لمن الأولوية في إصلاحات تونس: رواتب الموظفين أم تحسين أوضاع الفئات الفقيرة

الآن، البحر وراءكم وصندوق النقد أمامكم، وقد أحرقتم كل المراكب التي صنعتها دولة الاستقلال.. فما الحل.
الجمعة 2022/06/24
المرحلة القادمة ستكون مرحلة ليّ أذرع خاصة بين الدولة والاتحاد

الجميع في تونس بات مقتنعا بأن الإصلاحات الاقتصادية ضرورية. حتى الذين يشيطنون الصناديق المالية الدولية من بقايا مثقفي اليسار وكراساته القديمة عن الإمبريالية يريدون إصلاحات عاجلة.

السبب أن البلاد في وضع لم يعد يحتمل أيّ تغيير خاصة بعد أن مرت عليها عشر سنوات من ثورة لا تتقن غير الشعارات السياسية، وتهمل الملفات الاقتصادية والاجتماعية، وتستهدف رجال الأعمال والمال، وكان مناها أن ترهنهم بمصالحة تأخذ بمقتضاها منهم أموالهم وتنفقها لإدامة مرحلة الشعارات والأحلام الثورية.

الآن، البحر وراءكم وصندوق النقد أمامكم، وقد أحرقتم كل المراكب التي صنعتها دولة الاستقلال.. فما الحل.

اتحاد الشغل الذي ما يزال يدافع عن فكرة الدولة الحاضنة، تلك التي توفر كل شيء للموظف، ومع ذلك هو يكرهها ويسبها صباح مساء، بات يقبل بالإصلاحات “الإمبريالية”، لكنه يضع لها شروطا من بينها أن توظف الحكومة الأموال التي ستحصل عليها من صندوق النقد أو البنك الدولي في زيادة الرواتب وتحسين ظروف الموظفين الذين ينتسبون إليه وعددهم حوالي سبعمائة ألف موظف، ويرفض فكرة رفع الدعم التدريجي أو الكلي لأنه لا يستفيد منها بشكل أو بآخر وليس لأنه يدافع عن محدودي الدخل والفئات الضعيفة، وإلا لكان راعى ظروفهم وحقهم في الحصول على اهتمام الدولة بحصر جهدها في إرضائه وشراء وده.

أيهما أولى بالإصلاحات الفئات الفقيرة التي ينتظر أن تتسع خارطتها برفع الدعم عن المواد الأساسية أم مساعي الاتحاد لتحصيل مكاسب إضافية لموظفي القطاع الحكومي الذين هم في وضع مريح ويمتلكون الكثير من الضمانات

ويزيد على ذلك شرطا آخر، عدم بيع المؤسسات الحكومية للخواص، وأن تنفق الحكومة من الأموال الجديدة الملايين لتسوية الديون والحفاظ على الجيوش الجرارة من موظفين لا شغل لهم ولا مشغلة، مع أن هذه المؤسسات تجبي الكثير من الأموال من الضرائب، وتحصّل عائدات كبيرة من الناس خاصة في شركات النقل، ولا أحد يجرؤ على مساءلتها أين ذهبت تلك الأموال، وكيف صُرفت، لأن الاتحاد سيتدخل ويقول إن الحكومة تريد أن تبيع مؤسسات القطاع العام وهي تنفذ أجندة صندوق النقد، وغيرها من الاتهامات الجاهزة، التي جعلت حكومات ما بعد الثورة تتجنب فتح هذه الملفات.

وبالنتيجة، الاتحاد لم يعد يمانع في “إصلاحات” تأتي بالأموال، وتنفق على زيادة الرواتب، وتحافظ له على مواقع نفوذه في الدولة، وهناك قصص واتهامات كثيرة عن تشغيل أبناء النقابيين وأقاربهم في مواقع متقدمة بالمؤسسات التي طالها الخراب.

