للجدران نحوها الخاص ولغتها المثقلة بهموم المهمشين

الكتابة الجدارية الظاهرة التي لم تلق حظها من الدراسة.
الأحد 2024/06/02
فضاء الجدران بديل شعبي للتعبير

ما يقال في الشارع وما يكتب على الجدران ليس بمعزل عن الحركة الثقافية كما يظن البعض كما أنه من صلب اللغة ونحوها، وهذا أمر ربما يتفاجأ به الدارسون، إذ ليس النحو تلك القواعد المضبوطة التي تبقى داخل قاعات الدروس كما أن الثقافة ليست فقط تلك المنتجات الفنية والعلمية والفكرية، وهذا ما نقرؤه في دراسة مشوقة للأكاديمي والكاتب التونسي توفيق العلوي.

لقد ساد في الاعتقاد أن النحو علم ينشغل بالمسائل الإعرابية المرتبطة بالتقعيد وكل ما يخص القضايا النحوية التعليمية، ويبدو أن هذا الاعتقاد قد سيطر على أذهان المشتغلين في هذا العلم، وغدا حقيقة لا مجال لدحضها أو ردها، غير أن تمحيص النظر في حقيقة هذا العلم قد يؤجل الحكم في هذا الاعتقاد ويعيد تحريك مسلمات الفهم.

النحو ليس مجرد علم يهتم بقضايا الرفع والنصب وحالات ورود الفعل والاسم وغيرهما (النحو الخاص)، وإنما هو علم يتجاوز حدود هذا ليمسّ حياة الناس وتفاصيلهم اليومية (النحو العام). فهو منهج حياة يخوض فيه الفصيح المالك لقوانين إنشاء القول وتأويله ويستعمله العامي البسيط في التعبير عن مشاغل تسكن مكونات النفس.

مصطلح الغرافمار

بوكس

هذا الإعلاء من قيمة النحو ليس تعصبا له، وإنما هي حقيقة تجعل منه في علاقة وطيدة بالحياة، بعيدا عمّا يقال في طقوس الفصل الدراسي. حيث نعثر على النحو في لافتات الطريق وعلى بلور السيارات وفي جدران الشوارع، تعبيرا عن وجود فضاء آخر ومتكلم آخر لم تألفه ذائقة القراء.

وفق هذا الاعتبار يأتي هذا المقال للنظر في كتاب وسمه صاحبه بـ “نحْو الشوارع، في رحيل النحو إلى الشوارع” وهو لأستاذ اللسانيات بجامعة منوبة في تونس توفيق العلوي الذي حاول من خلاله تفكيك نحو الشارع من خلال الاشتغال على ضرب من العبارات والجمل المكتوبة على الجدران، وابتدع لها مصطلحا أسماه “غرافمارْ” (Graffimmaire) ، وهو مصطلح مركب من “غرافيتي” وهو ما يعرف بالرسم والكتابة على الجدران و( mmaire) اللاصقة المعبرة عن (grammaire) كناية عن علم النحو والقواعد.

جاء الكتاب المنشور عن دار محمد علي للنشر بتونس في 256 صفحة تبحر بنا في عوالم الشوارع وجدرانها التي تحكي هموم المهمشين الذين لم يجدوا من يسمعهم في اغتراب كبير بين المجتمع والسلطة، ليلجؤوا إلى حيطان صامتة تعبر عوضا عنهم بلغة تبدو في نظر الكاتب أن لها نحوا يحتاج إلى التفكيك والتمحيص.

ينطلق الكتاب من افتراض أساسي فحواه أن للكتابة على الجدران نسقا نحويا يضبطها رغم ما فيها من فوضى تركيبية، فلهذا الضرب من الكتابة نحْو لا شك في ذلك، ولكن ما يغيب عن أذهان القراء هو أن هذا النحو يحتاج إلى مناويل ومداخل للكشف عنه. فنحن أمام النحو بمفهومه العام الذي يتجاوز قراءة القضايا التعليمية إلى بناء فلسفة للنحو تتقاطع فيها مستويات التحليل، وينفتح فيها النحو وعلوم اللسان بصفة عامة على قضايا الحياة اليومية والاجتماعية.

