لورنس فرلنغيتي كاهن الشعر الفوضوي

شاعر أميركي يعادي الولايات المتحدة وكل الدول ويقف ضد الحرب والأسلحة.
الأحد 2021/06/27
الشيء الوحيد الذي أريد حرقه هو الحدود بين الدول

يقف الشعراء إلى صف الإنساني ضد أي تمييز أو عنف، ولكنهم قد يجبرون على اتخاذ لغة تتماشى والعنف الموجه إلى الإنسان المعاصر من تدجين وتحكم وقتل وترهيب وحروب وغيرها، فيخرجون عن الصفاء اللغوي، أو اللغة المرتبة إلى اللغة الحية الأكثر قدرة على التأثير وكشط ضباب الزيف عن حقيقة الإنسان المعاصر. في ما يلي حوار مع الشاعر الأميركي المنتصر للفوضوية لورنس فرلنغيتي قبل رحيله عن عمر ناهز 101 سنة في فبراير المنقضي.

"أبانا الذي في السموات إبق في مكانك"، هكذا تجري القصيدة الشهيرة التي أعاد فيها الشاعر والروائي والمسرحي والناشر العصامي أشعث الشعر صياغة الصلاة الدينية المعروفة في ضوء عصرنا الراهن.

إنه لورنس فرلنغيتي، كاهن الشعر الفوضوي الذي بدأ الحركة الأدبية المعروفة باسم الـ”BEAT GENERAION”  في مطلع 1956 حينما نشر القصيدة الملحمية للشاعر آلان غينسبرغ “عواء” التي تعتبر تجربة هامة جدا في حقل ما يسمى بـ”الشعر الفوضوي”. وتدعو فلسفة هذه الحركة إلى جعل الإنسان مباركا واعتباره الغاية والوسيلة معا، منطلقة من حس بدائي بالاشتراكية الفوضوية.

وعلى الرغم من أن فرلنغيتي أمضى معظم سنوات حياته في أميركا الشمالية وأوروبا، حيث مارس سلسلة من أعمال الطبقة الكادحة، إلا أنه يعود بجذوره إلى سان فرانسيسكو حيث انطلق مد حركته الأدبية إلى أوروبا.

إن هذا الكاتب الذي جعل من بيته دارا للنشر، ومأوى للشعراء مثقوبي الجيوب، ما يزال يبحث عن أشد الحلول ثورية في الحياة. وقد استطاع في كتاباته الشعرية والروائية والمسرحية، وأشهرها ديوان “صوت العالم الراحل” و”سيرك الضمير”، ومجموعة مسرحيات بعنوان “مناقشات عميقة مع الوجود” بالإضافة إلى روايته الرائعة “هي”، أن يؤثر على جيل من القراء والكتاب تأثيراً منقطع النظير.

حين يوجد الشاعر

الشعر السياسي عائق حقيقي
الشعر السياسي عائق حقيقي

الجديد: كيف ساعدت دار النشر مدينة الأنوار (City Lights) التي تشرف عليها في تأسيس حركة الشعر الفوضوي حركة الـ”Beat”؟ أرجو ألا يكون لديك اعتراض على استعمالي لهذه الكلمة.

لورنس فرلنغيتي: لقد استعمل هذه الكلمة لأول مرة صحافي ثرثار من سان فرانسيسكو واصفاً بها البوهيمية الجديدة، ثم لم تلبث أن اكتسبت معناها الخاص بها. غير أنني لم أستعمل هذه الكلمة في أيّ كتاب نشرته، فهي من نتاج الصحافة. لقد حاولت جاهدا ألا أشجع مدرسة شعرية واحدة، أو مدرسة شعرية إقليمية إذا شئت. إن منشورات الدار تضم قصائد لكل من آلان غينسبرغ صاحب ملحمة “عواء”، وعزرا باوند مكتشف إليوت، ووليام كارلوس وليامس، وقصائد لشعراء إسبان أو تشيليين أو كولومبيين أو سوفييت، إن رؤيتنا عالمية محضة.