والحقيقة أن اتحاد الشغل قد أسدى خدمة كبيرة للحكومة من خلال الإضراب العام الأخير، فقد كشف لعامة الناس، وللسياسيين الذي يرون أن “استهداف الاتحاد خط أحمر”، وللجهات الدولية التي تسمع منهم كلاما فضفاضا عن دعم الإصلاحات، أن المنظمة النقابية لا تفكر سوى في نفسها وحساباتها وعائدات انخراط أعضائها، فكلما زادت الرواتب زادت الأموال المقتطعة لفائدة الاتحاد، وانتفخت ميزانيته، وتوسعت فرص الصرف واجتماعات فنادق خمس نجوم.

في مقابل هذا التصور الذي يريد المحافظة على الوضع القائم وتدعيمه، تأتي مقاربة الحكومة ومن ورائها الرئيس قيس سعيد، وهي أقرب إلى مقاربة صندوق النقد الدولي، وتقوم على أن الهدف من الإصلاحات هو التوفير، وليس المزيد من الإنفاق على القطاعات الحكومية، وأن هناك فرصة كي تلتفت الحكومة إلى دوائر أخرى.

الحاجة الآن ملحة إلى توفير أموال القروض التي ستدفع من صندوق النقد الدولي، ليس لدفع الرواتب كما جرت العادة منذ 2011، ولكن لتحريك الاستثمار، وإصلاح المؤسسات، وتدعيم فرص تشغيل الشباب العاطل عن العمل، والذي تتسع نسبته عاما بعد آخر بسبب أن الدولة الضعيفة كان همها الوحيد إرضاء الاتحاد وتجنب الإضرابات والاعتصامات.

وهذا ما يريده صندوق النقد الدولي، ويريده قيس سعيد أيضا الذي سيضع أولوية بالنسبة إليه ألاّ تكون تلك الإصلاحات القاسية على حساب الفئات الضعيفة، خاصة أن رفع الدعم عن المواد الأساسية يثير مخاوف جدية لدى المواطنين، ولدى الخبراء ولدى صندوق النقد نفسه، وليس فقط هو ورقة ابتزاز سياسي من المعارضة.

هل تقدر الحكومة أن تخرج من وضع الطرف الذي يستحيي أن يرفع صوته إلى جهة قوية تقول للناس "هذا البعد الاجتماعي الذي أقصده، والذي أعمل عليه، وهذا ما يريده الاتحاد"

أغلب التجارب التي تم فيها رفع الدعم عن المواد الحياتية لم تكن ناجحة ولم تراع تماما دقة أوضاع الفئات المتضررة بدرجة أكبر، لأن الهدف كان إرضاء صندوق النقد واستعجال الحصول على قروضه، وليس تنفيذ إصلاحات بشكل دقيق. ولا شك أن قيس سعيد، الذي حمل من البداية برنامجها بعمق اجتماعي ومنحاز للفئات الضعيفة والمهمشة، سيحرص على تنفيذ رفع الدعم مع مراعاة انعكاسه الاجتماعي، وسيعطي الأولوية لتعويض الناس المتضررين، وحصر قوائم واضحة ودقيقة للحفاظ على مصداقيته، وصورته لدى تلك الفئات التي ترى فيه منقذا وبطلا قادرا على مواجهة الفساد والفاسدين وانعدام العدالة بين الفئات.

الطريق شائك ومعقد ولا يمكن بأيّ حال استسهاله، لكنه ضروري لإخراج البلاد من أزمته العميقة، ولهذا فإن معركة توظيف أموال صندوق النقد ومساعدات المانحين ستكون معركة مفصلية بالنسبة إلى قيس سعيد، لخوض معركة الإصلاحات الكبرى اللازمة والتي لا مفر منها، وفي نفس الوقت الحفاظ على مقاربة اجتماعية تحافظ على التوازن الاجتماعي.