من أجل تأصيل المسألة انطلق صاحب الكتاب من البعد التاريخي للظاهرة، حيث حفر في أصول هذه الممارسة، ليعود بنا إلى أغوار تاريخية، فظاهرة التدوين الجداري لها شرعية تاريخية مرتبطة بوجود الإنسان. حيث أشار إلى وجود الظاهرة في أميركا اللاتينية، هذا فضلا عن عمقها الزمني مع الفراعنة من خلال الكتابة على جدران الكهوف وتحويل المشاغل اليومية من صيد وغيره إلى كتابة رمزية، فهذا النسق من التوثيق وإن كان غير واع في بعض الأحيان فإن له حضورا تاريخيا مسيرا بمسوغات ثقافية واجتماعية معينة.

 على هذا الأساس فقد حفل التاريخ الإنساني بهذا الضرب من التعبير، وهو ما جعل العلوي يؤسس للفكرة على أساس تاريخي يمهد به لدراسته، لاسيما وأنه اعتبر أن هذه الظاهرة لم تلق حظها من الدراسة وخاصة من الناحية اللغوية والنحوية على وجه الخصوص، لأن هذه الظاهرة قد تم التطرق إليها من ناحية سياقات التعبير البلاغي، فقد أشار إليها الباحث عماد عبداللطيف في إطار تشريحه لخطاب الميادين تحت عنوان طريف اختار له تسمية “حين تكون الحوائط لسان الثورات”.

للشوارع نحوها

بهذا التأصيل النظري يأخذ العلوي بأيدينا إلى دهاليز الكتاب، ليبدأ في استنطاق العلامات اللغوية وغير اللغوية، من خلال ضرب نماذج متعددة وأمثلة التقطتها عدسته اللغوية من مسارح الشارع. ومخافة أن نزج بالقارئ في تفاصيل دقيقة في الكتاب ونحرمه متعة المكاشفة الذاتية، نقترح أن نضع بين يديه بعض الأمثلة التي فككها العلوي من أجل الكشف عن فكرته ومنهجه الذي اتكأ عليه في استنطاق لغة الجدران، ونظامها النحوي الذي ركبت على أساسه.

بوكس

 ويهمنا هنا أن نأخذ بيدي القارئ إلى أمثلة دونتها أيادي الشباب التونسيين على أزقة أحيائه وجدرانها، ومثالنا في هذا الإطار مقتبس من الكتاب، والقائل “لو وجدْنا من يسمعنا لتركنا جدرانكم بيضاء”، حيث ينطلق الكاتب من هذه الجملة ليؤسس فكرته الرئيسية ويؤكد على الأدوار التي تلعبها الجدران في التعبير، فهناك لا شك عقل ناظم يقف وراء ذلك، وهناك أيضا منطق وأساس نحوي ركبتْ وفقه هذه التدوينات.

ويبدو أن هذا المثال خير دليل على أن فضاء الجدران أضحى بديلا شعبيا للتعبير عن الهموم السياسية والاجتماعية، حيث يكشف لنا عن الهوة التواصلية القائمة بين الشباب والسلطة السياسية، وقد اعتمدها العلوي مدخلا إلى التحليل، ليصبح الجدار وسيلة للتواصل والتعبير. وتعتبر عبارة “نحن ملوك الشوارع” المثال الأبرز عن تصور هؤلاء الذين يجدون في الشارع ملاذا تخيليا يفرغون فيه همومهم النفسية والاجتماعية والسياسية.

وفي مرحلة متقدمة عاين الكاتب عبارات أشد تعقيدا، من قبيل “أنقظو ما تبقا من الشباب“ حيث باشرها من مداخل ومناويل متعددة اتكأت على العلوم اللسانية كالتداولية والعرفانية والسيميائية التي تعاين اللغة والصورة والإشارة على حد السواء. فرغم أن هذه الجملة جاءت مشوهة لغويا، غير أن الكاتب وجد لها مدخلا، إذا اعتبر أن اعتماد الظاء المفخمة (وهذا خطأ في الرسم) له اعتبار ذهني ونفسي، وذلك لأن التفخيم الكتابي ينسجم مع الدلالات والاعتبارات التي يريد القائل تبليغها، فالتكثيف الكتابي يتساوق مع التكثيف الدلالي وهنا تتلاحم الكتابة المعجمية مع الدلالة.