الجديد: هل حققتم شيئا من النجاح المادي (المالي)؟

لورنس فرلنغيتي: هذا السؤال كثيرا ما يطرح في مقابلات التلفزيون. لقد قالي لي غريغوري كووسو مرة “لا شك أنك تربح الملايين من كتبي، متى أحصل على نصيبي؟” قلت على الفور “لم تسنح الفرصة إطلاقا لتقدير ما إذا تحقق ربح مالي، فهناك نفقات الطباعة والتوزيع أولا”. ثم لا أظن أن ثمة أرباحا ملموسة بعد ذلك. إن المؤلف يحتفظ بحق الملكية وبنسبة من تلك الأرباح. وعلى أي حال فنحن مستمرون في النشر ما دمنا لم نفلس بعد.

الجديد: دعني أسألك لماذا يكثر عدد الشعراء المبدعين (من الشبان) في ما وراء الأطلنطي بينما تفتقر إنجلترا إلى ذلك؟

لورنس فرلنغيتي: إنه الصوت الإنجليزي. اللغة الإنجليزية التي تبدو رائعة أشد مما ينبغي حيث يصعب على الشاعر أن ينفجر ليقول شيئا عظيماً. في إنجلترا نسمع اللهجة الإنجليزية المثقفة الجميلة بينما تبدو اللهجة الأميركية بالمقارنة بربرية خشنة، لقد كنت في مدينة المتعاظمين. أعني أوكسفورد بصحبة كل من غريغوري كورسو وشاعرين آخرين. كنا في مطعم هندي وكان ثمة بعض المخمورين على المائدة المقابلة.

قال أحدهم “اللغة الأميركية هجينة (غير أصلية)”. فصاح أحدنا “وهذا شيء مفيد أيضا!”. أجل إنني أغبط باللهجة الإنجليزية الجميلة. إلا أن اللغة الأميركية – بهذا الاعتبار- أفضل للشاعر بكثير.

الشعراء الأكاديميون في كل بلد يبعثون على الضيق حينما يشرعون في الكلام عن الصنعة وعن كونهم صناعا عظاما

الواقع أن الإنجليزية قد أصبحت مصفاة إلى حد كبير. وهذا الأمر ينطبق على الفرنسية في فرنسا، لا يبدو أن ثمة صوتا خاصا بالشاعر. إن لدي بعض الأمل في عطاء شاعر شاب مثل توم بيكارد (Tom Pickard) من نيوكاسل على سبيل المثال، إنه في العشرين ويكتب بلهجة خشنة “لهجة نيوكاسل” وبإمكانه أن يكون ديلان توماس آخر. ولكن بطريقة مختلفة. يبدو أنه ليس ثمة من صوت عظيم على المسرح يضاهي صوت ديلان توماس. لو كان ثمة مثل هذا الشاعر في مهرجان الشعر، إلى جانب آلان غينسبرغ بدلا من الشعراء البريطانيين الصغار، إذن لكان الفرق عظيما جدا.

الحقيقة إنه كان بالإمكان وجود شعراء بريطانيين أفضل بكثير من الشعراء الثلاثة الذين سمعنا منهم كلاما منظوما لا أكثر. لقد كان الجمهور يزيد على سبعة آلاف، ولم يكن لديهم غير كلامهم المنظوم. وأعني بهؤلاء الشعراء كلا من جورج ماكيت وكريستوف ولوغ، فقد ضربا المثل على ذلك الصوت بالغ الصفاء، المثقل بقرون من التقاليد، وبالتالي العاجز عن الانفجار بحرية. أعتقد أنه من المستحيل وجود شاعر مثل والت ويتمان في إنجلترا الآن. وبالطبع حينما لا يوجد شعراء، يصبح من السهل العثور على الكثير من الأسباب. وبعبارة أخرى، حينما يوجد الشاعر فجأة، فإنما هو يثبت وجوده.

الجديد: ولكن ما رأيك في ديلان توماس على سبيل المثال؟ بالطبع لم يكن توماس إنجليزيا. لقد كان ويلزيا (نسبة إلى مقاطعة ويلز ببريطانيا) كيف نصنفه؟

لورنس فرلنغيتي: شاعر عبقري. أعظم شاعر بريطاني في هذا القرن. لقد كان صوته غير عادي. إن المرء ليتساءل من أين جاء ذلك الصوت. في ذلك الوقت، قبيل ظهور ديلان توماس كان الناس يقولون ما قلته عن الصوت البريطاني بالغ الصفاء.

