تيفو فريق الترجي التونسي درس بلاغي ورسائل إنسانية في قالب فني

من الخطأ الاعتقاد بأن جماهير كرة القدم غارقة في شحناتها العاطفية بعيدة عن كل معرفة أو ثقافة أو تاريخ أو واقع، فلقد أثبتت المدرجات العكس، إذ تتشابك الجماهير في أهازيجها وتعبيراتها الفنية من رسومات وألوان وموسيقى مع الواقع وأحداثه، كما تقدم رسائل وخطابات تاريخية وثقافية وسياسية واجتماعية قد يعجز عنها غيرها. وهذا ما قدمته جماهير نادي الترجي التونسي مؤخرا.
شاع في الاعتقاد أن جماهير كرة القدم مجتمعات مارقة خارجة عن حدود الأخلاق وأن ما تأتي به من أفعال وأقوال خارج عن المألوف ومفسد للذوق العام، وقد استوطنت هذه الفكرة عقول الكثيرين، وبات القول الفصل إن كرة القدم “أفيون الشعوب” وإنها وسيلة إخضاع وإلهاء، غير أن المتابع لخطاب هذه الفئة المنبوذة، في المجتمع العربي على وجه التحديد يلاحظ تطورا في الفكر والنظر ووعيا بسلطة الخطاب ودوره في بناء التصورات والأفكار والانخراط في قضايا المجتمع المحلية والإقليمية والإنسانية.
ولعل ما يؤكد كلامنا، هذه الطفرة من الخطابات (شعارات، تيفوهات، أهازيج وأغان) التي غزت ملاعب كرة القدم في الآونة الأخيرة، وكانت دليلا واضحا على منعرج في صناعة المعنى وعلى أننا بإزاء لحظة فارقة تمسك فيها الجماهير والفئات المهمشة بزمام القول والفعل.
رسائل بلغتين
لست بهذه المقدمة التوضيحة مجرد منتصر لخطاب الملاعب، وقد أخذه الشغف بها ذات يوم، وإنما أعاينها من باب التخصص بوصفي باحثا في البلاغة وتحليل الخطاب أولا، ومنشغلا ببلاغة الجمهور ثانيا. ولا أخفى سرا حين أقول إنني بدأت في تفكيك هذا الضرب من الخطابات منذ كأس العالم قطر 2022، وصولا إلى ما يُنتج من خطابات تفاعلا مع حدث طوفان الأقصى في الكثير من الملاعب العربية والعالمية.
أما عن جماهير “المكَشْخَة” وهي التسمية المشهورة لفريق الترجي التونسي، فإن لي معها قصة وحكاية أخرى بدءا من مجشع في ملاعب تونس مرورا بمحب لها وصولا إلى باحث في اللغة والخطاب يتلقف ما تنتجه الجماهير تعبيرا عن جملة من القضايا.
وما لا يعرفه الكثير أن جماهير الترجي قد بدأت رحلة النضال داخل الملاعب منذ انطلاق عملية طوفان الأقصى، رغم أن شعارات التعاطف مع فلسطين قديمة بالنسبة إليها، فقد شهدنا ميلاد خطاب المقاومة عندهم من خلال رفع شعار “الوطن أو الشهادة” (patria o martirio) أو شعار من قبيل “سننتقم للأطفال” مع رفع جواز سفر دولة فلسطين تأكيدا على الانتماء، وصولا إلى شعارات المقاطعة تحت شعار “المقاطعة مقاومة” مع رفع لافتات لمنتجات غربية يجب مقاطعتها، وغيرها من شعارات.