وقد عول الكاتب أيضا على ما أسماه “التناص الجداري”، رغم ما في هذا التناص من اختلاف عن التناص الأدبي، حيث اعتبر أن هذا الضرب من التناص قائم على تحريك الكلمات من مكان إلى آخر مع بعض التحويرات، وقد استدل الكاتب هنا بعبارة “الصعاليك” التي استعملت في أكثر من موضع جداري وتحولت وتطورت في سياقات دلالية أخرى. ولهذا فنحن نشهد تحويرا للكلمة.

“صالعليك لكن مثقفوان” هذه الجملة التي تشكلت تشكيلا لغويا مشوها ليست خارج المعطى الدلالي وإنما تخفي وراءها فكرة، فأول الأشياء أن الذي كتبها اثنان (مثنى) ويظهر ذلك من خلال مثقفوان، أضف إلى ذلك أن دلالتها قائمة على اعتبار رد الفعل إلى طرف معين وربما هو المجتمع ونظرته إلى هؤلاء، فقولهما “لكن مثقفوان” تكشف عن عقلية المدون الذي يعتبر أن الصعلوك ليس مثقفا، وثانيا هي موجهة إلى من يحتقر هؤلاء ويزدريهم. فضلا عن هذا اهتم العلوي بما أسماه الاستعارة الجدارية أو التشبيه الجداري ضمن هذه التدوينات، زدْ على ذلك ما يعرف بأعمال الكلام وقيمتها اللغوية الإنشائية.

بناء على هذه المداخل اللغوية التي استند فيها العلوي على أعرق النظريات اللسانية الحديثة، فكك لنا لغة الجدران كاشفا عن نحوها الخاص الذي اعتمده المدونون، لتصبح الجدران “أشبه بصفحات متراكمة من سجلات التاريخ كل سجل يخلد لحظة تاريخية خاصة في مسار الثورة وتطور خطابها”..

النحو ومعايشة المجتمع

◄ طفرة لغوية صاحبت بزوغ الاحتشاد الثوري
طفرة لغوية صاحبت بزوغ الاحتشاد الثوري

لم يكن لكتاب “نحو الشوارع” أن تبنى معالمه لولا وجود سياق عام سمح باقتناص هذه الفكرة، فقد تشكلت أطروحات هذا المصنف في إطار طفرة لغوية صاحبت بزوغ الاحتشاد الثوري في تونس زمن الثورة، حيث اجتاحت اللغة أكوان الأزقة والشوارع وارتسمت على الجدران تعبيرا عن حالة لغوية وبلاغية جديدة.

في هذا الفضاء والميدان اللغوي الجديد تحررت اللغة من سياسات القول المضبوطة وتخلصت من ذلك الطابع الرسمي، لتستوطن بين أيدي العامة يحرّرونها على الجدران وفق مع يتماشى مع أهوائهم وعواطفهم، وقد عبّر العلوي عن هذا الاعتقاد في جدوى خروج النحو من منطقه الأكاديمي ليعايش اللغة اليومية، فقد صرّح قائلا في مقدمة الكتاب “لقد كنت أشعر كل مرة وأنا خارج من الكلية أنني تارك نحوي فيها، أقصد روحي العلمية، فالنحو الذي نشرت فيه كتبا ومقالات وغير ذلك، بل وكتبت فيه قصصا منشورة، ودرّسته لأكثر من ثلاثين سنة، يكاد يكون ليس منّي رغم متابعته لي كظلي، فهو حبيس الجدران التعليمية، وهذا ضروري، غير أنه يأمل أن يواصل حياته، يسكن المدينة، ويرتاد الأسواق، ويمشي في الأزقة ويحادث المجتمع ويسأله مشاغله وهمومه”.
صفوة القول لقد أخرج العلوي النحو من بوتقة القواعد الصارمة والضوابط الملزمة إلى فضاء دراسة الظواهر المجتمعية، وهذه الفكرة تتنزل ضمن مشروع علمي بدأه بكتابه “النحو والسعادة”. وهي محاولة تعبر عن هم أكاديمي وإنساني، حيث وضع صاحب “نحْو الشوارع” الكتابة الجدارية على مجهر البحث اللساني، لتخرج معه اللسانيات من مدرج الجامعة والواقع الأكاديمي وتلامس حياة الناس في الشارع، فتنصت إلى هدير اللغة عندهم.