الجديد: هل تعتقد كما يرى الكثيرون أن الولايات المتحدة هي التي قتلت توماس؟

لورنس فرلنغيتي: كلا لقد قتل نفسه. كينيث ركسروت كتب قصيدة عنوانها “لا تقتلني”، وهي ضد الرجل الذي اتهمه ركسروت بقتل توماس. لقد قام ديلان توماس بثلاث رحلات إلى الولايات المتحدة وتجرع الكثير من الخمرة. كما أنه كان يشرب كثيرا في إنجلترا. الناس يحفرون قبورهم بأنفسهم. أتساءل عما تقوله كيتلين توماس عن الأمر. أشك في أنها تعتقد أن الولايات المتحدة هي التي قتلت ديلان توماس.

للشاعر مجالا كبيرا للتعبير حينما يكون الموضوع واضحا
للشاعر مجالا كبيرا للتعبير حينما يكون الموضوع واضحا

الجديد: ماذا عن دور السياسة في الشعر المعاصر؟ ففي الأمسية الشعرية التي قدمتموها، كان ثمة الكثير من القصائد التي تتناول فيتنام. كما أن آلان غينسبرغ ألقى عددا من القصائد حول كوبا. إن هذا هو شعر الاحتجاج. هل تعتقد أنه دور هام من أدوار الشاعر أن يهتم بالسياسة؟

لورنس فرلنغيتي: هذه الأسئلة تصلح بداية لقصيدة سياسية جيدة. إن صدى فيتنام في أشعارنا دليل على أن للشاعر مجالا كبيرا للتعبير حينما يكون الموضوع واضحا. الشعر السياسي يصلح بشكل خاص إذا ما ألقي على مسامع جمهور. إن بإمكانه أن يؤثر عندئذ. لقد زارني عدة شعراء بريطانيين في سان فرانسيسكو في غضون السنوات القليلة الماضية، وكنت أحثهم دائما على المرور عبر كوبا في طريق عودتهم إلى الوطن. إلا أنهم لا يبدون اهتماما كافيا بالسياسة بشكل عام.

إن السياسة في حد ذاتها عائق حقيقي. والشعر السياسي يمكن أن يكون عائقا كبيرا أيضا. فعالم السياسة الخارجي ما يبرح يتدخل في حياتنا، حيث أنه عندما تسوء الأشياء يصاب الشاعر بالجنون فيكتب احتجاجا سياسيا.

الجديد: ماذا عن البذاءة في شعر الـ”BEAT”، لقد صدم غينسبرغ الكثيرين من الإنجليز بإغراقه في الفحش والتجديف؟

لورنس فرلنغيتي: في مجلة “نيو ستيتمان” نشرت ملاحظة حول أحد الحجّاب، سمعه أحد الصحافيين وهو يخاطب شرطيين أحمري الوجه بلهجة اشمئزاز “الشاعر هناك لا يفعل شيئا سوى الوقوف وترداد كلمة (…)”. من المؤسف حقا أن هذا هو كل ما يستنتج من هذه القصيدة الطويلة الجادة التي تضمنت هذه الكلمة. لقد كنت أحاول أن أجعل الكلمة مقدسة، أن أجعلها غير بذيئة ويمكن استعمالها. غير أن الكثيرين أدركوا ما أعنيه على الرغم من غباء الصحافي. لست أرى أيّ منطق في استعمال كلمة ما من أجل التسبب في صدمة فقط. لقد حاولت جاهدا ألا أستعمل هذه الكلمة في القصيدة، وحاولت مجددا أن أعيد كتابة هذه المقاطع حيث أستعمل كلمة تحل محلها، غير أنني وجدت أن ذلك مستحيل، ليس هناك من كلمة تؤدي دور البديل.

الجديد: لكنك استعملت “الكلمة” حوالي خمس عشرة مرة.

لورنس فرلنغيتي: لقد استعملتها بمعناها المقدس. كأن تتخلل ترانيم دينية. إنه استعمال قدسي للكلمة اقتفيت فيه أثر غينسبرغ في قصيدته “عواء” أو بالأحرى ملحق قصيدة عواء الذي يشكل ترنيمة تمجد قدسية الجسد الإنساني. إنها تمضي هكذا “مقدس، مقدس، مقدس.. كل جزء من الجسد مقدس”. وهذا أصفى استعمال لهذه الكلمات. ليس ثمة بذاءة في ذلك.

