لولا دا سيلفا يختبر شعبيته خارج بلاده في مؤتمر المناخ بشرم الشيخ

لم يحظ ضيف أو رئيس أو مسؤول في دولة بزخم واستقبال حافل، على مدار أيام انعقاد مؤتمر المناخ الذي انتهت فعالياته الجمعة، مثلما حصل مع الرئيس البرازيلي الجديد لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، ولم يبد رواد وضيوف المؤتمر حرصا على لقاء زعيم سياسي كما حدث معه، وبدا كأنه نجم سطع في شرم الشيخ.
كان الأربعاء الماضي يوما عاديا من أيام المؤتمر في أوله حتى تواجد دا سيلفا في الجناح البرازيلي، والتف حوله المئات من المهتمين بالمناخ، سياسيون وإعلاميون ونشطاء، ثم علمنا أنه بصدد إلقاء خطاب في مساء اليوم نفسه.
بدأ الجميع يسعون إلى معرفة المكان والزمان، وقبل انطلاق جلسته اصطف كثيرون على مدخل القاعة المخصصة لإلقاء خطابه، كانت الحشود كبيرة على غير العادة، من جنسيات وأعمار مختلفة، وحاصرت وسائل إعلام عالمية القاعة انتظارا للدخول.
◄ دا سيلفا يدعو إلى مواجهة الفقر وتعزيز المساواة ودعم حقوق السكان الأصليين، ويعد بتغيير سياسات البرازيل البيئية
امتلأت القاعة، وتضاعف الواقفون أمام أبوابها وهتفوا باسم “لولا”، وطالبوا بالسماح لهم بدخول القاعة عنوة، هنا تدخلت العناصر الأمنية التابعة للأمم المتحدة، وطالبت الجماهير بالابتعاد عن القاعة بعد اكتمال العدد المسموح به، وتم توجيههم للجلوس في قاعة مجاورة، حيث سيتم عرض خطابه مباشرة على إحدى الشاشات، وامتلأت أيضا عن آخرها، والبعض افترشوا الأرض لشدة الزحام وعدم وجود مقاعد خالية، ويستحق هذا المشهد المثير جائزة COP 27 عن جدارة.
صعوبة التصدي لتغير المناخ
أكد دا سيلفا على صعوبة التصدي لتغير المناخ إلا مع معالجة العدالة الاجتماعية، منتقدا زعماء العالم لتقاعسهم عن إعطاء الأولوية لتغير المناخ، قائلا “إنهم تجاهلوا التحذيرات بشأن محنة الكوكب بينما ينفقون التريليونات من الدولارات على الحرب”.
وأوضح أن الكوكب ينبّه العالم في كل لحظة إلى الحاجة للتكاتف للبقاء على قيد الحياة، لكن هناك تجاهلا لهذه التنبيهات، فهناك 900 مليون شخص في العالم ليس لديهم ما يقتاتون به، كما دعا الدول الغنية إلى الوفاء بتعهدها السابق بتقديم 100 مليار دولار سنويا للدول الفقيرة لمساعدتها على التكيف مع تغيرات المناخ وتقليل الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري.
تحدثت “العرب” مع أحد المتواجدين في أثناء خطاب رئيس جرى انتخابه مؤخرا ولم يتسلم السلطة بعد، وهو مواطن برازيلي يدعى كريناك نكنانوك، ينتمي إلى ”الانديحونز“، وهذا مصطلح يطلق على السكان الأصليين في البرازيل، وشرح الناشط في الدفاع عن البيئة والغابات أسباب اهتمامه بخطاب دا سيلفا بالقول “لقد تلقينا الكثير من الوعود بشأن قضية المناخ، لكن دون تنفيذ، تحدونا الآمال أن يساعدنا لولا في تبني هذه القضية، ونثق في قدرته على ذلك، فهو قائد جيد ومفاوض بارع”.
وترفض قبائل حوض الأمازون تدمير غاباتها واقتلاعها من موطنها الأصلي، الأمر الذي تصاعد خلال فترة حكم الرئيس البرازيلي اليميني المتطرف المنتهية ولايته جائير بولسونارو، بينما تعهد دا سيلفا بالدفاع عنها وتأسيس وزارة من أجلها.
طرح دا سيلفا على مؤتمر المناخ في شرم الشيخ استضافة الأمازون ”كوب 30“ عام 2025، مؤكدا اهتمامه بقضايا المناخ والدفاع عن مصالح هذه المنطقة الحيوية، حيث توصف غابات الأمازون بأنها الرئة التي يتنفس منها العالم. فهو يحظى بشعبية كبيرة من جانب السكان الأصليين في البرازيل، والذين قتل منهم الكثير وهم يدافعون عن موطنهم وغاباتهم الشاسعة في الأمازون.
