لم يكن ينقص الأردن أسباب أخرى للتوتر

من الطبيعي أن يُنظر دائما للمملكة الأردنية الهاشمية باعتبارها بلدا ذا أهمية استراتيجية في المشرق العربي. ولا يختلف اثنان في أن لأزمات الأردن الراهنة أسبابا متداخلة ومعقدة؛ وليست مشكلة العشائر إلا إحدى وسائل التعبير عن المأزق العام. ويكمن العجز الاقتصادي في قلب منظومة المشكلات، وهو أمر لا يعالج بالمشروعات السياسية التي لا تساندها وقائع اقتصادية. فأزمة الأردن لا تزال تتفاعل وتلاحقها عبثا الصيغ والاتصالات التي تتخذ الشكل الاجتماعي، لكن العطش إلى الرفاه الذي مضى زمنه عندما كان الاقتصاد الأردني يتغذى على كوارث في البلدان المجاورة، لا يجد وسيلة لإطفاء الظمأ بعد أن استفحل التعارض بين السياسات في دول الإقليم.
عناوين الصيغ التي تتوسّل الحل، تعكس في مفرداتها جوهر المأزق وطبيعته. فقد وجه العاهل الأردني الملك عبدالله بن الحسين، ما سمّاه “رسالة إصلاح يلمسها المواطن”، بمعنى أن التعافي الاقتصادي هو الطريق الوحيد لتصفير الأزمة، أي عندما يتحقق التعافي يتراجع جموح القبائل التي سوف يسترضيها الرخاء. لكن هذه فرضية لا تزال منقوصة جدا.
كان الأخطر في ما حدث، هو التحرّك العشائري الذي كاد يرمي الدولة في سفح جبل العشائر على أن يتفرّع محتلو رأس الجبل، إلى هويات فرعية
القوى الاجتماعية الناشطة في رحى الأزمة الأردنية تركز في النقد على الحكومات المتتالية، وهذا الذي يتيح لملك البلاد هامشا واسعا للمبادرة، على فرضية أن الرجل معنيّ جدا بازدهار اقتصاد بلاده، وأن من يعطل مثل هذا الازدهار، من الإقليم ومن الداخل، يستهدفه شخصيا. إن هذا أمر جيّد، لكن للملك من الصلاحيات ما يستطيع بها تغطية العجز في عمل الحكومات، لاسيما وأن هذه الأخيرة تواجه كُتلا صلبة من البُنى الاجتماعية والاقتصادية، لاسيما في فترة من تاريخ الإقليم، فقد أصبح فيها لكل كيان اقتصادي خاص علاقاته العابرة للحدود ومصالحه وشركاؤه. لكن السؤال الأهم، الذي لا يتزحزح، هو: أين منفعة المواطن من كل ما يجري، خصاما وودادا، في أوساط النخب الأردنية؟
في محاولته الراهنة التعرّف على طريق مُعبّد يوصل إلى حلول؛ التقى الملك مع نخبة مختارة ممن اشتغلوا في العمل العام وزاريا أو نقابيا أو إعلاميا، وأبلغهم بأنه عازم على إطلاق عملية إصلاحية في الاقتصاد وفي السياسة على مستوى التشريعات. وبدا أن العاهل الأردني يضع إصبعه على الجرح، مدركا بأن التشريعات عند إصلاحها، هي شرط النجاح في عملية التغيير الاقتصادي. فهو يحكم في بلد مستقل، وبالتالي فإن الأزمات وراءه والناس أمامه، وليس الأمر كما في تجربة محمود عباس التي أتاحت له رمي الناس دونما اكتراث، لكي يجوعوا أو يموتوا من ندرة الطبابة أو يشقوا من العوز. فلعباس عوامل مساعدة، أمنية ضمن النطاق الاستراتيجي الإسرائيلي، واقتصادية من خلال انفتاح الضفة على سوق العمل الإسرائيلية أيضا، وغزة بعيدة عنه، وهو في مأمن من حراكها الشعبي. لكن الوضع في الأردن يختلف، والأمور لا تحتمل الاستنكاف عن المحاولة.
الملك يقول بنفسه إن الشعارات ليست إصلاحا، وإن المطلوب برامج عمل مرتبطة بسقف زمني لتحقيق نتائج يلمسها المواطن. وبالطبع، يريد أن يكون المواطن طرفا في الحوار المنتج وصولا إلى الإصلاح، علما وأن المواطن قال كل ما عنده، وعُرفت أسباب المأزق، والحكومات حاولت.

مجلس عشائر العجارمة ظل يستقبل الوفود المساندة لابنهم النائب أسامة العجارمة بل إن محاولة جرت لاسترضائه في حال اعتذاره
هنا، يمكن لمؤسسات الدولة والمجتمع المدني أن تدير نقاشا مع النخب الاجتماعية، لكن خلاصات ومآلات هذا النقاش تظل في علم الغيب، ما لم توجد الآليات التي تسمح بتطبيق خطط التعافي. وكان اللافت، أن ما يتوافر من المقاربات المنطقية، لفحوى ما تريده النُخب الاجتماعية، بدا موصولا بالسياسة، وبخيار العلاقة مع الولايات المتحدة بشكل أساس. وهذا الذي يفسّر انتقال موسى المعايطة وزير التنمية السياسية الأردني، من مسار الحوار مع النُخب في الحكومة إلى مجموعة حوارات على البساط الأحمدي، مع مسؤولين نافذين في الإدارة الأميركية. وورد في الأصداء الأردنية لتك الحوارات، استغراب الشعب الأردني كون العنوان الذي استخدمه الوزير هو “الدولة المدنية” علما وأن الأمر يتعلق بالمجتمع المدني، أي عامة الناس. فالأردن دولة مستقرة موضوعيا وذات حكم مدني أساسا، ولهذا الحكم مؤسساته الدستورية وليست المشكلة إلا اقتصادية، تنعكس اجتماعيا وسياسيا.