وقد برز لنا الرهان الأساسي في هذا الكتاب متمثلا في كيفية إخضاع ظاهرة هامشية غير مقننة إلى علم قائم الذات، وهو علم النحو، وهو رهان نعتقد أنه صعب من زوايا متعددة، حيث نبدو وكأننا أمام تطويع للقوانين النحوية الصارمة لتضبط فوضى الكتابة الجدارية المتحررة من القيود والرقابة، أضف إلى ذلك أننا أمام ظاهرة استدعت من الكاتب ابتداع مصطلحات جديدة تضبطها، حيث نجد في الكتاب مصطلحا مهما وهو عصب التحليل، وهذا المصطلح  “Grafmaire” أضف إليه مصطلحات من قبيل التناص، والتشبيه الجداري، الاستعارة الجدارية… إلخ.

لقد بعث هذا المصنف برسائل كثيرة إلى القراء، وأثار قضايا عديدة تستحق النظر والتمحيص، ولعل أهم ما يمكن أن نتفطن إليه في هذا السياق من القول أن ما يكتبه العوام على جدران الشوارع ليس مفارقا للواقع وللنحو، بل نحن إزاء كتابة تخضع إلى قوانين تحتاج من يستنطقها، وهذا الرأي يجرنا لاستحضار قضية العامية في البلدان العربية في علاقتها باللغة الفصيحة، حيث نرى أن الكتاب يؤكد على أن العامية ليست كائنا لغويا غريبا عن اللغة الفصيحة، وإنما هي سليلتها وتتكئ عليها في بناء صرحها ودلالتها.

وبخلاف هذا يلفت الكتاب النظر إلى أن البيئة الثقافية لها دور أساسي في صياغة المعطى اللغوي، فما تنتجه الذوات في الشوارع من لغة هو نتاج الواقع الثقافي والسياسي الذي تحياه. وهو بهذه الفكرة يقودنا إلى القول إن اللغة ليست منعزلة عن واقعها، فهي تتطور وتتعايش معه، بل وتنخرط في التأسيس والتقويض.

لقد استطاع كتاب “نحو الشوارع” أن يسلط الضوء على قضية مهمة في الواقع العربي والتونسي على وجه التحديد، حيث رصدت عدسة صاحبه قضية هامشية وهي قضية الكتابة الجدارية، التي تحمل في مظانّها قضايا لغوية وثقافية، ولعل الأساسي في هذا كله أن اللغة ليست ملْك الفصيح ولا الجامعي ولا صاحب القلم الفياض، وإنما هي عون للجميع، فقط تنتظر من يقودها إلى الفعل والقول حتى تثور وتفصح، وهذا ما كشفته كتابة الجدران التي حررت اللغة من أبراجها العاجية الجامعية إلى فضاء الشوارع والناس لتصدح ببعض ما تريد العوام ولو بشكل خاص ونحو خاص.

وتبقى في النهاية الإشارة إلى أن أهمية هذا الكتاب وغيره من الكتب التى تبحث في لغة اليومي، ترتقي إلى مصاف الوثيقة التاريخية التي تحتاجها الأجيال القادمة في بلورة تاريخ خاص بها والاطلاع على منجزها، فنحن الآن نشهد طفرة لغوية وبلاغية، ولعل بلاغة الجمهور التي وضع أسسها الباحث عماد عبداللطيف تأتي في هذا السياق من موجة التجديد النحوي والبلاغي التي تحاول أن ترحل وتستدرج هذه العلوم لمحايثة اليومي وتنبيه القارئ والإنسان إلى جدوى العلوم وإحيائها عوض ركونها في تاريخ وماض لا يتحرك.

خروج النحو من منطقه الأكاديمي ليعايش اللغة اليومية

 

9