لماذا يعجز المثقفون عن تسيير الثقافة والشأن العام

مكان المثقفين ليس فقط مدرجات الجامعات ومساحات الفن والإبداع.
الجمعة 2023/08/04
المثقف يمكنه التسيير (لوحة للفنان بسيم الريس)

انخراط المثقفين والمبدعين في السياسة والتسيير ليس أمرا جديدا، وخاصة من باب الأيديولوجيا أو من باب النقد والتصويب وحتى من باب الحكم، لكن التجارب متباينة، إذ يفشل الكثير منهم بينما ينجح آخرون، وهذا ما خلق شبه حكم مشترك مسبقا بحتمية فشل المثقف والمبدع في التسيير.

هل يعجز المثقف فعلا عن تسيير المؤسسات الثقافية وأروقة الدوائر التابعة لها، وحتى في تولي الوزارة نفسها ضمن مخطط دولة بكامل مشاريعها وسياساتها وتوجهاتها؟

هذا ما يشيعه البعض ويحاول ترويجه حول الفشل الحتمي للمبدع والمثقف حين يدخل دهاليز وممرات العمل الإداري، وذلك انطلاقا من فكرة شبه جاهزة مفادها أن المثقف لا يتقن بالضرورة، الليونة ولا يمتلك ملكة الصبر ولا القدرة على المراوغة والتلون.

يتحدث أنصار هذا الرأي بقناعة راسخة، ويذهبون نحو خيار يتمثل في أن المكان الطبيعي للمثقف هو في مدرجات الجامعة إن كان أكاديميا، وخلف الأوراق إن كان كاتبا أو في مرسمه إن كان فنانا.

ويتناسى هؤلاء أن تاريخ المثقف وعلاقته مع المناصب الحكومية قديم قدم التاريخ، ويمتد منذ شهوة الفيلسوف في قيادة الدولة والمجتمع والحلم بتنفيذ أفكاره لدى قدماء الإغريق، لكن خللا ما يحدث غالبا. لعله استحالة التطبيق فوق أرض الواقع الموضوعي، وتلك العصي التي توضع دائما في عجلات عربة المثقف.

هذا إذا افترضنا مسبقا أن المثقف كائن بريء يقود معركته النضالية سلميا ويحاول تبليغ رسالته المدنية بمنتهى المثالية والتفاني ضمن إدراك واع بمسؤولية الفرد تجاه المجموعة كأعلى وأرقى حالات النبل الإنساني.

المثقف في الحكم

نموذج الفنان والمثقف والأكاديمي إذا انخرط في العمل الإداري بمفهومه التسييري والقيادي المسؤول – وليس الوظيفي العادي – يتحول بالضرورة إلى رجل يبحث عن السلطة
◙ المثقف إذا انخرط في العمل الإداري يتحول إلى رجل يبحث عن السلطة  

الحقيقة أن الأمر ليس كذلك دائما، فنموذج الفنان والمثقف والأكاديمي إذا انخرط في العمل الإداري بمفهومه التسييري والقيادي المسؤول – وليس الوظيفي العادي – يتحول بالضرورة إلى رجل يبحث عن السلطة. ومجرد السعي نحو أي سلطة يجعل صاحبه غير بريء، ويفقده المثالية التي كان يدّعيها، مهما كانت نواياه.

المسألة طبعا، ليست بهذه البساطة، وإطلاق الأحكام الحاسمة والسريعة حول وضعية المبدع والمثقف في دائرة الضوء وفي أروقة الحكم والتسيير واتخاذ القرارات التي ليست بمعزل عن السياسة وما يمكن أن تتضمنه من دسائس ومؤامرات.

هو موضوع شائك تحدث فيه فلاسفة ومفكرون وما يزال محل جدل في العالم بأسره، بما في ذلك البلدان الأوروبية ذات الجذور العميقة في هذا الشأن المتعلق بمدى قرب أو ابتعاد المثقف من سلطة الدولة.. وليس الحكم طبعا، لأن الأمر يخص البلدان الديمقراطية وحدها.