كل هذه الشعارات والتيفوهات لم تجد حظها وسبيلها للوصول إلى المتلقي بالشكل الكافي، ولكن أخيرا لفتت “دَخْلة” (وهي تسمية على الاستعراض الذي يقدمه الجمهور بالأغاني واللوحات قبل بداية المباراة) جماهير الترجي ضد النادي الأهلي المصري في نهائي رابطة الأبطال الأفريقية أنظار الجماهير العربية والعالمية، وهذا ربما عائد إلى مضمون الدخلة في حد ذاتها، حيث لامست وجدان المتلقي بعمق رسائلها، ثم إلى طبيعة الحدث وسياقه (نهائي رابطة الأبطال). ما يهمنا في هذا المقال المقتضب هو طبيعة الرسائل التي حملتها التيفوهات وأهم الأفكار والهموم التي أرادت الجماهير التعبير عنها.
سأبدأ الحديث من منطلق نظري، وهو أن ما فعلته جماهير الترجي ينتمي إلى ما يُعرف ببلاغة جماهير كرة القدم، وهي بلاغة تحاول أن تؤسس لمنطق قدرة الجماهير في التصدي إلى الخطابات السلطوية ومقاومة كل ما من شأنه أن يمارس عليها قهرا وظلما، فما تنتجه هذه الفئات المهمشة هو في الحقيقة بلاغة قائمة الذات، ولها أسس ومعارف ولها هندسة تركيبية وسيميائية ما يجعلنا نقر ببلاغتها وعمقها.
لنعد إلى أصل الحكاية، حيث افتتحت جماهير الترجي يوم السبت الثامن عشر من مايو 2024 “دخلتها” أمام النادي الأهلي المصري، بإعلان كبير مكتوب باللغة الإنجليزية (free land in an occupied world)، “أرض حرة في عالم محتل”، مسنودة بعنوان فرعي “هذه هي قيمنا النبيلة”، وقد كتبتها الجماهير على صورة الجدار العازل بألوان رمادية، في تأكيد واضح على الحصار المضروب على غزة وفلسطين.
ما إن يسقط هذا الجدار المرسوم، حتى تظهر للجماهير عبارة كبيرة كُتبت باللغة العربية “صُنع في غزة” ومن خلفها (MADE IN GHAZA). وهي عبارة معروفة في دوائر الصناعة والبيع والشراء، كدليل على منشأ الصنع، وفيها مقصد ضمني يوطّن اسم غزة ويجعلها موطنا معترفا به في كل العالم، هذا فضلا عن الإشارة إلى أن ما سيُعرض من رسائل ومضامين هو من “غزة المقاومة والصمود”. ولعل من المهم الإشارة بدءا إلى أن رسائل الجماهير تتكئ في مستوى لغتها على المزواجة بين الإنجليزية والعربية في قصد واضح إلى مخاطبة العالم وضمان وصول الخطاب إلى جميع الأطراف باعتبار دور الإنجليزية في العالم.
خلف الجدار العازل، يبدأ سرد الحكاية في منطقة “الفيراج” (منطقة في مدارج ملاعب كرة القدم) حيث تقيم جماعات الألتراس محفلها. هناك سنجد ثلاث صور موزعة بالعرض، يتوسطها شيخ كبير وهو خالد نبهان مع حفيدته ريم “روح الروح” والطبيبة أميرة العسولي، التي ضحت بنفسها وتحدت رصاص الاحتلال لإنقاذ شاب فلسطيني، هذا فضلا عن إيصال رسالة إنسانية من خلال الصورة الثالثة التي تُظهر أحد عناصر كتائب عزالدين القسام في معاملته مع أسيرة إسرائلية مسنة، وقد صاحبت هذه التيفوهات الثلاثة عبارات ثلاث عميقة وهي “إنسانية مسكوت عنها”، “إيمان لا يتزعزع”، “شجاعة مكشوفة”.
البلاغة المقاومة
على الجانب الآخر من الملعب (الوسط) رفعت الجماهير تيفوهات رمزية، تتطلب في تفكيكها عمقا سيميائيا ومعرفة ودراية بالكثير من المسائل التاريخية والسياسية، وقد تصدرتها رسالة عميقة وهي “كن على الجانب الصحيح من القضية” (BE ON THE RIGHT SIDE OF HISORY) ويمكن لنا أن نفكك هذه التيفوهات وفق جزأين باعتبار وجود فاصل بينهما رغم وحدة الموضوع، حيث وزعت جماهير الترجي تيفو وسط الملعب على لافتتين كبيرتين احتوت ثماني شخصيات أيقونية ذاع صيتها في أحداث طوفان الأقصى.
