لن يسمعك أحد

ليس المقصود بالعزلة تلك التي نشأت عن اللجوء إلى الافتراضي بدلا عن الاتصال المباشر للبشر مع بعضهم البعض، المقصود بهذه العزلة هي تلك التي أفرزها الفيض المنقطع النظير للمعلومات المتدفقة ديجيتاليا.
الجمعة 2018/09/28
تفصيل من لوحة "صرخة" لمونش

 شبكة الإنترنت وخيوطها العنكبوتية التي تتوسع وتتعقد مع تقدم الزمن وتقدم التكنولوجيا فاضت الدراسات ولا تزال عن ماهيتها وإشكالياتها وما قدمته من جديد، أبسط ما قيل عنها أنها تقرّب المسافات بين البشر وتسهل لهم عملية التعرف على كل ما يشاؤون أن يعرفوا وأن يختبروا وبسرعة قياسية لم تعرفها أجيال ما قبل الإنترنت.

ولعل أكثر ما يُدرك خصوصية هذه المقارنة بين ما جاء قبل الإنترنت وما جاء بعدها هم المخضرمون، أي مواليد نهاية الستينات وأوائل السبعينات، هذا على الأقل في العالم العربي بعد أن وصلت إليه هذه التكنولوجيا الثورية التي بدلت وما برحت تبدل وجه العالم ونظرته إلى كل ما حوله ويبعد عنه جغرافيا الملايين من الكيلومترات.

وبلغت شبكات التواصل الاجتماعي قوة هائلة يعتمد عليها المليارات من الناس للتعارف والتواصل والتناحر، هي الأخرى أصبحت محطة دراسات وإحصائيات لناحية تأثيرها على كل المرافق الحياتية.

لكن هذه الشبكة البالغة الدهاء ليست “بفاعلة خير” مجاني، أما أثرها الخطير فانعكس في تبديلها لهيكلية الحياة الاجتماعية ونوعية التفكير والتبادل بين الأفراد، وكذلك الترويج لشخصيات بديلة عن الحقيقية وصناعة حقائق متناقضة بسرعة مهولة ولا يمكن دحضها أو تبنيها أو تجريمها بسهولة، نتيجة لذلك تخلق عالما موازيا لها لضبط مستخدميها بقوانين تبيح وتحاسب وتمنع وتدين.

لكن إن تروينا في النظر إلى ما يحدث فعلا، فإننا سنجد أن نتيجة الاتكال المُتعاظم على شبكات الإنترنت، وخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي هي ليس التقارب والتواصل بقدر ما هي الضريبة الباهظة التي بات البشر “المستفيدون” منها يدفعونها وهي المزيد، والمزيد من العزلة والإحساس بالغربة.

ليس المقصود بالعزلة تلك التي نشأت عن اللجوء إلى الافتراضي بدلا عن الاتصال المباشر للبشر مع بعضهم البعض، المقصود بهذه العزلة هي تلك التي أفرزها الفيض المنقطع النظير للمعلومات المتدفقة ديجيتاليا، والتي يستحيل ضبط إيقاعها، والتي تشتت الذهن البشري دافعة إياه إلى الأخذ بمظاهر الأمور وبعناوين المواضيع.

نتيجة لذلك تعادل المهم بالتافه، والخرافي بالصادق، ولأجل ذلك أمسى البشر منعزلين عن بعضهم البعض في حروبهم الشخصية جدا، أصبحوا  في لهاث متواصل ضد الغرق في العدم وفي محاولة للظهور بصراخ قليلا ما يُسمع على سطح هذا البحر الهائج والغاص بشتى المكونات، صراخ اكتسب معنى الخوف من العدم، صراخ وجودي يرتدي ثياب مهرج رث.

ارتفعت أسهم “النجومية”، إذ الكل يريد أن يكون نجما، مهما كان الثمن لكي يسطع ويبهت ضوء الآخرين ويكمّ كلماتهم المُتصاعدة كاستغاثة، وكثيرا ما كان طريق النجومية معبدا بالكذب وانتحال الشخصيات الافتراضية السائرة جنبا إلى جنب مع الواقع أو متخطية له.

لأجل ذلك عمد الكثير من الفنانين إلى أن يكونوا صادمين في أعمالهم الفنية لكي يجدوا من يستمع إلى خطابهم وسط الضوضاء، من النحت بالدم المتخثر، إلى عرض الجثث واستباحة الحميميات والمقدسات بأجر أو لنقل بأوقح الطرق الممكنة، ولأجل ذلك باتت صرْعات الموضة في الملبس والمشرب والمأكل والمسكن و”التحديات” التافهة على شبكات التواصل الاجتماعي تتسابق لكي تشد الانتباه إلى أصحابها مُعلنة تميزها الضاحك/ المنتصر على هول احتمال الشبه، أو المماثلة.

لكن ثمة فنانون لم يسقطوا في فخ الضجيج المُعتم على الحقائق الإنسانية/ الدرامية الكبرى، ولعل أهمهم الفنان إدوارد مونش بلوحته التي تحمل عنوان “الصرخة”، من يتمعن فيها سيدرك أن صرخته تلك هي الصرخة الوجودية الحادة التي لا يُسمع لها صوت، كما في أعنف بعض الكوابيس الليلية، وهناك صرخة أخرى من عالمنا العربي رسمها الفنان خالد الحجار مستوحاة من صرخة  الفنان مونش، هي لوحة لتشنج الصوت غير المسموع في الحلق.. لا يسمعه أحد ولكنه يُرى.

17