نجح دا سيلفا البالغ من العمر 77 عاما في الفوز بالجولة الثانية من الانتخابات التي جرت مؤخرا، متفوقا بفارق بسيط على منافسه بولسونارو. وقال عنه الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما في فترة رئاسته السابقة “لولا أكثر شعبية مني، إنه أكثر شعبية من كل الكرة الأرضية”.
قالت البرازيلية فلافيا، وهي مواطنة برازيلية جاءت لتشهد خطاب دا سيلفا، إنها انتخبته وأيدته لأنه “الخيار الوحيد أمامهم وسط بدائل غير صالحة، لذا لم يكن هناك بديل سواه، ولا يتعلق الأمر بمحبته أو كراهيته أو أنها تراه الأفضل، بل لكونة أفضل الخيارات المتاحة أمامها مقارنة بالآخرين”.
صحافية برازيلية حضرت لقاء دا سيلفا الحاشد في شرم الشيخ، وطلبت عدم الإفصاح عن اسمها، أكدت أن الشعب البرازيلي يحدوه الكثير من الأمل بعد وصول دا سيلفا إلى الحكم لتحسين الكثير من الأوضاع في البلاد، خاصة تبنيه قضايا التغير المناخي التي يعاني منها قطاع كبير من المواطنين.
وقد تعهد دا سيلفا بعد إعادة انتخابه، حيث حكم دورتين متتاليتين خلال الفترة من 2003 إلى 2010، بتبني قضايا المناخ ومواجهة الفقر وتعزيز المساواة ودعم حقوق السكان الأصليين، ووعد بتغيير سياسات البرازيل البيئية.
البداية من الأمازون
قلص الرجل عمليات إزالة الغابات إلى أدنى مستوياتها في فترة رئاسته الأولى، وبشّر قبل أيام بخطة شاملة لاستعادة إنفاذ القانون البيئي الذي تراجع بشدة في عهد الرئيس بولسونارو، وأكد على ضرورة توفير وظائف خضراء، بعد أن شهدت فترة حكم الأخير إبادة مساحات شاسعة من غابات الأمازون.
أما البرازيلي روبنز هاري بورن، وهو يعمل في منظمة غير حكومية للدفاع عن المستهلك، فقد أوضح أن الرئيس الجديد سيحارب لأجل 30 مليون شخص يعانون نقص الغذاء.
وأشار إلى أن دا سيلفا ينادي بالحفاظ على كرامة جميع البرازيليين، وهناك كثير من الآمال تحدو المواطنين عقب عودته للحكم لتحقيق تقدم في مجال المناخ، لافتا إلى أمنياته أن تلعب بلاده دورا قويا في قضايا المناخ على مستوى العالم.
يبدو أن البرازيليين يتذكرون ما حققه دا سيلفا في أثناء توليه الحكم لأول مرة، حيث عانوا فترات قاسية اقتصاديا واجتماعيا بعد رحيله عن السلطة بعد أن نجح في تحقيق طفرات كبيرة وأحدث تحسنا واضحا في مستوى معيشة قطاعات واسعة من الناس وانتشل كثيرين من الفقر، وكافح الطبقية وحارب الفساد، وهو القادم من بيئة فقيرة.
كان خلال ولايتيه الرئاسيتين المتتاليتين ملتحما مع الجماهير. رفع الحد الأدنى للأجور، واهتم ببرامج الحماية الاجتماعية حتى اتسعت شعبيته بين المهمشين، وحقق الاقتصاد البرازيلي في عهده نموا كبيرا، وفائضا في الموازنة العامة، كما حافظ على استقرار البلاد وتركها وهي متعافية اقتصاديا.
منحت شريحة كبيرة من البرازيليين أصواتها له ومعها ثقتهم في قدرته على العبور بهم إلى مستقبل أفضل بعد أعوام من الإنهاك أثقلهم فيها الركود وغرقوا في فقر شديد.
تبدأ فترة حكم دا سيلفا الجديدة مطلع العام المقبل، وتنتظره تحديات جمة سياسية واقتصادية وتطلعات وآمال جماهيرية كبرى، وهو الذي وعد بحماية الديمقراطية وأن يجعل بلده سعيدا.
لم يتوقع أكبر المتفائلين أن يعود دا سيلفا إلى الحكم بعد أقل من ثلاث سنوات من إطلاق سراحه، حيث تم حبسه على خلفية تهم تتعلق بالفساد، ولم يكف عن إدهاش من يعرفونه، فقد أصبح ظاهرة سياسية نادرة، والرئيس الأكثر شعبية في أميركا اللاتينية، وهو الذي عاش حياة بائسة ونشأ في كنف أسرة فقيرة، واضطر لمجابهة قسوة الحياة منذ طفولته، ونجا من سرطان الحنجرة.