فمن اليمين إلى اليسار نجد صور شخصيات عربية وغير عربية احتفاء بها نظرا إلى مواقفها المناصرة للقضية الفلسطينية وفلسطينيي غزة، حيث شاهدنا صورة الدكتور الجراح غسان أبوسنة، المعروف بطبيب الحروب، في إيحاء واضح إلى الأدوار التي يلعبها أطباء الحروب والأزمات في الدعم والمقاومة، وبجانبها وُضِعت صورة لمشجع من جماهير نادي سيلتيك الأسكتلندي، وهو جمهور لطالما تغنى بالقضية الفلسطينية وتحدى السلطات في الغرب ورفع كثيرا من اللافتات المقاومة.
كما تصور طلبة الجامعة الأميركية، ممثلين في الصورة من خلال شابة تحمل لافتة مكتوب عليها “أوقفوا الإبادة الجماعية”، وحضورها في هذا المشهد تكريم واعتراف بالجميل لطلاب الجامعة الأميركية الذين نظموا وقفات داخل الجامعات مساندة لفلسطين. وصولا إلى صورة رئيس كولومبيا غوستافو بيترو (Gustavo Petro)، إشادة به وبمواقفه النبيلة وخاصة موقفه من خلال قطع العلاقات مع الكيان المحتل.
أما التيفو الثاني فتتصدره من اليمن إلى اليسار، المحامية عدلية هاشم من جنوب أفريقيا لدى محكمة العدل الدولية، كدليل على دور القضاء في رفع راية الحق، وفيها إشارة إلى الأدوار التي تلعبها جنوب أفريقيا في القضايا العادلة، وبجانبها نجد شابا يرتدي عمامة يمنية في إشارة واضحة إلى موقف اليمن من القضية الفلسطينية، وصولا إلى الصحافي البطل صالح الجعفراوي، في غمزة نضالية إلى دور الصحافيين الشرفاء الذين يخاطرون بحياتهم من أجل إيصال الخبر الصحيح، وصولا إلى أنطونيو غوتيريش أمين عام الأمم المتحدة واستحضاره في هذا المشهد لفت النظر إلى الدعم السياسي، هذا فضلا عن وجود مجموعة من الأعلام الصغيرة لدول ساندت القضية الفلسطينية مثل الكاميرون والجزائر وجاميكا وتشيلي وليبيا وتونس… إلخ.
مع كل هذا لاحظت الجماهير المتابعة للمباراة وجود لافتة كبيرة في عرض الملعب، كُتب عليها باللون الأسود (We stand with palastine)، “نحن نقف مع فلسطين”، في خطاب واضح المعالم، دون مواربة أو خوف، والطريف أن هذا الخطاب يمكن أن يحلل وفق لغة الضمائر، فـ”نحن” هنا تعود إلى جماهير الترجي التونسي، وإلى جماهير تونس ككل، التي رفعت شعارات مساندة لفلسطين في الكثير من المحافل الرياضية.
طبيعة التيفوهات وعمق الرسائل والمضامين، جعلت “دخلة” جماهير الترجي التونسي تصل إلى العالم، وتتفاعل معها الصحف العالمية، وهذا هو مربط الفرس، حيث شكر الرئيس الكولومبي جماهير الترجي في حسابه الخاص، وتفاعل الأخوة في غزة مع الحدث، هذا فضلا عمّا أحدثته بلاغة المدرجات من رجة في نفوس الأكاديميين والمتابعين للمذابح بصمت غريب، واضعة الكل في مفارقة عجيبة مفادها أن هذه الطبقات المهمشة والتي نُعِتت ذات يوم بكونها طبقات مارقة خارجة عن الذوق العام، هي من تحمل لواء التغيير، وتصدح بصوت عال نحن هنا في حضرة البلاغة المقاومة.