لوحات شريف كينو تصرخ بأن الأرض ليست بخير

ينتفض الفنان التشكيلي شريف كينو ضدّ الانتهاكات الحاصلة في حق البيئة، فيصرخ بصوت الطبيعة الأم، معبّرا بألوانه ولوحاته عن الأمراض التي نخرتها وصارت تهدد مصير الأم وابنها الإنسان، حاثّا البشر على الاتحاد في سبيل إنقاذ المصير الأوحد وموضحا خطورة الشعور بعدم الانتماء الذي يمارسه الإنسان في حق هذا الكوكب.
للمرة الثانية أحضرُ نشاطاً فنياً للفنان الكردي التركي شريف كينو في ماردين القديمة، كانت الأولى قبل عدة سنوات حين قدم معرضاً فنياً كاملاً عن دونكيشوت وصديقه سانتشو، عن حكاياته بخواتيمها المفتوحة على الآفاق والتاريخ والإنسان، بإسقاطات معاصرة نحملها على أكتافنا ونطوف بها أنحاء الزمن بكل أفواجه وأمواجه.
أما الثانية فكانت قبل عدة أيام حين قدم معرضاً فردياً بعنوان “بارك” (الحديقة) ما بين الحادي والثلاثين مايو الماضي والخامس يونيو الحالي، في بيت قديم من بيوت ماردين العريقة، بيت يفوح منه عبق الماضي وروحه، وبرودة المكان وأنفاس الأقدمين، وهو معرض بنكهة شريفية خالصة، وبعدد قليل من الأعمال لم تتجاوز عدد أصابع اليدين، معرض انطلق في تاريخ يحمل معنى عميقا عند كينو، فالحادي والثلاثون من مايو يصادف ذكرى إحياء الدفاع عن الطبيعة والحفاظ على البيئة التي تلوثت إلى درجة أنها لم تعد تحتمل، ولم تعد صالحة للعيش، فيدُ الإنسان كأشرس المخلوقات على الأرض حسب تعبير المعلم والفنان السوري فاتح المدرس لم تترك ما هو صالح ونقي إلا لوثته، إن كان ذلك بأدواتها التقليدية كغزو الإسمنت للحقول الخضراء، واقتلاع الأخضر من المساحات، أو إغراق البحار والمحيطات وجروب اليابسة بالنفايات السامة القاتلة للبشر والشجر والحجر، وتأتي الحروب الكثيرة لتجرف ما تبقى من الروح وجمالها.
المعرض رسالة يرسلها كينو من خلال فضاءاته إلى الإنسان بأن خسارته للبيئة هي خسارته لنفسه ولمبرر وجوده أصلاً
ولعل هذا ملخص معرض الفنان شريف كينو الأخير، والعنوان يقول ذلك وأكثر، فجلّ أعماله كانت تحوم على إظهار رئة الجو المصابة لا بالتلوث فحسب بل بالسرطان وتلك الدرنات المميتة للخلايا الحية فيها، هي رسالة يرسمها كينو ويرسلها بألوانه ومن خلال فضاءاته إلى الإنسان بأن خسارته للبيئة هي خسارته لنفسه وبالتالي خسارته لمبرر وجوده أصلاً، واصفاً في حركات بطيئة وبألوان تخز العمق الإنساني وتوقظ كل ما هو نائم فيه.
وتشدد لوحات كينو على أن اللعبة يجب أن تنتهي وإلا سننتهي نحن الشبيهين بالله، ورثته في هذه الأرض التي لم نستطع الحفاظ عليها وعلى هذا الكرم الإلهي، لم نشاركه في بناء جنتنا التي وعدنا بالسير إليها، بل تحولنا إلى معامل لا تنتج إلا الخراب والدمار، فالبيئة الملوثة تنجب إنساناً ملوثاً، والانسان الملوث لا يمكن أن تكون بيئته إلا ملوثة، ومسمومة.
حين عنون الفنان معرضه هذا باسم “بارك” وتعني بالتركية الحديقة فهو كان يدرك بأنه يطلق صرخة ستشرع في البحث عن الفأس لترميه بعيداً، مؤسساً لدعوة مفتوحة للآخر بأن بناء الإنسان يبدأ من هنا، من زرع الحب والأشجار والحفاظ عليها. فهي التي تجمّل الطبيعة والحياة والإنسان معاً. وهو بذلك يؤسس لفكرة أن نفس البشرية النقية تنبع من بيئة نقية، ومن مناخ نقي وماء نقي والعكس قد يكون صحيحاً أيضاً، فالطبيعة والإنسان توأمان على كل منهما أن يبحث عن الجميل لدى الآخر وإطلاقه بكل جرأة، وكل منهما يحمل من الجمال ما يغرق السموات التسع لولا غرور الإنسان ووحشيته وتخليه عن عقله وأحاسيسه وحبه وإنسانيته حتى بات مجرماً، مدمراً لذاته وللطبيعة أيضاً حتى بحّت الحناجر من التهديد والعويل والصراخ.