الجديد: ماذا عن اعترافات غينسبرغ العلنية بشذوذه الجنسي؟ هل هذا شكل من أشكال العصيان الفردي؟

لورنس فرلنغيتي: أريدك أن تسأله بنفسك. لا تسألني فهذا الأمر يتعلق به. إنها حياته الخاصة به. كل ما أعرفه أنه في أحد الاجتماعات نهضت سيدة وسألت”مستر غينسبرغ لماذا تمتلئ قصائدك بالشذوذ؟”. فقال “لأنني شاذ يا سيدتي”. لقد كان أمينا فعلا في جوابه الذي ألجم السيدة إلا أنه أجاب عن سؤالها.

صورة

الجديد: قال أحد النواب البريطانيين قبل مدة غير قصيرة من الزمن إنه يقترح أن تحرقوا جميعا ويلقى بكم في قعر القبر. هل لديك تعليق على هذا؟

لورنس فرلنغيتي: حسنا، ترى ما هي القصائد التي قرأها فجعلته يتفوّه بهذا الكلام؟ إنه يبدو وكأنه متأهب لرايخ ثالث. أعتقد أنه يصلح لإسبانيا فرانكو اليوم. إذا كان يريد الذهاب إلى مكان ما حيث يعاملون الناس على هذا الشكل، فربما أمكن إجراء الترتيبات المناسبة.

الجديد: هل من الممكن اليوم أن يكون الشاعر مؤمنا، أم أن من الضروري أن يقترن عصيانه بالتجديف؟

لورنس فرلنغيتي: هذا يتوقف على تعريفك لله.

الجديد: كيف تعرّفه؟

لورنس فرلنغيتي: أنا لست مسيحيا. إن تعريفي لله هو أنه الوعي.

الجديد: هل أنت ضد الدين كتنظيم؟ هل تحرق المعابد لتحقق فكرتك؟

لورنس فرلنغيتي: لا طبعا. هذا ما يمكن أن يفعله ذلك النائب. لا أعتقد أنه يجوز أن تحرق المعابد أو الناس الذين لا تتفق معهم في الرأي. إن هذا من شأن مجتمع بدائي. أنا أريد أن أحرق جميع الحدود بين الدول. هذا هو الشيء الوحيد الذي أظنني أريد حرقه. إذا ما أردتني أن أعرّف الله بأنه الوعي، فسأقول إن مصرعه يعني موت الوعي نفسه، موت كل شيء. ليس ثمة أبعد من الأبنية والمزارات عن الدين. ليس هناك من علاقة بينها وبين الله على الإطلاق. إنها مجرد منظمات اجتماعية تعيش عالة على الناس.

الشعر والمواقف

ضد فكرة الحرب
ضد فكرة الحرب

الجديد: في الولايات المتحدة معابد يفوق عددها أيّ دولة أخرى في العالم؟

لورنس فرلنغيتي: أهذا صحيح؟

الجديد: أجل.

لورنس فرلنغيتي: أنا لست في الولايات المتحدة.

الجديد: هل تعتبر نفسك معاديا للولايات المتحدة؟

لورنس فرلنغيتي: أنا معاد للولايات المتحدة بقدر ما أعادي أيّ جنسية. إذا أخذت جميع أعلام الدول ونصبتها حول عجلة دائرة في مدينة للملاهي لتدخل السرور على قلوب الأطفال، فهذا مناسب. أما أن تستعمل الأعلام للحرب وبسط النفوذ وسفك الدماء، فالأمر عين الجنون المطلق. لا بد أن نصل إلى هذه النتيجة إن عاجلا أو آجلا.

الجديد: هل أنت من الذين يرفضون حمل السلاح؟

لورنس فرلنغيتي: ثمة أنواع كثيرة يشملها هذا النموذج. وهناك الكثيرون من الذين يفرضون حمل السلاح ولا أتفق معهم في الرأي إلا أنني ضد فكرة الحرب بكل تأكيد.

