لعبة الخارج والرهانات الخاسرة في تونس

الرئيس سعيد يحتاج أن يستمع إلى الأصوات التي تقول له إن الوقت ليس وقتا للتغيير الجذري وأن النظام المجالسي سيفضي إلى نفس نتائج النظام السياسي الهجين الذي حكم من 2012.
الثلاثاء 2022/03/29
الحوار المشروط

بعد زيارة نائبة وزير الخارجية الأميركي عزرا زيا إلى تونس وبعض لقاءاتها المثيرة للجدل نشط الحديث في ساحة المعارضة عن دور خارجي لتعديل فلسفة قيس سعيد في الحكم، والدفع إلى انتخابات رئاسية وتشريعية سابقة لأوانها. كما نشط الحديث عن “عودة البرلمان” إلى نشاطه بشكل افتراضي في خطوة أولى من خلال اجتماع مكتب المجلس، وفي خطوة ثانية التحضير لجلسة عامة.

وإذا كانت هذه العودة جزءا من أحلام راشد الغنوشي رئيس البرلمان المجمد، فإن الجديد هو البيان الذي وجهه 27 نائبا من كتل عرفت بمناوأتها للنهضة، وأنها لم تنتقد إجراءات 25 يوليو التي قام قيس سعيد بها وأدت إلى تجميد البرلمان ورفع الحصانة عن النواب، وتنتمي هذه الكتل إلى مشتقات نداء تونس التاريخي (تحيا تونس، وكتلة الإصلاح، والكتلة الوطنية)، وبعض المستقلين.

ودعا هؤلاء النواب إلى عقد “جلسة برلمانية تشاورية” من أجل التوصّل إلى “حلول دستورية” لوضع حد للإجراءات الاستثنائية التي وضعها الرئيس سعيّد.

وتضمّن البيان دعوة إلى بقية النواب للالتحاق بهذه “المبادرة” و”تحمل مسؤوليتهم التاريخية ووضع أسس لفتح حوار وطني”.

وإذا كان سعيد قد قابل الحديث عن اجتماع البرلمان بأسلوبه الساخر المعتاد حين قال “فليجتمعوا في مركبة فضائية، وقراراتهم خارج الفضاء، والبرلمان مجمّد ومغلق ولا رجوع إلى الوراء”، فإن أوساطا سياسية تونسية مطلعة تقول إن محاولة إحياء الضغوط الخارجية قد نشطت في الفترة الأخيرة، وأن لقاءات واتصالات من “معارضين” قد جرت بهدف تحريض سفارات دول غربية مؤثرة لأجل الاشتغال على وضع تونس كقضية خلافية خاصة في ظل تمسك سعيد بإغلاق الباب أمام أي تدخل أجنبي ظاهر أو خفي في ما يتعلق بالتغييرات السياسية التي يقوم بها

تعديل النظام السياسي أو قلبه رأسا على عقب مسألة تعني السياسيين فقط، وتحقق لهم مجدهم، وتوفر لهم مداخل لإحكام السيطرة على الحكم، لكنها لا تعني شيئا للناس

وتقول هذه الأوساط إن تقاطعا يحصل حاليا للضغط على قيس سعيد في ظل الأوضاع الصعبة التي تعيشها البلاد على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، وأن هناك مساعيَ لإقناع دول بعينها بمقايضة القرض الذي تنتظره تونس من صندوق النقد الدولي بـ”إصلاحات سياسية” تعيد البلاد إلى مربع الأزمة السابقة بالدفع نحو انتخابات مبكرة تنتج برلمانا متشظيا وصراعا جديدا مع مؤسسة الرئاسة.

ويستفيد هؤلاء المعارضون من مواقف الاتحاد العام التونسي للشغل لإقناع محاوريهم في السفارات بأن الوضع صعب، وأن الخلاف مع قيس سعيد اتسع ليشمل الاتحاد الذي مثل رمانة ميزان في السنوات الأخيرة ومنع البلاد من السقوط في الفوضى الاجتماعية والأمنية.

وأعطى لقاء الأمين العام نورالدين الطبوبي مع نائبة وزير الخارجية الأميركي زخما للمراهنين على الخارج كونه حصل بشكل علني وأشادت فيه المسؤولة الأميركية بـ”دور اتحاد الشغل التاريخي في كل الأزمات التي مرت بها تونس”، في الوقت الذي تقود فيه نقابات الاتحاد سلسلة من الإضرابات في مجالات حيوية، وما حمله هذا اللقاء من إشارات دعم لهذه الإضرابات ولخطاب التصعيد ضد قيس سعيد وحكومته وإفشال مساعيها لعقد اتفاق حول الإصلاحات الاقتصادية مع صندوق النقد الدولي يحقق من جملة ما يحقق استمرار حكومة السيدة نجلاء بودن و”انتصارا رمزيا” للرئيس سعيد يقوي مسار تغيير النظام السياسي.

ويتم استثمار الأزمة الاقتصادية الخانقة وما تبعها من غلاء للأسعار ونقص المواد الأساسية المعروضة في السوق للضغط على قيس سعيد وإقناع السفارات بأنه ليس رجل المرحلة، وأنه يعطي الأولوية لمشاريعه السياسية على حساب تحسين أوضاع الناس.