وخلال استقباله  الثلاثاء مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي جهاد أزعور، دعا قيس سعيد صندوق النقد الدولي إلى الأخذ في الاعتبار العواقب الاجتماعية على الشعب التونسي للإصلاحات التي يطالب بتنفيذها.

وشدد قيس سعيد، وفق بيان صادر عن مؤسسة الرئاسة، على “الحرص على الجوانب الاجتماعية إلى جانب القضايا الاقتصادية والنقدية خاصة بعد عقود الفساد التي مرّت بها تونس، فضلا عن الظروف الدولية والتقلبات المتسارعة في الأعوام الأخيرة”.

ونجح الرئيس سعيد في توجيه رسالة إيجابية إلى صندوق النقد الذي عاد ليؤكد بعد يوم من اللقاء بأنه “يرحب ببرنامج الإصلاحات الاقتصادية الذي أعلنته الحكومة التونسية”، و”أنه جاهز لبدء مفاوضات مع تونس في الأسابيع المقبلة حول برنامج قرض”.

ومن الواضح أن مساعي “تطفيش” صندوق النقد الدولي قد فشلت سواء تلك التي قام بها الاتحاد من خلال إعلان معارضته العلنية لـ”الإصلاحات المشروطة”، أو من خلال الإضراب العام الذي هدف لتأكيد أن البلاد ليست مستقرة، وأن الوضع فيها لا يسمح بأيّ نقاشات بشأن تنفيذ تلك الإصلاحات، أو تلك التي قامت بها المعارضة للإيحاء بأن الوضع السياسي غير ملائم لتوقيع اتفاق بهذا الحجم.

وبالنتيجة، فإن المرحلة القادمة ستكون مرحلة ليّ أذرع خاصة بين الدولة والاتحاد، الذي سيحرص على أن يستمر في تنفيذ موجة الإضرابات الموجعة ويطلق أيدي النقابات القطاعية في تنفيذ إضرابات واعتصامات عشوائية. وأيّا كانت الأدوات التي ستعتمدها الدولة في معركة لي الأذرع هذه، فإن المهم هو أن تظل تحت عنوان المقاربة الاجتماعية للصراع حتى تحافظ على دعم وتفهم الفئات الفقيرة التي ينحاز إليها الرئيس سعيد.

ومن المهم ألا تستمر الحكومة في إدارة مثل هذه المعارك بالصمت أو الترفع عن الجدل، فهي المعارك التي تصنع الرأي العام، وتحوّله من هذه الضفة إلى تلك خاصة في موضوع حساس مثل البعد الاجتماعي، وضرورة أن توصل الحكومة إلى الناس فكرتها وتقارنها بفكرة الاتحاد الذي يمتلك ماكينة إعلامية وسياسية وأيديولوجية تشتغل لفائدته حتى دون طلب منه، وتشكلت هذه الماكينة في السنوات العشر الأخيرة من خلال لعبة تسييس المنظمة ودعم انخراطها في المعارك لإسقاط الحكومات.

هل تقدر الحكومة أن تخرج من وضع الطرف الذي يستحيي أن يرفع صوته إلى جهة قوية تقول للناس “هذا البعد الاجتماعي الذي أقصده، والذي أعمل عليه، وهذا ما يريده الاتحاد”. وحين يكون الخطاب الحكومي هادئا وواضحا وسلسا سيكسب تعاطف الناس، فأيهما أولى بالإصلاحات وعائداتها الاجتماعية، الفئات الفقيرة التي ينتظر أن تتسع خارطتها برفع الدعم عن المواد الأساسية أم مساعي الاتحاد لتحصيل مكاسب إضافية لموظفي القطاع الحكومي الذين هم حاليا في وضع مريح قياسا بغيرهم، فهم الأكثر استقرارا، ويحصلون على أفضل الرواتب في تونس، مع أن إنتاج هذا القطاع ضعيف بسبب سيطرة البيروقراطية وثقافة التواكل وغياب الرقابة.

9