لوحات آمال بن صالح زعيم انعكاس فني لتلوث الأفكار والمحيط

"تلوث الأفكار.. تلوث المحيط".. عن الفكرة وقدرتها على تدمير جماليات الحياة.
السبت 2024/12/07
تلوثت الأفكار فتلوث المحيط

تمثل الفنانة التشكيلية التونسية آمال بن صالح زعيم تجسيدا واقعيا لمقولة ابن خلدون “الإنسان ابن بيئته” فهي بالفعل إنسان ابن بيئته، يظهر انتماؤها جليا إلى تونس وإلى المنطقة العربية والعالم من خلال ما تقدمه من إنتاج فني، تطرح فيه مقاربات فنية تجريبية تنتقد أحداثا وسلوكيات من الواقع الراهن، محاولة أن تحدث تغييرا في الأفكار والمجتمعات.

آمال بن صالح زعيم فنانة تشكيلية تونسية لا تتخذ الفن مجالا للإبداع الفني فقط وإنما تعبيرا عن التزامها بالقضايا الإنسانية الحارقة، فهو مساحتها الحرة التي من خلالها ترفع صوتها عاليا لتعبر عن أفكارها بأعمال تجريدية في أغلبها، معيدة تدوير بعض المواد مثل البلاستيك، بطل معرضها الأخير.

بعد معرضها العام الماضي الذي حمل عنوان “مقاومة” وتفاعلت فيه مع الأحداث في غزة، جاء معرضها للعام الجاري بعنوان “تلوث الأفكار… تلوث المحيط”، والذي انعقد في الفترة ما بين الثلاثين من أكتوبر والخامس عشر من نوفمبر الماضيين، لتقف من خلاله على خطورة التحديات البيئية والتغيرات المناخية التي لا تنظر لها بمعزل عن المسؤولية الاجتماعية حيث تحمل الإنسان علانية ودون تردد مسؤولية ما آلت إليه الطبيعة.

والبلاستيك الذي يحذر أطباء وباحثون منذ سنوات من خطورة استخدامه على حياة الإنسان والبيئة، هو المادة الأكثر استخداما في هذا المعرض، وتحديدا أكياس النفايات السوداء وقوارير المياه البلاستيكية وأغطيتها الملونة التي ترسم لنا أشكالا هندسية أحيانا منفصلة بذاتها وأحيانا أخرى متداخلة لتندد بعالم صار ملوثا في بيئته وفي أفكار ساكنيه.

تمزج الفنانة هنا بين الواقعي والتجريبي وبين السكون والتمرد وبين الألوان الداكنة والصارخة لتعبر عن وجهة نظرها في حياتنا اليوم، فهي ترى أن تلوث الفكرة من تلوث المحيط، وتلوث الفكرة هو أم كل الشرور التي قد تلحق بنا وبحياتنا.

ثلاثة ألوان هي الأسود والأحمر والأزرق طغت على مجمل الأعمال المعروضة في المعرض الذي احتضنته دار الثقافة ابن رشيق بالعاصمة تونس. أما اللون الأسود فيمكن أن نعتبره صوت الظلام، الشر، الدمار الذي ينذر به تلوث الفكرة والمحيط، وأضفى هذا اللون عمقا وغموضا على لوحات الرسامة، في حين جاء الأحمر ليشير إلى الغضب والثورة، ولعله غضب الفنانة من التلوث الذي يسود على مظاهر الحياة وثورة منها في وجه كل المظاهر البشعة والشر الذي يسعى للسيطرة على إنسان العصر الحالي.

آمال بن صالح زعيم ملتزمة بالمقاومة عبر ريشتها وألوانها وتسعى لإحداث تغيير مجتمعي وإن كان بسيطا
◙ آمال بن صالح زعيم ملتزمة بالمقاومة عبر ريشتها وألوانها وتسعى لإحداث تغيير مجتمعي وإن كان بسيطا

أما الأزرق فهو دلالة أقرب على المياه التي تتخذ الزرقة لونا لها، وكذلك لون السماء، فمحيطنا المتلوث يجمع الأرض والسماء، ويمكن اعتبار أن الفنانة وظفته هنا للتعبير عن ثقتها في قوة الفن على إحداث تغيير في الأفكار ومنعها من التلوث وشعورها بالمسؤولية الفنية تجاه مجتمعها بأن جعلت تجربتها الفنية ملتزمة بقضايا اليومي والراهن، لكنها لم تغفل عن توظيف تدرجات الأزرق القاتمة ربما رغبة منها في الترميز للسوداوية واليأس اللذين يطغيان على أغلب الشعوب العربية.

وإن بدت اللوحات متشابهة على مستوى اللون من النظرة الأولى إلا أن المتأمل للمعرض بدقة وتأن سيلحظ تنويع آمال بن صالح زعيم في تقنياتها بين الألوان الزيتية والتركيب والكولاج، كما نوعت في حركة مادة البلاستيك التي صنعت بها لوحاتها بين الدوران والنتوء والالتفاف لتتخذ شكل التلون الذي يتحرك بطرق وسرعات مختلفة ليفتك بالأفكار وبالبيئة أيضا، وبمجرد أن يفتك بهما يظهر بشاعة تأثيرهما علينا وخطورته. كذلك صنعت من زجاجات المياه البلاستيك مجسما على شكل صندوق عرضته في منتصف صالة العرض، يرمز إلى قدرة البلاستيك المتجمع على إحداث تلوث في أعماق البحار والمحيطات.

