لوحات السوري إسماعيل نصرة محاولات مدهشة لاستعادة الفردوس المفقود

يستعيد الفنان السوري إسماعيل نصرة مشاهد من عالم الأحلام، فيرسمها على لوحاته حكايات شيّقة تجذب المتلقي وتلقي به في أتون حلم تائه يعيد ترتيب الحياة والقيم الإنسانية ويثبته أمام اللوحة لينفصل عن الواقع ويسافر في المتخيّل.
تنهض لوحات الفنان التشكيلي السوري إسماعيل نصرة وفق مسارين، مسار أفقي وآخر عمودي. ويظهر المسار الأفقي بالترابط مع التحولات الكونية حيث الأزمة حادة في كل المستويات ولهذا ينخرط إسماعيل كباحث عن حلم تائه، وهذا ما يجعله يعيد ترتيب الحياة في الاتجاه الذي يرغب فيه، وإذا لزم الأمر يبتكر طرقاً جديدة في هذا البناء وإن احتاج إلى أشياء مهملة عند الآخرين فيرسل فيها الروح.
وتبدو لوحاته في هذا المسار محاولات مدهشة لتأريخ صياغاته في استعادة ” الفردوس المفقود ” بنفث رشقات شعرية من ذاته، وهذا ما يجعله يمنح عمله قيمة جمالية وفلسفية مع دفع تجربته إلى محاكاة الوجوه الواعية وغير الواعية لكل تلك التصورات المنطلقة من منظور تراتبي للتمييز بين محاولاته الرائدة والممهورة بحلم يكاد يكون الفصل الأهم في إحداثياته الجمالية. وهو في الكثير من الأحيان يدعو بصورة شبه واضحة إلى جعل الحلم ركيزته التي تظهر جلياً وبطريقة مرجعية في حكاياته التي يسردها لنا عبر وجوه هي أشبه بوثيقة فنية تساهم بعمق في إثراء تجربته وإيصال تلك التجربة إلى المتلقي.
أما المسار العمودي فيتجلى حيث الصعود الجميل العذب بالحالة، وعلى الرغم من ارتباطه بالواقع بمعناه الإنساني إلا أنه يبتكر أفقاً خاصاً به، يصعد إليه بنتاجاته منطلقاً من مقولات مطروحة في مواسمه كلها ومتوقعاً منها أن تجذب المتلقي دون أن يبعد عن ذهنه فكرة أن يتخذ من فضاءات العمل حاجة هي في الأساس توقعه وتضافر جهوده من منطلق جمالي.
وتوحي هذه الفضاءات في أغلب الأحيان له ولنا في الآن ذاته بفتح الكثير من المحاور التي تطمح إلى بلوغ مقولات تشكل النسق الأهم للقيم الإنسانية في مجمل أعماله، القيم التي تقرِّب الإنسان من ذاته وبالتالي تقربه من الآخر.
وإسماعيل بوجوهه الأنثوية يركز على بؤرة قد تكون بؤرة لتفجير الحلم وبصمت لا يجوز الحديث فيه، وبالتالي فمحاولته استقصاء العالم الناثر للإنسان وإخراج الجميل منه كإخراج دلو ماء عذب من بئر، هي محاولة لتفهم أسباب الخلق بظواهره المختلفة التي هي مؤشرات في كل الأحوال لمعايير تطلب العدالة القيمية حتى في الأشياء وما تختزنه من ذاكرة والتي هي أصداء لجدالات بين مفرداته وأرصفة خصوصيته بدءاً من تشبثه بأبعاد تلك الخصوصية وما سيؤول إليها ووصولاً إلى إنجاز ما يلائم تلك الخصوصية بتحولاتها المنفتحة على حوارات تسعى لبلورة حداثة.
وتستند الخصوصية في لوحات الفنان السوري إلى جدلية بين المفردات والنزعة الجمالية المتكئة أصلاً على نزعة إنسانية، ما يعني إعادة تقييم الروح الإبداعية وامتداداتها المستقبلية مع دعوة إسماعيل إلى احترام الخصوصية المعرفية لواقعية الواقع وتوخي تحديد مقاييس متقاربة زمانيا ومكانياً ضمن البحث والتعقيب عن حقيقة هي متشظية أصلاً.
وإسماعيل يملك حساسية جديدة أشبه بتلك التي يملكها حمود شنتوت، على نحو أخص حين يقارب بها وجوهه الكثيرة والتي لإسماعيل نفسه فيها من ملامحه الكثير وإن كانت بمجملها أنثوية وشديدة في الآن ذاته كتلك التي يبثها صفوان داحول في فضاءاته، وجديدة في أخذها لموجة الحقيقة ورميها في الأفق الذي رسمه هناك والتي تخصه هو ولا أحد سواه، من فكرة الإرسال إلى الآخر لأخذ مكانهم المعتاد وإن كان هناك ما يفاجئنا بمواكبة الحدث الإنساني في مستواها الأنقى.
☚ الفنان إسماعيل نصرة يدعو بصورة شبه واضحة إلى جعل الحلم ركيزته التي تظهر جلياً وبطريقة مرجعية في حكاياته
كل هذا يكفي إسماعيل ليزيح الستار عن قنوات الاتصال في غضون برهة يرتفع بها بين زمن الإنتاج -أي زمن الخلق- وبين زمن التلقي، فلا فكاك له من خلق سُمك يريده هو ويتمتع به المتلقي وهو صارم بإيجابية تركز على سَد سيرورة الفراغ بين الواقع الذي يعيش فيه والواقع المتخيل أو الحالم. وهنا يمكن التمثيل بذلك الواقع على نسبية وتباين الغارق في الخصوصية ضمن زمانية موحدة، ومن موقع صياغة تلك الخصوصية بالتفاعل مع أطروحات مجاورة قد تصلح للمحاورة وإن على حواف التماس بينهما.
وربما يلجأ إسماعيل نصرة إلى إبراز تفاقم الحال من خلال أقطابه المتعددة، وهي محاولة جميلة منه لاستقصاء التمثيل مع إضاءة السؤال والجواب معاً، فالتوترات المتعددة التي تفوح من أعماله ما هي إلا بلاغات إرادية نحو تأسيس مقولة استحضار واقع بمعايير تخصه أولاً وتخص خطابه ثانياً، وبالتالي يدفعه ذلك نحو إعادة تحديد إشكالية موسم الهجرة كأحد أشكال مغامرة العمل الفني بأسلوب يشتغل عليه بمستوى البعد الأقرب إلى الحديث الذي يترجم والذي يتحول إلى ما هو أقرب من ملتقى حواري بين متعاصرين، ويبرز ذلك جلياً حين يقف عند لحظات وتفاصيل بها يستحضر ثيمات يتقفى من خلالها أروقة لحظات يرتقي بها حيث التخيّل وآليات التلقي التي تنغرس مع الاهتمام في أنساق التفكير.