لماذا يفرح المثقفون التونسيون بإقالة وزيرة الثقافة؟

أثار خبر إقالة رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيد لوزيرة الثقافة التونسية حياة قطاط القرمازي، حسب بيان للرئاسة التونسية مساء الثلاثاء، ترحيبا كبيرا في صفوف المثقفين والمبدعين والمهتمين بالشأن الثقافي، ترحيبا وصل ببعضهم إلى التعبير عن بهجته بالإقالة على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي.
أسباب ردات الفعل المرحبة ترجع بالأساس إلى مردود الوزيرة “الضعيف”، وما قدمته لمؤسسة وزارة الثقافة والمثقفين والمبدعين طيلة عهد ترؤسها للمرفق الذي يشرف على الحياة الثقافية في تونس، خاصة وأنها دخلت في صراعات جانبية مع موظفيها وحتى مع المثقفين والنقابات شوشت على العمل الثقافي وأدخلت الوزارة في ضبابية مريبة.
يواجه القطاع الثقافي في تونس أزمات كبرى، تتعلق في أغلبها بالتمويل وإدارة المرافق والمؤسسات الثقافية وطرح مشروع ثقافي يوازي مكانة البلاد التونسية وحضارتها وزخمها الثقافي والفني والإبداعي والتاريخي، وفي وقت انتظر فيه الفاعلون الثقافيون التونسيون مشاريع تواكب تطلعاتهم، دخلت وزارة الثقافة في ارتجالات أدت إلى تعطيل الحركة الثقافية، لعل أبرزها إلغاء دورات من تظاهرات ثقافية كبرى، مثل أيام قرطاج السينمائية، ومؤخرا إلغاء معرض تونس الدولي للكتاب قبل أن تتدخل مؤسسة رئاسة الجمهورية لتعيد المعرض إلى موعده المحدد.
وزارة الثقافة التونسية تحتاج إلى تغيير جذري في طرق ووسائل عملها، تغيير قد لا يعجب الكثير من المثقفين
الارتجالات طالت حتى المؤسسات الثقافية التي بقيت عاجزة عن الفعل والعمل، مثل مراكز الفنون الدرامية والركحية، التي تواجه شللا في تسيير شؤونها المالية، وبالتالي تعطلت مشاريعها، وهذا دون حديث عن دور الثقافة التي خصصنا لها مقالات سابقة عن جمودها وتراجعها وما تواجهه من تحديات خطيرة، علاوة على المتاحف والمكتبات وغيرها من مؤسسات لا يقل حالها سوءا عن غيرها.
التحديات كبيرة على عاتق وزارة الثقافة التونسية اليوم، لعل أهمها على الإطلاق هو التمويل في بلد يواجه أزمة اقتصادية خانقة، لكن الأخطر من ذلك بكثير هو رؤية السلطة للثقافة والفعل الثقافي على أساس أنهما ترفيه وكماليات فحسب. لا وجود لتمش يرى الثقافة قوة ناعمة أو مجالا قادرا على تحقيق التنمية المستدامة.
السؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل سيتحسن وضع الثقافة التونسية برحيل الوزيرة وفريقها؟
الوزراء الذين ترأسوا وزارة الثقافة التونسية كثيرون ما بعد الثورة التونسية سنة 2011، يكاد لا يذكرهم أحد اليوم، تنوعوا من مختلف المشارب الأكاديمية والفنية والسياسية، ولكن أي أثر لهم في المسار الثقافي التونسي؟ ماذا قدموا من إنجازات أو إصلاحات على الأقل؟ سؤالان تبدو الإجابة عنهما واضحة في حالات التردي التي وصل إليها قطاع الثقافة.
تعاقب الوزراء والمسيرون والحال واحد، ارتجالات، ضبابية، مشهد ثقافي لم يتغير، وبالتالي خفوت التأثير الثقافي التونسي على المستوى العربي والعالمي.
قد يقول قائل إنه ليس لوزارة الثقافة عصا سحرية لتقلب المشهد المضطرب إلى بيئة منتجة. ويقول آخر إن إرضاء المثقفين غاية يستحيل إدراكها. ويقول آخر في تساؤل إنكاري ماذا يمكن أن تفعل الوزارة في ظل شح الموارد المالية؟ وهي آراء صائبة. لكن وُجد التسيير السياسي للساحة الثقافية للاستشراف والفعل مهما كانت الإمكانيات والظروف. والأفكار هي التي تصنع الفارق.
كان يمكن لوزارة الثقافة التونسية أن تستغل إمكانياتها البشرية والمادية والمؤسساتية لبعث حركة ثقافية حقيقية، تراهن على تثمين الموجود وتسعى إلى التأسيس للمستقبل. قد يبدو هذا كلاما فضفاضا لبعض المتشائمين، لكن الإدارة الجيدة والتركيز بشكل جدي والعمل والجهد والأفكار المستشرفة ومحاولة الإصلاح من جهة والتغيير الجذري من ناحية أخرى قد تكون تمشيا ناجعا. يجب تغيير العقلية التي نتعامل بها مع الثقافة.
ليس من واجب وزارة الثقافة إرضاء جميع أهواء المبدعين والمثقفين، ولا هي مجرد صندوق دعم يذر الملاليم على الفنانين، الذين لم يجدوا أمامهم صناعة ثقافية وفنية حقيقية تجنبهم طوابير انتظار الدعم. واجب الوزارة أن تخلق الحركية، أن تشبّك عملها مع وزارات أخرى مثل التربية والخارجية والسياحة وحتى الزراعة (وبين الزراعة والثقافة مجالات واسعة للعمل) وغيرها لغرس الفعل الثقافي في مختلف مفاصل الدولة وثنايا المجتمع.
العمل يجب أن يكون على نشر الفعل الثقافي وفق ضوابط وقوانين تراعي الجودة وحرية الإبداع وتراهن على تأثير الفعل الثقافي الحضاري. العمل يجب أن يكون وفق تمشيات واضحة وقوية نحو مشروع شامل، أساسه الإصلاح والتغيير، لا الارتجال والدعاية والتشفي والانفعالات.
حجة قلة التمويل واهية للغاية، فما تنفقه وزارة الثقافة أجورا لموظفيها أكبر مما توجهه إلى عملها في دعم الحراك الثقافي. الإشكال في حسن الحوكمة إذن.
ولنتساءل هل يمكن لوزارة الثقافة التونسية بما هي عليه اليوم، أيا كان الوزير الجديد، أن تحقق تطلعات التونسيين؟
ربما نجيب بـ”لا” واضحة، لأن طرق العمل التي أفرزت هذا الجمود والتراجع الثقافي الخطير، ستؤدي إلى نفس النتيجة مهما كان الفريق الذي سيسيّر الوزارة.
وزارة الثقافة التونسية تحتاج إلى تغيير جذري في طرق ووسائل عملها، تغيير قد لا يعجب الكثير من المبدعين والمثقفين الذين اعتادوا على تكيّة الدعم، قد لا يعجب موظفي الوزارة وبيروقراطييها، ولكنه ضرورة ملحة اليوم. تحتاج الوزارة إلى تفعيل مؤسساتها في جانبيها المادي (منشآت وفرق عمل وميزانيات وغيرها) واللامادي من أفكار وتوجهات، وليكن شعارها نشر الثقافة التونسية واستعادة إشعاعها الذي ما انفك يخفت.