وفي فرنسا مثلا، تتوزع مشاغل المثقفين ما بين من يريدون أن يبعثوا نموذج سارتر المثقف الكوني، الموسوعي، وبين نموذج ميشال فوكو الذي نادى عقب انتفاضة الشباب في عام 1968 بالمثقف المختص، وبين الذين يدعون إلى المثقف الجماعي، أي من يرتبط بشبكة، ويسعى لأن يؤثر من خلال بيانات ونداءات موقعة من قِبل ثلة مشهودة ومؤثرة.

ومع مجيء إيمانويل ماكرون إلى الحكم، في ظل تراجع وغياب الأحزاب، يسعى المثقفون لسد الفراغ ولعب دور التوازن في ثنائية السلطة والمعارضة، ويعتبر الكثيرون في فرنسا الظرفية الحالية سانحة لانبعاث المثقف ودوره النقدي.

أما في العالم العربي، فهناك نماذج نجحت في أزمنة وأمكنة بعينها حول قيام المثقف بأعباء ومسؤوليات إدارية، لكن غالبيتها باءت بالفشل، وخصوصا في البلدان التي كانت تمجد ما يعرف بالمد الثوري والصمود والتصدي كالجزائر وسوريا والعراق، ومصر أيام الحقبة الناصرية التي نستثني منها طه حسين حين شغل وزارة المعارف وطرح تحفظات كثيرة.

تجارب فاشلة

◙ علاقة المثقف بالسلطة التي لا تدعه في مأمن
◙ علاقة المثقف بالسلطة التي لا تدعه في مأمن 

الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة كان استثنائيا في تشريك المثقفين ضمن مشروع الدولة الوطنية وخطته الحداثية من خلال أسماء رائدة ومؤسسة كالشاذلي القليبي، محمود المسعدي، وحتى محمد مزالي والبشير بن سلامة، لكنه وفي المقابل نكّل بمثقفين آخرين من اليسار مطلع سبعينات القرن الماضي.

وفي مصر فإنه جاء في كتاب “المثقفون وعبدالناصر” للباحث مصطفى عبدالغني، والذي يرصد فيه شكل علاقة المثقفين بالسلطة في مصر بين عامي 1952 و1968، أنه على الرغم من أن نظام ما قبل ثورة يوليو 1952 كان يسمح بوجود مساحة للمثقفين لتولي مناصب

قيادية ووزارية، فإن هذا لم يمنع من وجود خلافات وأزمات بين المثقفين والسلطة، وصلت إلى الحد الذي تعرض فيه المثقفون للإيذاء، بداية من الليبراليين الذين دخلوا السجون، وتعرضوا للاستبعاد من عملهم الحكومي بقسوة شديدة، مرورا بمثقفين وجدوا أنفسهم في السجون لمدة غير قصيرة.

هذا على مستوى المثقف العربي سواء كان منخرطا في العمل الحكومي أو مستقلا، وعلاقته بالسلطة التي لا تدعه في مأمن أو على الأقل تتركه يمارس قناعاته في توجهاته وطرق تسييره للمؤسسة التي يديرها. أما ما يمكن لفت الانتباه إليه حول مدى قدرة وفاعلية المبدع على إدارة الشأن الثقافي وعلى رأسه تولي وزارة الإشراف، فإن نماذج وتجارب كثيرة أثبتت حصتها في عجز المبدع عن إدارة المؤسسة وإنجاح عملها.

وفي تونس، مر منذ 2011 عدد لا بأس به من أسماء مبدعين تولوا تسيير الوزارة ولم يثبتوا جدارتهم، وذلك لأسباب عديدة ومتشعبة، تدخل من بينها حتى الانحيازات والأهواء الشخصية، كأن لا يتحمس الوزير القادم من الموسيقى مثلا، للشأن التشكيلي أو المسرحي أو الروائي.

هذا بالإضافة إلى افتقاره للملكة الإدارية التي تتطلب دهاء وخبرة من نوع خاص، أضف إلى ذلك عدم تنبهه إلى أمر هام يتمثل في نوع من "اللوبي الخاص" يمثله رؤساء الأقسام والدوائر داخل أروقة الوزارة وتحكمهم في ملفات عديدة.

اقرأ أيضا:

ضعف التمويل الحكومي يلغي أعرق مهرجانات تونس الصيفية

13