طبعا هي كلمة حق أريد بها باطل، فالأزمة بكل تفاصيلها ليست من صنع قيس سعيد، بعضها صنعته السياسات الفاشلة للأحزاب التي حكمت، وخاصة حركة النهضة الإسلامية التي استمرت في الحكم منذ 2012 بشكل أو بآخر، وكانت فاعلة من وراء الستار ودعمت رؤساء الحكومات في البرلمان. وبعضها الآخر تصنعه الأزمة الاقتصادية الدولية، وينتظر أن يزداد تعقيدا مع استمرار الحرب في أوكرانيا، وخاصة على المحروقات والقمح.

ويراد من كل هذه الضغوط جر سعيد إلى “حوار وطني” للخروج من الأزمة. وأيا كانت مسميات هذا الحوار فإن الهدف منه هو إضفاء مشروعية على الأحزاب التي أهملها قيس سعيد، وإعادة إنتاج المنظومة القديمة (2011 – 2021) التي قادت البلاد إلى الفوضى السياسية وراكمت من تعقيدات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية.

أهم شروط الحوار أن تكون كل جهة مستعدة للتنازل عن أفكارها وتصويب زاوية رؤيتها للحل، وهذا التنازل يسهم فيه الجميع ولا يضغط على جهة واحدة لتنفيذه

والملاحظ هو تكرر الدعوات إلى “الحوار الوطني”. وإذا كانت أبرز الدعوات قد صدرت باستمرار من اتحاد الشغل وهدفت بالأساس إلى إعادة الاتحاد إلى قلب السياسة وإعطائه مفاتيحه كما حصل ما بعد 2013، فإن تحرك النواب المناوئين للنهضة في هذه اللحظة، وكذلك بعض الشخصيات الليبرالية والعلمانية، ضد سعيد يزيد من الضغوط عليه ويستهدف جره إلى مربع الحوار المشروط.

وفي آخر بيان دعا مجلس شورى حركة النهضة “كل الجهات السياسية والاجتماعية إلى إقامة حوار اقتصادي واجتماعي من أجل الخروج بحلول اقتصادية واجتماعية للبلاد ومن أجل خلق بديل سياسي قادر على إيجاد حلول تخرج البلاد من أزمتها الخانقة”.

والمفارق هنا أن قيس سعيد نفسه دخل إلى مربع “الحوار الوطني” ولكن ضمن مسار 25 يوليو، حيث قال إن “الاستشارة الوطنية، التّي تمّ إطلاقها في منتصف جانفي (يناير) الماضي هي أوّل حلقة في الحوار الوطني”. والحوار عند الرئيس سعيد هو حوار ينطلق من أرضية 25 يوليو وعنوانه التفكير في المستقبل ولا رجوع إلى الوراء بأحزابه وبرلمانه وفوضاه السياسية والنقابية، وهو يتناقض تماما مع الحوار الذي يعرضه الطبوبي، والذي يريد أن يعيد الجميع إلى مربع ما قبل 25 يوليو. حوار لا يغير المحتوى بقدر ما يعيد تحريك رقعة الدومينو فترتج المواقف والمواقع لكن يبقى الفاعلون.

وهكذا، فإن الحوار الوطني لا يعدو أن يكون جبة فضفاضة يلقي بها من يشاء ومتى أراد دون أن تتقدم البلاد خطوة إلى الأمام، في الوقت الذي تحتاج البلاد إلى حوار يقطع مع الاستثمار السياسي ويستهدف أساسا وضع أساسات للحل الاقتصادي والاجتماعي، ذلك أنه لا الديمقراطية الشكلانية الاستعراضية عملت شيئا لإنقاذ الاقتصاد وحماية أوضاع الناس من مخلفات الأزمات، ولا الحكم الذي يراكم الصلاحيات عند جهة واحدة.

أهم شروط الحوار أن تكون كل جهة مستعدة للتنازل عن أفكارها وتصويب زاوية رؤيتها للحل، وهذا التنازل يسهم فيه الجميع ولا يضغط على جهة واحدة لتنفيذه. من ذلك أن الرئيس سعيد يحتاج أن يستمع إلى الأصوات التي تقول له إن الوقت ليس وقتا للتغيير السياسي الجذري، وأن النظام المجالسي سيفضي إلى نفس نتائج النظام السياسي الهجين الذي حكم من 2012 إلى حدود 25 يوليو طالما استمرت البلاد في التركيز على الملف السياسي دون غيره تماما مثلما حصل في السنوات العشر الماضية.

تعديل النظام السياسي أو قلبه رأسا على عقب مسألة تعني السياسيين فقط، وتحقق لهم مجدهم، وتوفر لهم مداخل لإحكام السيطرة على الحكم، لكنها لا تعني شيئا للناس ولا تجلب لهم أي مكاسب. فليس مهما من يحكم، أحزاب متحالفة أم شخص واحد، المهم هي النتائج، والنتائج إلى الآن تهمش الملف الاقتصادي والاجتماعي، وتعالجه بأسلوب ظرفي استعراضي.

9