من السجن إلى القصر
اتهم دا سيلفا بتلقي خدمات من شركات إنشاءات خاصة، وحُكم عليه بالسجن عام 2017، وهو ما حال دون ترشحه في انتخابات عام 2018، وقضى في السجن عاما وسبعة أشهر ثم أطلقت المحكمة الفيدرالية العليا سراحه، وألغت إدانته في العام الماضي لافتقار القاضي الذي حاكمه للنزاهة.
تمت محاكمته بغرض الزج به في السجن لأسباب سياسية من قبل بعض رجال الأعمال، ورأت لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة أن التحقيق والملاحقات في حق لولا دا سيلفا انتهكا حقه في المحاكمة العادلة وأمام محكمة غير منحازة.
ألقى في شرم الشيخ خطابا جذابا، بدت فيه قدراته كسياسي مفوه يخلب لب الجماهير بحديثه دوما عن العدالة الاجتماعية، صاحب صوت أجش، ويملك كاريزما لا تخطئها العين، ويجيد التفاوض والحوار مع المختلفين معه في الرأي.
يرى نشطاء المناخ أن عودته للحكم انتصار لقضايا البيئة ودفاع عن العدالة المناخية، حيث جابه من قبل عصابات قطع أشجار غابات الأمازون، وقال في خطابه عقب نجاحه “البرازيل عادت.. ومستعدة لاستعادة مكانتها في مكافحة أزمة المناخ”.
عاش دا سيلفا طفولة قاسية بين سبعة أخوة وتخلى عنه والده واضطره الفقر للتنازل عن حلم الدراسة وانقطع عنها لينخرط في دوامة الحياة متنقلا بين المهن القاسية على طفل، مثل ماسح أحذية في شوارع البرازيل، وكعامل في محطة وقود، وفني في إحدى الورش، وميكانيكي وتخصص في الحديد والتعدين، وفي مقتبل شبابه فقد أحد أصابعه خلال عمله في أحد المصانع بسبب إهمال صاحب المصنع، وهو ما دفعه للاهتمام بقضايا حقوق العمال وتحسين أوضاعهم. وانضم الى إحدى النقابات العمالية سعيا وراء تحقيق العدالة الاجتماعية وتحسين ظروف العمل والدفاع عن حقوق العمال ومجابهة صلافة أصحاب العمل.
◄ الرئيس الأكثر شعبية في أميركا اللاتينية عاش حياة بائسة ونشأ في كنف أسرة فقيرة، واضطر للعمل كماسح أحذية ونجا من سرطان الحنجرة
تنوعت مسيرته السياسية، فشارك في تأسيس حزب العمال العام 1980، واعتقل في العام ذاته بسبب إضرابات النقابة العمالية، وانضم إلى الحملة التي طالبت بإجراء تصويت شعبي مباشر في انتخابات الرئاسة البرازيلية.
ترأس اتحاد النقابات، وخاض الانتخابات الرئاسية ثلاث مرات واجهها الفشل قبل أن يستطيع تحقيق النصر في انتخابات عام 2002، ثم أعيد انتخابه بعد ست سنوات.
يحظى دا سيلفا بشعبية كبيرة في المنطقة العربية، وحظي بدعم الجالية العربية في بلاده خلال الانتخابات الأخيرة لسياساته غير المناهضة للأجانب. ويتعاطف مع القضية الفلسطينية وله مواقف متعددة في إطار ذلك، ويدعم حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، ويؤيد حل الدولتين على حدود يونيو 1967 المعترف بها دوليا، وطالب إسرائيل بوقف انتهاكاتها.
أصبح دا سيلفا رمزا ملهما لليسار في أميركا اللاتينية، وامتد تأثيره ليصبح أيقونة لليسار في كثير من دول العالم، وقد تنعش عودته للحكم الحركات اليسارية في العالم، وكشف الترحيب بإعادة انتخابه عن وجود تعطش جماهيري للتعلق بقيم اليسار، ورغبة في التحرر من الرأسمالية والاقتصاد النيوليبرالي.
وهناك صعود تدريجي لليسار في قارة أميركا اللاتينية، حيث انتخبت البيرو العام الماضي بيدرو كاستيللو وهو مدرس ابتدائي يساري، وما يميز هذه النوعية من التجارب أن أنظمة اليسار اللاتينية تصل للحكم عبر انتخابات ديمقراطية مدعومة شعبيا.
دا سيلفا استطاع إحداث توازن بين آمال وتطلعات الفقراء دون الجور على حقوق الأغنياء الذين منحهم تسهيلات في الاستثمار لفتح أسواق عمل جديدة، وتحرر من الجمود الذي يغلف الكثير من الحركات اليسارية في العالم.
وقال في خطاب فوزه “هذا ليس انتصارا لي ولا لحزب العمال، ولا للأحزاب التي دعمتني في هذه الحملة.. إنه انتصار لحركة ديمقراطية هائلة تشكلت فوق الأحزاب السياسية والمصالح الشخصية والأيديولوجيات لتنتصر الديمقراطية”.