كان الأخطر في ما حدث، هو التحرّك العشائري الذي كاد يرمي الدولة في سفح جبل العشائر على أن يتفرّع محتلو رأس الجبل، إلى هويات فرعية. فمثل هذا التحدي واجهه الملك المؤسس عبدالله في بدايات تأسيس الإمارة بتحريض بريطاني. فقد كان الإنجليز كلما أرادوا تذكير “الأمير” بأنهم حماته وذوو الفضل عليه، يحرّضون قبيلة لكي تهجم مثلما حدث في العام 1923 عندما انتفضت “العدوان” بزعامة شيخها سلطان ضد الملك عبدالله، ولما اقتربت من قصره، أرسلت طائراتها البدائية لترويع الثائرين وردّهم بعد أن حرضتهم لكي تجبره على التخلي عن أصدقائه قوميي سوريا وفلسطين، وقد اضطر الشيخ سلطان العدوان إلى الهرب والالتحاق بالدروز في سوريا الذين كانوا ضد الفرنسيين وعلى وداد مع الإنجليز.
بعد أن خرج العاهل الأردني من مشكلة “الفتنة” كما سُمّيت بعد احتوائها، ظهرت مشكلات أخرى وتتابعت، وآخرها كانت مسألة النائب أسامة العجارمة. فقد اعتبر هذا النائب متعدّيا لفظيا على البرلمان وعلى نظامه الداخلي بكلمة نابية، ما أدى إلى غضب النواب، ودفع رئيس المجلس عبدالمنعم العودات إلى إحالته إلى اللجنة القانونية لاتخاذ ما يقتضيه النظام بحقه، منعا لتطاول آخرين على هيبة البرلمان. وعندما تقرر تجميد عضويته لمدة سنة؛ لم يكن صعبا عليه أن يقف خطيبا في أقرب حشد عشائري متاح، متمنطقا بسيف ومسدس، في ناعور جنوب العاصمة. وسرعان ما انتقلت مسألة اللفظ الخارج إلى سياق الأمر المسكوت عنه، وهو علاقة مشكلات الأردن فوق أسبابها الداخلية، بالوضع السياسي في الإقليم، لاسيما بالعربدة الإسرائيلية التي لا تلقى ردودا تزيد عن قدرة العواصم العربية الراغبة في الرد.
تعمّد الرجل في خطابه المزج بين عوار الخدمات في البلاد، وضعف الموقف الرسمي في مواجهة القصف الإسرائيلي لغزة. والمشكلة هنا أن إسرائيل في علاقتها مع الأردن خاصة، لا تحترم إرثا أردنيا في مساعدتها على تأسيس دولتها، ولا تراعي محاولات العاهل الراحل الملك الحسين، منع الحروب التي اندلعت قبل اندلاعها واستمرار تواصله مع قادة إسرائيل، ولا تراعي أن الأردن أبرم اتفاقية وادي عربة، ولا أن المكون الفلسطيني في الأردن، بل والمكون العشائري، سيحرج الدولة في حال الانفلات الإسرائيلي إلى أعتى أنواع القصف الإجرامي. فإسرائيل لا ترى إلا نفسها ولا تهتم بغير غرائزها.
في محاولته الراهنة التعرّف على طريق مُعبّد يوصل إلى حلول؛ التقى الملك مع نخبة مختارة ممن اشتغلوا في العمل العام وزاريا أو نقابيا أو إعلاميا، وأبلغهم بأنه عازم على إطلاق عملية إصلاحية
وبالنتيجة أصبح طبيعيا أن يؤخذ استمرار العلاقة الرسمية مع إسرائيل سببا للتوتر في الأردن. فقد كان صدى ما يحدث في فلسطين سببا مباشرا لمشكلة النائب أسامة العجارمة. لقد دخل الرجل في نقاش عنيف داخل البرلمان، وقال إن الكهرباء تعطّلت في المملكة لإعاقة الزحف العشائري ضد إسرائيل، وأشار إلى أن الدوريات الأمنية كانت تحرّر مخالفات بحق كل مواطن من العشائر يرفع علم فلسطين، وعندما حمي وطيس النقاش، قال “طُز في مجلس النواب” ما دعا إلى إحالته إلى اللجنة القانونية!
كان لافتا ومؤشرا مقلقا للدولة، أن مجلس عشائر العجارمة ظل يستقبل الوفود المساندة لابنهم النائب بل إن محاولة جرت لاسترضائه في حال اعتذاره، بانتخابه رئيسا للبرلمان. هنا، وبقطع النظر عن الصواب أو الخطأ في موقف العجارمة؛ يمكن أن يؤخذ الحدث نفسه كوسيلة إيضاحية، لما تتسبب فيه إسرائيل بسلوكها العدواني من أذى للكيانات السياسية التي اختارت التسوية معها وكانت تطمح إلى علاقات وطيدة، تؤسس لعملية تسوية شاملة.