 الجديد فلنعد إلى الشعر، هل تعتقد بوجود علاقة بين حجم جمهور مستمع وبين نوعية القصائد التي تلقى عليه؟

 لورنس فرلنغيتي: بقدر ما يعظم حجم ذلك الجمهور بقدر ما يزداد ذيوع الشعر وانتشاره. إن عليك أن تقرأ شعرا من النوع ذي “السطح الشعبي”. لا يمكن إلقاء قصائد حب خاصة فقط. إن عددا كبيرا من قصائدي الجيدة من النوع الذي فكر بمثل هذا الجمهور. إنني أدعو هذه القصائد بـ”الشعر التمثيلي”. إنني أتمرن على الإلقاء أمام آلة تسجيل.

الجديد: ألا يجعل هذا “إلقاء الشعر” أقرب إلى مملكة المسرح؟

لورنس فرلنغيتي: ليس بالضرورة، إلا أنها يجب أن تكون على أكثر من مستوى واحد. لمَ يجب أن يكون لها “سطح شعبي”؟ ثم يتعين أن تنطوي على مستوى آخر، وإلا أصبحت مجرد ثرثرة، أخذ ورد.

الجديد: من أهم الشعراء الخمسة الأوائل في عالم الشعر اليوم؟

لورنس فرلنغيتي:كما سبق وأن صرحت من قبل فإن آلان غينسبرغ بلا ريب، هو أعظم شاعر أميركي منذ والت ويتمان. لقد كررت ذلك مؤخرا في كثير من الأماكن، ثم إنه يتعين عليّ القول بأن بابلو نيرودا أعظم شاعر في عالم اللغة الإسبانية في عصرنا، أما بالنسبة إلى روسيا فأنا أرى أن فوزينسكي هو العلم الحقيقي وليس أيفتوشنكو.

لقد كنا نمشط الشعراء الإنجليز بمشط ناعم قبل فترة، ولكننا لم نستطع العثور على أي صوت كبير يصل إلى مستوى هؤلاء في الوقت الحاضر. ديلان توماس وصل إلى هذا المستوى بالطبع. الأكاديميون كثيرون يكتظ بهم المكان. معظم هؤلاء الشعراء أساتذة. وفي هذا يكمن مصرع الشعر.

 إن هؤلاء الأستاذة الأكاديميين يديرون ورشات لكتابة الشعر والتأليف للمسرح. مجرد وجود هذه الورشات يدل على نضوب المخيلة، المخيلة المبدعة. إن بعضهم يظن أن بإمكانهم الذهاب إلى الورشات وتعلم كيفية كتابة قصيدة أو مسرحية. هذا غباء لعين. الشعراء الأكاديميون في كل بلد يبعثون على الضيق حينما يشرعون في الكلام عن الصنعة وعن كونهم صناعا عظاما لا يبارون. وكما هو الأمر بالنسبة إلى الرسم، فالناس يتحدثون عن نوعية الفنان ونسيج اللوحة، بدلا من الكلام عن الموضوع الذي يجب تناوله، عن الشيء الذي يستحق أن يكتب عنه.

إن هذا الأمر نادرا ما يتعرض له. إن ما يحدث عادة هو أن شعراء مثل كربرت لو أو ريتشارد ويلبور لا يعنون شيئا بالنسبة إلى أيّ أحد.

ومع ذلك فهؤلاء يملأون الأماكن الأكاديمية في الولايات المتحدة، وليس ثمة من يحضهم على ذلك. إن أكاديمية الفنون أو الآداب مليئة بالشعراء الأساتذة، بينما الشعراء الذين أثروا على الأجيال الطالعة هم شعراء الـ”BEAT“، إنهم يمثلون الجسر بين الأجيال من زمرة ثلاثين أو أربعين عاما، وبين جيل زمرة عشرين عاما اليوم. وثمة شبه عظيم بين ما يحدث في إنجلترا بالنسبة إلى عالم الأغنية وبين شعر الـ”BEAT“.

ولذا يمكن القول إن شعر الـ”BEAT”، الشعر الفوضوي، هو الحدث الوحيد في الأفق الأميركي اليوم على الرغم من أن النقد هناك قد تنبأ ووصف مصرع هذا الشعر. جميع النقاد قالوا إن مادته ومسرحه ميتان. وإنه شيء من الماضي، ومع ذلك فهو الحدث الوحيد في لندن أيضا.