وكعادتها تعنون الفنانة لوحاتها التي تأتي غامضة يصعب على المتلقي البسيط إيجاد تعبير يختصرها، ربما رغبة منها في أن يصل فنها إلى أكبر عدد ممكن من العقول فيحميها من “تلوث الفكرة”.

ومن أبرز عناوين لوحات معرضها “تلوث الفكرة.. تلوث المحيط” لوحتان بعنوان “التشنجات” و”ضد التيار”، قالت الفنانة إنها جسدت فيهما طيات دماغ بشري في حالة اضطراب دائم جراء الوضع العالمي الحالي. كما أنشأت عملا بعنوان “الطريق الدموي” تشير به إلى الإرهاب ومن وراء تحرك الإرهاب وأهدافه الأيديولوجية والسياسية والدينية، سواء في تونس أو على نطاق عالمي.

واختارت أن تعنون عملين لها بـ”مجزرة في غزة” و”المشهد المروع” لتنتقد الجرائم الممارسة ضد الإنسانية، وقالت إنها تعرب من خلالهما عن تضامنها مع الشعب الفلسطيني، مع تسليط الضوء على التداعيات البيئية المدمرة التي يمكن أن تحدثها الحرب. وجاءت لوحات “دوامة النفايات” و”المد الأسود” و”على عمق 2200 متر”، للتعبير عن موضوع التلوث الذي تصفه الفنانة بأنه “مقلق” وعواقبه على البيئة وخاصة على المحيطات والمائدة المائية.

◙ الفنانة تمزج بين الواقعي والتجريبي وبين الألوان الداكنة والصارخة لتعبر عن وجهة نظرها في حياتنا اليوم

وعن اختيارها استخدام البلاستيك في هذا المعرض، قالت آمال بن صالح زعيم إن الزجاجات البلاستيكية والبلاستيك عموما مواد غير قابلة للتحلل وهي مسؤولة عن جزء كبير من تلوث المياه مما يمثل خطرا على كوكبنا. وهذا يختصر المعنى العام والرسالة من معرضها التي تؤكد أن تلوث الفكرة وتلوث البيئة لا ينفصلان عن بعضهما. فمن يلوث البيئة هو الإنسان ذو الأفكار والسلوكيات الملوثة.

وأوضحت أن “اختيار البلاستيك يعكس الغباء البشري ويولد التعاسة الجماعية. في مجتمعنا الحديث، لا يقتصر التلوث على البيئة فقط. كما أنه يؤثر على تفكيرنا وثقافتنا. إن تلوث الأفكار من خلال المعلومات المضللة والدعاية والتفاهة، يضعف قدرتنا على التفكير النقدي. ومثلما تخنق النفايات البلاستيكية محيطاتنا، فإن الأفكار السامة تلوث خطابنا العام. هذا التلوث العقلي يولد القوالب النمطية والأحكام المسبقة والانقسامات، ويبعدنا عن الحقائق والحلول الأساسية اللازمة للأزمة البيئية التي نمر بها.”

وبالفعل، يأتي البلاستيك هنا ليكشف قدرته وقدرتنا على تلويث المحيط، ويؤكد أن انسياقنا وراء استهلاك المواد البلاستيكية الرخيصة والمبهرة إنما يكشف مدى تناقضنا وسرعة انحرافنا عن الالتزام بحماية الطبيعة الأم، وضمن استدامة الحياة للأجيال اللاحقة، كما يظهر المعرض أيضا أن البلاستيك يمكن أن يكون نقمة ونعمة أيضا فهو غير قابل للتدمير تماما مثل مفهوم الفن نفسه الذي يحاربه الكثيرون في المنطقة العربية بحجج مختلفة.

ومن يتأمل مسيرة هذه الفنانة وخاصة منذ العام 2020 الذي شهد تحولات كبيرة جراء جائحة كوفيد – 19 من السهل أن يدرك كم هي ملتزمة بالمقاومة عبر ريشتها وألوانها، ومصرة على التعبير عن رفضها للواقع سعيا منها لإحداث تغيير مجتمعي وإن كان بسيطا ولا تلمس آثاره بسرعة.

"أجد نفسي على مفترق طرق بين فلسفتين فنيتين. الأولى تعتمد على الفكرة والعواطف التي تثيرها، وكذلك على تكييف المواد المختلفة لتجسيد هذه الحالة. والثانية تدور حول الشحنات العاطفية والموهبة الفطرية، التي تتجلى في اللوحات التجريدية التي أفسرها بعد إنشائها، مما يمنح الجمهور حرية تطوير قراءاته الخاصة والانغماس في الخيال الشخصي. هذه الازدواجية تعطيني توازنا بين الفكري والروحي، بينما تولد تواترا دائما بين هاتين الحالتين الذهنيتين”، هكذا وصفت الفنانة تجربتها التشكيلية، معتبرة أنها “فنانة تتطور في عالم مضطرب حيث يبدو الهدوء مستحيلا.”

لوحات واقعية

14