري، حاذري، خوفا
من أن تشوه وجهه الجميل
الإبر الكثرية المتساقطة.