صورة

الجديد: هل تتناول شيئا من المخدرات عندما تمارس الكتابة؟

لورنس فرلنغيتي: أكتفي بتناول جرعات بسيطة جدا في بعض الأحيان. أنا لا أحتاج إلى شيء من هذا القبيل. أنا أحب الحياة.

الجديد: هل هذه الحالة معدية؟

لورنس فرلنغيتي: آمل ذلك. إن اتصالا عميقا يحدث بين الناس خلال الأمسيات الشعرية العامة. هذا يحدث عندما تنظم عملية إيصال بينهم وبين الشاعر فتكون العدوى سريعة كالكهرباء يصعب كبح جماحها، إنهم لا يذهبون إلى البيت عندئذ، وإنما يتسكعون محاولين التقرب من الغرباء، وبخاصة الشعراء، إنه لشعور مجنون. مشهد عظيم يستحق الاستقصاء.

الجديد: غريغوري كورسو كان ضد إلقاء الشعر، أليس كذلك؟

لورنس فرلنغيتي: أجل وهذا هو السبب الذي جعله يقرأ قصائد حب قصيرة ذات جمهور محدود. لقد كانت هذه هي طريقته في التعبير عن عصيانه ضد إلقاء الشعر.

الجديد: ما الذي كان يقلقه؟

لورنس فرلنغيتي: لعله كان يشعر أن بعض الشعراء كان يجب ألا يشتركوا في البرنامج وبخاصة الشعراء الإنجليز مثل هورويتز. لقد شعرت أنا وغينسبرغ بنفس الشعور، كان من الممكن أن نقرأ ببطء عددا أكبر من القصائد، أن نلتحم بالجو الشعري.

الجديد: هل أنت ملتزم بالحياة، أعني هل يستغرقك مناخ عصرنا؟

لورنس فرلنغيتي: على الشاعر أن يلتزم بالحياة بجميع وجوهها، إذا كان ليبراليا أو إنسانيا يتعين عليه أن يكون حساسا جدا بمشكلات العالم، بصرف النظر عن المكان الذي يذهب إليه. ألم يقل بليك “لمن تقرع الأجراس.. إنها تقرع من أجلك؟”. فيديريكو غارسا لوركا الشاعر الإسباني العظيم مات دفاعا عن الحياة، ومع ذلك فقد يحدث تشويش إذا ما استغرقتك السياسة، آلان غينسبرغ – مثلا- أبعد عن كوبا.

الجديد: ألم يكن ذلك بسبب اعتراف بمثليته الجنسية؟

لورنس فرلنغيتي: أظن أن السبب يعود إلى أخذه بعض الصور، ومهما يكن من أمر فإن آلان يقف إلى يسار الليبرالية. يبدو أن الشاعر قد يصبح موضع الشك حينما يقترب من السياسة. ومع ذلك يتعين علينا أن نكون أحياء وأن نعي مناخ عصرنا. العالم مريض. وهو يزداد مرضا باستمرار. لست أكترث بمن يمكنه…، فهذه ليست مهمتي. إنني أريد كشاعر أن أشير بإصبع متهمة، أن أتكلم بصوت عال، أن أصرخ إلى حد يجعل من المحال ألا يسمع أحد. أريد أن أهز الناس، أصفع أقفيتهم، أجعلهم يشعرون بالحب.

الجديد: إلى أين ستذهب؟

لورنس فرلنغيتي: لست مضطرا للذهاب بعيدا. إلا أنه يتعين عليّ أن أغادر إلى حيث وعدني أحد المخرجين وعدا غامضا، بتقديم إحدى مسرحياتي، ومهما يكن من أمر، فإن غريغوري وآلان سيكونان بصحبتي. لا أستطيع الذهاب إلى أيّ مكان إذا لم نقم بتنظيم بعض الأمسيات الشعرية التي تغطي نفقات الرحيل.

الجديد: العالم مكان فسيح وربما نلتقي؟

لورنس فرلنغيتي: بل صغير ويزداد صغرا باستمرار، صغير إلى حد اللعنة.

الجديد: سأرسل لك نسخة من المقابلة بأسرع وقت ممكن.

لورنس فرلنغيتي: مجنون!

ينشر المقال بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية

11