أحد عشر عملاً هو بالضبط عدد أعمال كينو في هذا المعرض، أحد عشر عملاً تزين قناطر وجدران هذا البيت المارديني الجميل جداً، أحد عشر عملاً لكن بمئات من الأفكار والدلالات التي تناهض التصحر وترفضه ليس أولها حين يكون الحيوان أكثر حرصاً من الإنسان بالحفاظ على الأرض ورئته، فالفيل حين يسند شجرة يمنعها من السقوط والاقتلاع، وليس آخرها حين يشير بلغة مباشرة إلى أن الأشجار كإحدى أهم أدوات الحفاظ على سلامة الأرض باتت على النقالة.
ها هو كينو يعلق المحاليل للأرض كإشارة إلى إيقاظ الإنسان وصحوته ليدرك بأن الحياة في خطر طالما الأشجار والطبيعة ومجمل أدواتها في خطر، هي صرخة أخرى للإنسان بأنه خلق كي يجمل الحياة لا العكس، عليه أن يكتفي ويغسل يديه من الخراب والقتل والتدمير الذي لم يعد موجودا عند الكائنات الأخرى، وحده الإنسان يتربع على عرش هذا الخراب كله، فبئس وجوده وبئس حياته وبئس العقل الذي يميّزه، وبئس مشاعره التي نامت ولم تستيقظ أبدا.
ونحن في هذا السياق نقبل أن ندرج مرويات أعماله هذه ومواضيعها في إطار الدفاع عن البيئة ومحاربة تلوثها، وهي تصنيفات تتحدث عن الأمراض التي تفتك في كرتنا الأرضية التي ليس لنا إلاها، وما يسرع في دمارها والسير بها بعيداً عن الإنسان الذي وحده، ثم وحده، ثم وحده يتحمل سبب الكارثة البيئية التي تلحق بها، هي أحد عشراً عملاً، أحد عشر جرساً تقرع ناقوسها معلنة خطورة عدم وجود الارتباط بين الإنسان وبيئته، خطورة عدم الشعور بالانتماء إليها.
ولا يمكن تبسيط كل ذلك ولا أفقه، فالواقع لا يمكن أن يبرر كل هذا التلوث، وكل هذا التصحر، ومن المنظور نفسه فإن روح الإنسان المحب لأخيه الإنسان هي ذات الروح التي تحب هذه الأرض بجمالها الخلاب، بوفرة الأشجار، وعذوبة المياه والهواء النقي، فعدم وجود هذا الحب يجعل ما نراه وما نعيشه أمراً طبيعياً كنتاج لذلك.
ويختصر كينو الطريق على متلقيه ولا يخبره بنصف الحقيقة بل يخبره بالحقيقة مكتملة مهما كانت قاسية ومرة، ويطلق صرخاته وردود فعله مؤكداً دوافعه بمكوناتها التي تبدأ من حركة الواقع المتغير في سعيه للنهوض بصحوة مقترنة بالوعي والحب علها تبني الإنسان، حينها قد يعي بأن الأرض تمضي نحو الخراب وقد لا يمكن استعادتها وإعادة الروح لها إلا بالحفاظ عليها حرصاً على الواجب، واجبنا نحوها، ورعايتها حتى تغدو أجمل، وقيل كثيراً: إن الحفاظ على بيئة نظيفة نقية هو مقياس لرقي الأمم وتقدمها، ودليل سمو على حضارتها، وهي الورقة بالغة الأهمية كإشارات موجزة بإمكاناتها المختلفة التي تظهر محتوى الإبداع إلى حد كبير، وتظهر قيمه دون أي اجتزاء بما فيها الأشياء البسيطة جدا.
ويحيلنا كينو على بعض الظواهر التي باتت تمس الأرض وكينونتها، تمس الإنسان ووجوده، ويفسرها بريشته وألوانه على النحو الذي يمكنه من الاحتجاج عليها ومواجهاتها، فالحكاية يجب أن تروى كل من مكانه ومن مسؤوليته، والأمر خطير يهدد الأرض بكل تفاصيلها وجزئياتها، فهو يصيغ المدارات وفق مقتضياتها ووفق رؤاه وعلاقتها بالمفارقات، مؤكداً أن السراج يجب أن يشعله الجميع، ويحمله الجميع عله يبدد عن أجفانهم تلك الغشاوة التي بدأت تزداد، وإذا لم ندركها فنحن وأرضنا سنكون عميانا، بل سنكون موتى، وعلى إثر هذه الهزات الكارثية لبيئتنا، لأرضنا، لإنسانيتنا، سنمضي جميعاً إلى الفناء، فالإشارات وحدها لا تكفي، والتظاهر وحده لا يكفي، وريشة الفنان وحدها لا تكفي، وصرخته هذه لا تكفي، إذ لا بد من المشاركة معاً، من وحدة الصرخة إلى وحدة الفعل.